فاطمة المحسن
يمكن للقارئ المعاصر أن يضع لأسطورة أورفيوس الكثير من التفسيرات التي تجعل منها مادة طوع احتكامات العقل والعاطفة الحديثة، بيد أنها تبقى بين كل الأساطير اليونانية الأكثر عناية بمعضلة الجمال والإلهام وسر السعادة والشقاء اللذين يجتمعان في مكونهما. فأورفيوس بطل الأسطورة اليونانية وهبته الألهة نعمة الخلق الموسيقي، ومنحه أبولو القيثارة السحرية التي جعلت من موسيقاه مصدر نشوة لا للآلهة والبشر فقط، بل للأشجار والأحجار ووحوش الغاب.
في يوم فرحه الأكبر وهو يزف إلى يوريدك، يفقد سعادته إلى الأبد، حيث كان القدر يترّبص عروسه فتموت بلسعة أفعى. لا يستسلم أورفيوس لحكم السماء، بل يجد في إلهام موسيقاه القدرة على استعادة فتاته من مثوى الأموات.
يذهب إلى العالم السفلي ويغري سدنته بألحانه، فيفتح له حارس العالم السفلي الباب ويملي عليه شرطاً واحداً لاستعادة يوريدك، وهو أن لا يلتفت إلى الوراء في رحلة العودة إلى الحياة. يخل أورفيوس بالشرط عندما يرى الشمس فيستدير إلى حبيبته فيبتلعها غيهب الموت إلى الأبد.
ألهمت هذه الأسطورة الكثير من فناني العالم، شعراء وسينمائيين وموسيقيين وتشكيليين. ومُثلت على المسارح بمختلف الأشكال والصيغ، وفي الرومانس الانكليزي في القرون الوسطى صيغت لها نهاية سعيدة. وقدمها كريستوفر كليك كواحدة من أشهر الأوبرات في القرن الثامن عشر، كما أعاد كتابتها جان كوكتو إلى المسرح والسينما، وتشكل التيار الأورفيوسي في الرسم التكعيبي في فرنسا كاتجاه للتعامل مع اللون بحرية وطلاقة. ولعل المغري في هذه الأسطورة ثيمتها التي تدور حول الإبداع والخلق الفني، فهي المركز الذي تتخلّق حوله بقية التصورات قديمها وحديثها.
أورفيوس معاصراً
فرقة الممثلين الجوالين قدمت أورفيوس في لندن على مسرح “الليرك” في “الهمرسميث ستديو” بعد أن عرضتها في مركز صاموئيل بيكيت في دبلن وشارك في ورشة عملها محترفون شباب من فرقة “رتسليب” الدبلنية لفترة تدريب استغرقت سنة بأكملها. وفرقة الممثلين الجوالين تأسست في العام 1978 وهي نتاج تعاون بين فنانين انكليز وايرلنديين ويونان، وتحظى بدعم من السوق الأوروبية المشتركة، ومهمتها إعادة انتاج كلاسيكيات المسرح الاغريقي والعالمي. أعاد كتابة عملها “لورفيوس” كنيث ماكليش وأخرجه القبرصي فيلبو. وهو عمل تظهر فيه النزعة التجريبية تأليفاً واخراجاً وتمثيلاً، ولكن هذا التجريب يعتمد الأصول الأولى في كل خطوة يتتبعها.
شيد الديكور في هذا العمل على المسرح نصف الدائري في “الليرك” ستوديو. وكان في البداية عارياً إلا من أعمدة تنشر بعد حين أشرعة كما السفينة الموشكة على الإقلاع، مع أنْ المكان المتخيل غابة أمام معبد أبولو. ومن خلال التحكّم في الإضاءة وتقسيم مواقع الممثلين والحركة النسبية للديكور، يتشكّل المشهد الشاعري باللونين الأبيض والأسود، وتصاحب هذا المشهد موتيفات موسيقية يونانية بدت لنا خليطاً من إيقاعات تركية وعربية وإن كانت تلك ترتبط بقرابة مع التراث اليوناني الموسيقي.
