محمد يونس محمد

شارك مع أصدقائك

Loading

محو واستعادة العالم                                     

فلسفة مجتمع الاستهلاك

هناك وجهة نظر عامة نشترك فيها جميعا ولا نختلف على أي محور من محاورها، فالعالم هو بحد ذاته في مظهره العام أفقيا ولا خلاف على ذلك المظهر فهناك إجماع على تفسير حقيقته من داخلها ومن خارجها، ولا تأويلات بصرية يواجه بها ذلك المظهر، والذي به نلمس وجود الموجود، فالعلم باليقين الذي ندعمها كشخوص ولا نختلف عليه، ومادية العالم في موجود وجوده أزلية، ولا يمكن أن يكون العالم من أثير فقط دون الموجودات المادية الأخرى، وتلك الفكرة لا تحتاج من العقل أي مستوى من التفكير فهي حقيقة صامدة أبديا، تشكل مادية العالم ذلك التوكيد النوعي والعمومي أيضا، فهو نوعي في الاختيار وعام في التزامه الحقيقة التاريخية لمادية العالم، وتفسير أفقية العالم فلسفيا هو كأجراء روتيني، حيث ذلك جانب المسلمات العامة والراجحة بنفسها دون استدلال، والعالم يقابل وجوده المادي بوجود افتراضي كما يسميه شوبنهاور بعالم التصور، وعالم التصور موجودا داخل العالم المادي، وتلتقي فيه الحقيقة واليقين بالتصور والاحتمال، ويرجح في العالم المادي الحقيقة الصامدة ويقينها التام، وترجح في العالم الحسي استدلالات التصور ونظرية الافتراض، ومن يستطيع داخل العالم الحسي أن يمتنع عن القناعة ولا يرجح وجود ذلك العالم المحتمل في نفسه، ونحن أبناء الاحتمال عندما لا نكون نقف على ضفة اليقين، وعالم الاحتمال أو التصور هو العالم الذي يعطي للعلم ذلك الدفق الحيوي، وإذا أدركنا بأن الحقيقة في أفضل امتيازاتها ستكون ناقصة وكمالها نحن نبتدعه وليس هناك أي دليل مادي راجح، والتفسير المعنوي للعالم يتجاوز تلك المسميات، ويكون عبر المستوى الحسي يرسم صورة أخرى للعالم تقع بين السرد الأدبي والفلسفة، على اعتبار أن السرد يمثل ركن الحقيقة والواقع، والفلسفة تمثل أفق النشاط العقلي، وصراحة مهما بالغنا فلا بد من ضفة للعالم، نقف جميعا عليها، نحن من نحيل العالم إلى تصورات واحتمالات، والجهة المقابلة التي تحيل العالم إلى حقيقة ويقين، وإذا كان للفن أن يلعب دوره في تمييز أفق التصور والاحتمال، ويخترع للعالم تلك الضفة العبقة والمثيرة في نمو القيمة الجمالية، وذلك النمو من خلال فكرة أن الفلسفة والفن تكتسبان في تقاليدهما النوعية الجمال، فهما طاقتا المضامين التي لا تهتم لشكل الحقيقة بل لما تنتجه المضامين فيهما، فالحقيقة في الفلسفة والفن ليست تلك الحقيقة المكرسة في الواقع وافق الحياة العضوي، بل هي تلك المهارة النوعية، التي تتمكن الضرورة الجوهرية من بلوغها على الرغم من العناء وتجاوز الأفق النفسي المضطهد للفكر المتطور والخلاق، وأنموذج الفلسفة والفن لا ينتقل للواقع من مثل المضامين العلمية، بل يبقى منحسر في حدود المشاعر الفلسفية والفنية فقط.

تتدفق الأشكال داخل أفق الحياة بتعدد كمي هائل، هو صراحة حسب الرأي الفلسفي المعاصر الانتقال من زيف إلى آخر، أو حسب رأي لنا أكثر اجتهادا، يرى هي ليست سوى مقومات إسراف، الواحد يلغي الآخر، والدليل على ذلك نختار فناء ما بني في ظرف زماني ومن ثم أتت ظروف أكثر معاصرة غيرت شكل الفناء، وتأتي بعدها ظروف أجود وأفضل أيضا ستجعل ذلك الفناء بصورة أخرى، فيما من المؤكد أن المضمون بقي مدة أطول دون تغيير، وهنا يتركز قصد الفلسفة والفن أيضا والأدب في عدم رسم صورة فوتوغرافية، حتى لو تطلبت فطرتنا ذلك، فالفن والفلسفة ليست بوسائل مجتمع، حيث يكون الفن مثالا اجتماعيا داخل برواز، وتكون الفلسفة حكمة اجتماعية في حدود الحتميات العامة، والتنظيم الاجتماعي للحياة هو يدمر نفسه بنسفه ليجد الجديد الأنسب، وهذا الاستهلاك لا تمر به الفلسفة ولا الفن، فالفلسفة نشاط عقلي يتجدد، والفن غايات جوهرية مثلى منذ ماتيس أبدلت لون الحشائش وجعلتها حمراء .

