قراءة في ديوان (أغاني الصَّموت) للشاعر ولاء الصواف
ذياب شاهين
استهلال
يتألفُ ديوانُ الشاعر (ولاء الصواف) المعنون(أغاني الصَّموت) من جزأين، فالأول يتكونُ من نصوصٍ كتبها الشاعرُ باللغة العربيّة، والجزءُ الثاني ينطوي عَلى النُّصوص ذاتِها ولكنّها مترجمةٌ إلى اللغة الإنكليزية، من قبلِ المترجمين محمد العميدي وصلاح السعيد، ولو أنَّني لستُ ضدّ ترجمة النصوص للغةٍ أخرى فهي تستحقُّ الترجمةِ فعلا، ولكنّ الترجمةَ تفقد جدواها وهذا رأيي الخاص لأنَّ الديوانَ يخاطبُ قارئًا عربيًّا على الأغلب، وكانَ يُمكنُ أنْ ينقسمَ الديوانُ إلى نسخةٍ باللغةِ العربيّة يكونُ مخصصًا للقارئِ العربي والثانية باللغة الانكليزية لتكونَ بمتناول القارئِ الأجنبي، ولكنْ مع ذلكَ فالشاعرُ حرٌّ بما فعله وكذلك فالأمرُ ليسَ بالمهمِّ إذا عرفنا أنَّ قراءتَنا ستتناولُ الجزءَ العَربي منه.
عَتبةُ الدِّيوان وَلعبةُ الحواس
تحتازُ العتبةُ (أغاني الصَّموت) على شعريتِها من خلالِ المفارقةِ وغرابةِ قسيمِها الثاني(الصّموت) الذي يبدو ملفوظًا غيرَ شائعٍ ويُستعملُ بصورةٍ قليلة كما هو معروف للقارئِ ومتكلمي العَربيّة، والمفارقةُ في هذهِ العتبةِ تتمثلُ بثنائيةِ ( الغناء – الصمت)، فكيفَ يستطيع أن يوصلَ الشاعرُ أغانيَهِ إذا كانَ صامتًا أوبمعنىً آخرَ كونَهُ ساكتًا، فالأغاني تتطلبُ مغنيًا وهذا المُغنّي يجبُ أن يكونَ صاحبُ صوتٍ شجي ٍّ كي يستمعَ إليه الناسُ، لكنَّ الشاعرَ سيقدّمُ اشتراطاتٍ معيَّنةٍ عَلينا اتباعَها وهي أن نستمعَ إلى غنائهِ بعيونِنا!، وهو هنا يجعلنا أمامَ تبادلٍ وظيفي في استخدام حواسِّنا، أي أنَ نقرَأ ونَستمعَ بالأذنِ والعينِ على التوالي ولكنْ بوظائفَ متعاكسةٍ، فالشاعرُ الحَديثُ يَرى بأذنيهِ ويستمعُ بعينيهِ، لذا ولكي نتابعَ نصوصَ الشاعرِ (ولاء الصواف) فيجب أن نحذوَ حذوَهُ في لعبةِ الحواسِ التي فرضَها علينا( عَلى القارئ)، ولو تجاوزنا المفارقةَ بوصفها إحدى تقنياتِ الشاعرِ إلى ملفوظ(الصَّموت) الذي قلنا إنهُ قدْ أضافَ شعريَّةً مضافةً، فهو بحسبِ القواميسِ العربيّة ينطوي على معانٍ عدّةٍ منها(السكّيت) أو الشخصُ الساكت، والسُّكوت ذاتُهُ لغةُ الحكماءِ عندَما تَتطلبُ المواقفُ الانسانيّةُ ذلك، وقد تكونُ لغةً الصمت قمةِ البلاغة وكما يقول المثلُ( السّكوتُ أبلغُ جوابٍ)، حينما يُحسنُ الانسانُ استعمالهُ واكتفى بهِ بالمواقف العَصيبة، وهنا علينا أن نسجلَّ تحفظًا، فالكلمتان ليستا مترادفتين لحدِ التطابق، فالصمتُ لغةً