ومنذ الحركة الأولى التي تعتمد التقسيم السداسي لحضور الممثلين في تناظر متقن، نستطيع أن نلحظ ان المسرحية تقوم على المزج بين الأداء الاغريقي الذي يستلهم فن النحت في حركة الممثل، وبين الاستعراض الراقص الحديث. الممثل حسب الإيقاع اليوناني يتخذ هيئة التمثال الذي تدب فيه الحياة على الخشبة فيتحرك بألية ضمن المشهد الجماعي للفرقة، وهو يستخدم القناع لكي يحجب تعبير وجهه حسب تقاليد المسرح اليوناني. وفي هذا العمل استخدم المخرج الأقنعة بطرق مبتكرة بدا فيها وجه الممثل مشدوداً بشريط يحجب نصف وجهه ويمنعه من إظهار التعبير المباشر، في حين طلى بعض الممثلين وجوههم بالطلاء الأبيض وحجبه بعضهم بنصف قناع…
الهيئة الخارجية للمسرحية التي تعتمد الطقوس شديدة التأثير لأن الفروق الفردية في الأداء تبدو جد ضئيلة أو هي ليست على درجة كبيرة من الأهمية. فالكورس في المحصلة هو البطل الرئيسي، وحتى شخصية أورفيوس لا ترجّح كفته في العرض. حركة الكورس تطغي على الحركة الفردية، فيبدو الأبطال جزءاً متكاملا من مجموع يتناوب فيه بعض الممثلين الأدوار.. ديونيسوس ” إله الخمر” كان على هيئة فتى من عصرنا مخموراً يدخل إلى حفلة عرس أورفيوس، وشخصيته حسب أسخيلوس تمثل ما تعده الأقدار للفتى أورفيوس الذي يقضي وقته في معبد أبولو مقدماً فروض الطاعة. في غمرة الفرح يريد ديونيسوس أن يغيّر أسئلة الحياة لهذا الفتى المكتمل السعادة، والأسئلة الجديدة لا تنبثق إلا عندما يواجه أورفيوس كارثة تهزه من الأعماق ليصبح أبولو سيده موضع السؤال الأهم في المسرحية: على ماذا تقوم إرادته على العدالة أم العبث؟ حينها سيكون بمقدور أورفيوس أن يخطو الخطوة الأولى نحو التحرر من الوهم. والتحرر من الوهم في هذه المسرحية يحتمل في الفن والحياة وجهات نظر مختلفة، ولعل أغلبها تؤدي بأورفيوس إلى الجحود بسلطة أبولو الذي يكتشف إن القسوة لن تؤهله لأن يكون راعياً لإلهامه الموسيقي.
وفي الخطوات التي تقود أورفيوس إلى هذا الاعتقاد يكون فنه وقيثارته موضع تساؤل وجحود من قبله أيضاً: هل المفترض بالفن جلب السعادة للآخرين وحجبها عن مبدعه لو أن الميزان يحتمل التناسب؟
الأسطورة كما الحياة تقبل كل الاحتمالات. تلك المعادلات كانت الثيمة الأصلية لمسرحية قامت على الحوار الشاعري المنطوق والحوار الجسدي الذي تترجح كفته ضمن مشهدية يؤدي فيها الإيقاع الموسيقي وجسد الممثل راقصاً الدور الأهم في العرض. وكان الإلقاء من المشكلات التي واجهها الممثلون الشباب الذين تفاوتوا في مستوى التعبير صوتياً، ولعل انافيرينك الأكبر سناً وخبرة والتي مثلت دور ديمتر آلهة الزراعة أو الخصب كانت الأكثر نجاحاً في معرفتها حرفية الأداء الصـوتي، ولعل أقلهم حظاً في هذا المجال جيري تورنر الذي مثل دور أورفيوس وإن كانت قدرته على التعبير الجسدي غطت على عيوبه الأخرى.
المسرحية عموماً كانت من العروض التجريبية التي توفر لمسرح الشباب فرصة التمايز في اختباراته الأكثر نجاحاً. ليس في الدراما فقط بل في فهم دور الفنون الأخرى ضمن تلك الدراما: التشكيل والموسيقى والرقص.