تفسير الحياة البشرية من جهة واحدة يعني إقصاء باقي الجهات، وذلك غير ممكن طبعا، ولكن دراسة كل المستويات بذات الوقت هي تحاج إلى إمكانية تجاوز وحدة الزمن بنسب كبيرة، وعند اختصار العقل لوحدة الزمن يكون ذلك ممكنا، لكن تلك هي عقبة البشرية، والتي تكمن في اختصار الزمن، ونحن نفقد الحافز الضروري لتأكيد الزمن، وذلك كون نمط الحياة بسرعة غير معتادة، وشبكة العلاقات البشرية تجذبنا كل جهة منها نحوها، وكما أن التشكل السطحي للحاجات جاذب للبصر والإدراك على السواء ولا مفر منه، ومتاهة الوضع البشري لا تمهل الشخوص ولا تجبرهم، لكن هم بلا إرادة صاروا يكررون الأفعال، حيث التطبع أصبح وسيلة تأهيل لاستهلاك الحاجات، وذلك في إطار التفسير العام قد أصبح كوحدة سياق دائري أين ما التفت الشخص يجده يسير أمامه، وعليه أن يتبعه مجبورا، وتفضيل التطبع أفضل بكثير من الذهاب إلى متاهة نفسية، والذي نسعى إليه صحوة للإنسان لكن نقر بأنها لا تتحقق إلا بالعصي السحرية، والتي هي (رؤية روحية تغير الواقع وتسمح بتفهمه بعد تجاوز مظاهره) 1، ونحن في هذا الرأي لا نسعى لتعزيز الفشل بمقدار ما نهدف إلى كشف باطن الأمر إلى حد من الوضوح المجدي، وقد نفقد نحن الثقة بالعالم لكن يجب ألا نفقدها بالبشرية جمعاء، فهي خليط غير متجانس بكم كبير من الشر ومستوى أقل من الخير، ونحن لا نريد التوغل في أعماق الفكرة، فهي إذا كانت شكلا ومظهرا وسطحيا تبدو من اليسر بلوغنا من خلالها إلى حلول مناسبة، فالمسألة تختلف إلى حد كبير في الجانب الجوهري، ويشكل انعدام وجود حل جوهري أمرا لا خلاف عليه، وحتمية انعدام الحل مسألة لا تحتاج إلى يقين.

العالم الذي نعيش في ظله وهو أب في أحد التفسيرات المعنوية، والحياة أيضا هي إم في ذلك التفسير المعنوي، والأب والأم تركوا مصاير الأبناء تنحدر حتى أصبحت لا قيمة لها، بل حتى لا أثر مناسب، وانحصر اهتمام العالم بدعم تحول البشر إلى مستهلك مستمر، وعلي وجه الخصوص لما تجسد من مثل طفت فوق السطح البياني، وتلك المثل السطحية مهيأة تماما للاستهلاك، فهناك كم هائل من البدائل، والفرد كوسيلة بشرية أيضا مهيأة تماما للاستهلاك، وقد تطبعت البشرية في واقعها اليومي على تحقيق غايات الاستهلاك، ولا نقصد بالغايات تلك التي تقف وراء ذلك وهي مجهولة إذا وجدت، لكن نقصد في التوازن الاقتصادي بين العرض والطلب، والمشكلة صعب تحديدها هنا كانت في العرض أم في الطلب، وإذا أحلناها إلى العرض، ففقدان الحاجات سيضع الفرد في موقف نفسي متأزم، وامتناع الفرد أيضا سيسبب مشكلة اقتصادية، وللنظر إلى كم الشكائر الهائل وتعدد الأنواع، فهو حتما سيقودنا إلى مشكلة اقتصادية إذا امتنعت البشرية عن التداول، وهنا لا بد من أن نقر بأن المشكلة دائرية في تفسيرها الفلسفي، فجهة العرض توازي جهة الطلب في جانب المشكلة، وكل جهة تمثل أحد الوجوه الأساس، فإذا امتنعت جهة العرض سيصاب الاقتصاد بفقر دم، وإذا توقفت جهة الطلب عن التداول والاستهلاك وامتنعت عن الشراء فسيكون هناك كساد عظيم وخسائر اقتصادية فادحة، بل سينخفض حتما منسوب الاقتصاد، وذلك يعني أن العالم دخل في مشكلة كبرى.

1- واقعية بلا ضفاف – روجيه غارودي – ترجمة حليم طوسون – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر – ص 211

 

 

شارك مع أصدقائك