هو نتاجُ الحكمةِ، لكنَّ السكوتَ لغةً نتاجُ الخوفِ وهذا فرقٌ كبيرٌ بين الملفوظين، وبِالتالي فبلاغةُ الثريّا(العتبة) في هذا الديوان متأتيّةٌ كما أسلفنا من كونِها ثنائيةً مكثفةً ( صوت – صمت) وبِملفوظين أحدُهما واضحٌ جدًا وبصوتٍ عالٍ(أغاني) والثاني غريبٌ وغيرُ شائعٍ وبدونِ صوتٍ( الصَّموت)، ولكنّ هذهِ الثنائيةَ ذاتُ تأثيرٍ إيحائي تقودُ إلى أنَّ صوتَ الشاعرِ يتوجّهُ نحوَ الداخل وليسَ الخارج، وهوما انبجسَ عنهُ الديوانُ وكانَ صعبًا على الشاعرِ أنْ يغنيَها لنفسهِ فسفحَها عَلى صفحاتِ الديوانِ نثرًا لنقرأها بعدَ أنْ فاضتْ من داخلِه متسربةً من أصابعِهِ عل شكلِ كتابةٍ إبداعيَّة تجذبُ القارئَ وتجعلهُ يسيرُ مع الشاعرِ في رحلتِهِ (الرؤيوية/ الحلميّة)، وهي(أي الرحلة) إذا كانتْ تطهيرًا (كما يقول أرسطو) للشاعر فهي خبرةٌ مضافةٌ للقارئِ ونزهةٌ روحيّةٌ مختلفةٌ.
الصَّمتُ والأغاني
تتكرَّرُ ملفوظاتُ معينةٌ في الديوان من مثلِ (الصمت والصموت والأغاني) في صفحاتِ الدّيوان، ولكنَّ هذا التكرارَ يتَّخذُ صورًا متعددةً، أمّا بصورةٍ منفصلةٍ أو عَلى شكلِ تقمّصٍ لأشياءِ الطبيعةِ ومخلوقاتِها(1):
كأيّةِ شجرةٍ أغنّي..
أغنيتي..صمتٌ بارتعاشةٍ خَضراءَ
وهنا يتقمّصُ الشاعرُ روحَ الشجرةِ، ولأنَّ الشجرةَ لا لسانَ عندَها كي تعبِّرَ عنْ مكنوناتِها، فغناؤها صمتٌ مَصحوبٌ بارتعاشةٍ خَضراءَ وهي كنايةٌ جَميلةٌ لحفيفِ أغصانِها الخضراءَ، إذنْ فالشاعرُ يستنطقُ الشَّجرَ وَيرى بأذُنيهِ ويَسمعُ بِعينيهِ ليُترجمَ لنا لغةَ الشَّجرة، وفي الواقع فهو يَتماهى معَ الشَّجرةِ وكأنَّهما شيءٌ واحدٌ.
في مقطعٍ آخرَ يحاولُ الشاعرُ أن يوقظَ ألحانًا منَ الوردةِ، وكأنَّهُ يُريدُ أن يؤنِّبَ الدهرَ على صمتِهِ، ويستخدمُ حاسّةُ الشمِّ دليلًا على استنطاق الوردِ(2):
يا آلهةَ الخصبِ
إشهدي
إني ضفرتُ للوردةِ
جدائلَها
فتنفّسَ العطرُ فيها
وأيقظتُ لحنًا
من بعدِ دهرٍ صموتْ
فالشاعرُ يُمسكُ باللعبةِ الشعريّةِ بإحكامٍ، ويستخدمُ الحواسَ لكي تَتحوّلَ مؤثراتُها إلى أصواتٍ وألحانٍ، علينا أن نعيَ أنَّنا لا نزالُ مع الشاعرِ وهو يَرى الأصواتً ويتنفسُها عنْ طريقِ نَباتاتِ الطبيعةِ (من أشجارٍ ووردٍ)، الوردةُ هنا امرأةٌ جميلةٌ ضَفرَ الشاعرُ جدائلَها، وهيَ برأينا صورةٌ شعريَّةٌ جميلةٌ، فثنائية ُ(الأنثى- العطر) ثنائيةٌ متماسكةٌ سواء أكانتْ هذه الأنثى وردةً أو امرأةً، وبالتالي سيوقظُ هذا العطرُ لحنًا جميلًا بعد أن سكتَ الدَّهرُ وأصابَهُ الخَرس.
في نصِّ(هاليلويا) يَستخدمُ الشاعرُ اللغةَ الدينيّةَ المسيحيّة (والشاعرُ كثرما يستخدمُ اللغةّ المقدسةَ) حينَما تتسربُ ملفوظاتُها لنصِّهِ الشعري، وتكونُ لثنائيّة ( الأغاني – الصمت) نصيبٌ فيها أيضًا حيثُ نقرأ(3):-
سأرسمُكَ بياضًا ناصعَ الوجَعِ
أستعيرُ وجهَكَ لأراني
أمسحُ عن شفتيَّ
غبارَ ليلِكَ
أرصفكَ صراطًا من أغنياتٍ
حجرًا حجرًا
وهنا تفارقُ اللغةُ مدلولاتِها وتنزاحُ بشدّةٍ لمعانٍ أخرى، فالشاعرُ ينصبُ الكمائنَ لملفوظاتِ اللغةِ فتبدو سَعيدةً بثيابِها الجديدةِ، فالأفعالُ ( أرسمكَ، أستعيرُ، أمسحُ، أرصفكَ)، لا يمكنُها أن تتحققَ إلا في الحُلمِ أو في الخَيال، حيثُ نجدُ توترًا ومساحةً فارغةً على قيدِ التحقِّق بين الكلماتِ ومعانيها، وبالتالي فالجملُ لا يُمكنُ فهمَها بِبساطةٍ لأنّها تتوسلُ الخيالَ لكي تّتحقَّقَ، ولكنَّ الشاعرَ وهو يحشِدُ هذه الصورَ المُتراكمة، يَبني لنا طريقاً من أغنياتٍ، ولكنَّ هذهِ الأغنياتِ المَرصوفةَ تبقى صامتةً لأنَّ كلَّ أغنيةٍ لا تعدو عن كونِها حجرًا، وبِالتالي تكتملُ ثنائيةُ (أغاني- صَموت).
وإذا رأينا هذه الأغاني صامتةً وباردةً كبرودةِ الحجرِ، لكنَّها أحيانًا تكونُ حارةً ودافئةً حينَما تَسيلُ من أثداءِ الأمهاتِ وهنَّ يُلقمنَ حلماتِهنَّ في حلوقِ أطفالهنَّ الرضِّع لإسكاتِهم(4):
هاليلويا
أنا غنيمتُك المُثلى
أنمدُّ إليكَ
بولدانٍ من غبشٍ نديٍّ
مثلَ أغنيةٍ تسيحُ من أثداءِ الأمهاتِ
أنمدُّ إليكَ بسيلِ سبايا
جئنَ
من آخرِ فتحٍ للرَّصاص
وإذا كان َ الولدان المخلّدون كاللؤلؤ المنثورِ لجمالِهم في جنّةِ الله الواحدِ بحسبِ ما وُصفوا في القرآنِ الكريم، فهم في قيامةِ الشاعرِ مثلُ غَبشٍ نديّ، وإذا كانَ المؤمنون تنتظرُهم الحورُ العين في الجنَّةِ، فهنَّ سيلُ سَبايا من فتوحاتِ الحروبِ المقدَّسةِ المُزيَّنةِ بصوتِ الرّصاص، فالأغاني الصامتةُ في ديوان الشاعر (ولاء الصواف) إنَّما هي تراتيلُ دينيّةٌ خافتةٌ نَحو الخارج المُتعالي لأنَّها تتوسلُ لغةَ التُّراثِ القّصصي المقدَّس لكنَّها تمورُ بداخلِ النصِّ بصوتٍ عالٍ(صوت الرصاص) متوجهةُ نحو الداخل، حيثُ تنبجسُ على شكلِ صورةٍ ضاجّةٍ في حنايا الشاعرِ التي لا يمكنُ أن يشعرَ بها أحدٌ سواهُ ، وبالتّالي فهي تمثلُ طقوسًا تهفو للربِّ أو منْ يمثُله ُسواء أكانَ نبيًا أو رسولًا أو شخصيةً مُصلحةً(5):
كم من إلهٍ لاذَ بصمتِكَ
واختبأ خلفَ جسدِكَ
من سريرِ بُكائِكَ
أو بَقايا شَظاياك
لحمُكَ الحيُّ خمرُ المَلائكةِ
ورقيّةُ الصِّبيانْ
تتكرّرُ ثنائيةٌ الصَّمتِ وَالأغاني في النصِّ أعلاه أيضا حينما نجدُ الإلهَ المُتعالي صامتًا لتلوذَ بهِ جمعُ الآلهة الأخرى(كم من إلهٍ لاذَ بصمتكَ)، وتختبئَ خلفَ جسدهِ من صوتِ بكائهِ وشظاياهِ، إذن فالثنائيةُ تنبجسُ أيضًا في جملة(من سريرِ بكائِك) واضحةً، فالسريرُ في حقيقتهِ مكانٌ للنومِ أو للراحةِ أو للصمتِ، لكنَّ البكاءَ نَتاجُ الألمِ وبالتالي يمتزجُ البكاءُ بالصَّمتِ ولا نكادُ نميزُهما عن بعضِهما البعض، وهي صورةُ جميلةٌ حقا يستخدمها الشاعرُ أقصدُ(سرير بكائك)، وبالتّالي يتحولُ لحمُ الإلهِ إلى نبيذٍ (تراتيل صوفية) للملائكةِ ورقىً أو تمائمَ للصبيان الصِّغار، ويتحوّلُ الإلهُ الى نذورٍ وتعاويذَ يخاطبُ بها الإنسانُ المقهورُ ربَّهُ المُتعالي.
في نصٍّ آخرَ تحتَ عتبة ( سَهوا… سَهوا لا غير)، نقرأ ثنائية (أغاني- صموت) بما يقابلُها كنائيا، وهيَ تأتي متوحِّدةً عَلى شكلِ جملةٍ آمرةٍ ومعروفةٍ بالتراثِ المقَّدسِ وهي جُملة (كنْ…) حيثُ نقرأ(6):
قالَ كنْ…..!!
كُن نايًا
نايًا لاغيرَ
:
كانَ عليكَ أن تنبتَني قصبةً
:
لذا كُنْ…تُ حجرًا
حجرًا لاغيرَ
هذا المقطعُ عميقُ المَعنى، فهو يَنطوي على الثنائية (الأغاني- الصموت) كما أسلفنا ولكنّها تنطوي أيضًا على رفضِ الأمرِ الإلهي، فحينَما يأتي الأمرُ على شكلِ(كنْ/نايا/ نايا لاغيرَ) يأتي الجواب (كانَ عليكَ أن تنبتَني قصبة)، لذا استحقَّ العقوبةَ على شِكل(لذا كُنْ…تُ حجرًا/ حجرًا لاغيرَ)، حيث استخدم الشاعرٌ الفعل (كنْ…تُ) بطريقة مبدعة وبزمنين الأمر والماضي، وهنا يتساءلُ التلقّي لم فضَّل الشاعرُ أنْ يكونَ قصبةُ وليسَ نايًا، وكلاهُما يُصدرُ أصواتًا أو(يغنّي) بمعنىً آخر، برأينا فالشاعر يَحتفي بالأشياءِ البدئيةِ فالقصبةُ هي أصلُ الناي، وهي تُغنّي بصورةٍ طبيعيّةٍ حينَما تنفخُ الريحُ فيها، بينَما النايُ يَحتاجُ لمنْ ينفخُ فيهِ ليُخرجَ أصواتَه وأغانيَه، إذنْ فالشاعرُ يفضّلُ الحُريّةَ في الغناءِ أي أن يكونَ حرًا في أغانيه وليس عبدًا، وبالتالي أرادَ أن يكونَ قصبةً( أي أن يكونَ أصلًا وليسَ فرعًا)، وحينَما عَصى أمرَ كينونتهِ منَ الأعلى وهو أمرٌ جَبري، تحوّلَ إلى حَجر، وكانَ هيٍّنا عليهِ أن يكونَ حَجرًا حرًا وصموتًا بدلًا من أن يكونَ نايًا مستعبدًا تنفخُ فيهِ حلوقُ العازفين وتَلعبُ في ثقوبِهِ أصابعُهم، إنَّها حريَّةُ الشاعرِ وإصالتُهُ حينَما يحتفي بالأصولِ (أصل الأشياء).
ثنائية (الأسفل – الأعلى)
سننتقل في هذه الدراسة لثنائيّة أخرى تتمثلُ بثنائيّة (الأرض – السماء) أو ثنائيّة (الأسفل – الأعلى)، وهذه الثنائية تأتي بصورة متواشجةٍ وأحيانًا منفصلةٍ، ويعمدُ الشاعرُ لاستخدامِ المخلوقاتِ المنتميةِ لهما من(شجر وورد وطير) للتعبيرِ في نصوصهِ (النثرية – الشعرية)، حيثُ تتكررُ هذه الملفوظاتُ في ديوان الشاعر (ولاء الصّواف)، وهذا التوازي(أي التكرار) يُحيلُ إلى معانٍ مختلفة بحسبِ الوظيفةِ التداوليةِ للملفوظ، وسنبتدئُ بما هو أرضي أي الأسفل.
1- الأسفل/ الأرضي (النخلةُ وحبةُ الحِنطةِ والزهرة)
سنضطرُ للاقتطاع من النصوصِ كي نميزَ (لغرضِ الدراسة) ما بينَ (الأرضي/الأسفل) وبين (السماوي/ الأعلى)، لأنَّ النصوصَ متماسكةٌ وتحتوي على كليْهما، ففي نص(هل تكتم السر..؟)، يتكوّنُ النصُّ من جزأين أحدُهما علوي يقع في بدايةِ النصِّ، ويبدأ من السطرِ الأولِ حتّى السطرِ الخامسِ، والثاني يبدأ منَ السطرِ السادس حتّى السطر الأخير(الرابع عشر) وهو ما سنبدأ فيهِ، حيثُ نقرأ(7):
ونخلتُنا البتولُ
تبدو من بعيدٍ كطفلةٍ تلبسُ لامةَ الحربِ
وتمسكُ بيدِها عشبةَ الخلودِ
أو كزهرةٍ في زيِّ محاربٍ
انتهى عصرُ فتوتِها ليُمارسَ عَليها الموتُ طقوسَ التجلّي
قضتْ وهي تذودُ
عن شرفِ سبعِ سنبلاتٍ خضرٍ
هنَّ كلُّ ما رآهُ ربي
وملفوظات (النخلةُ والعشبة والزهرة والسنبلات) تنتمي للعالم الأرضي، وهي تؤدي وظائفَ شعريَّةً نصيةً تمتحُ من الأسطورة والمقولاتِ المقدَّسةِ، فملفوظُ (النخلةُ البتول) مثلا تذكّرُنا بما نعرفُهُ عن السيِّدِ المَسيح وولادتهِ، وملفوظ (عشبة الخلود) يُذكرُنا بملحمةِ جلجامش، وملفوظ (سنبلات خضر) يذكرنا بقصة يوسف، إلا أنَّ هذه الملافيظَ المركَّبة لا تستخدمُ بشكلٍ اعتباطي بل بشكلٍ (شعري – نثري) مقصود، فالنخلةُ البتولُ نصيّا تنشطرُ إلى دلالتين من خلالِ بلاغةِ التشبيهِ إلى طفلةٍ (تبدو من بعيدٍ كطفلةٍ تلبسُ لامةَ الحربِ) أو إلى زهرةٍ (أو كزهرةٍ في زيِّ محاربٍ)، إنَّ انشطار النخلة هو انشطار أسطوري عندما تكون طفلة تلبسُ عدَّةَ الحربِ (لامة الحرب) دفاعا عن العُشبة لكي تحصلَ على الخلود، أو انشطار ديني عندما تكون زهرةً محاربةً وشهيدةً تمارسُ عليها طقوسُ التجلَّي الدينيّة لكي تَحيا أثناءَ سَنواتِ الجدبِ، وبالتالي فالشعرُ يحدد للملفوظ في الأسطورة وظيفةً الخلودِ وفي الدينِ وظيفةِ البقاء.
في نصِّ آخرَ نقرأ عن الأشياءِ الأرضيّةِ وبِالمعنى ذاتهِ، بما يقودُ الشاعرُ من ضفةِ الأغاني لضفةِ الصمتِ حيثُ يقول(8):
أنا والقصبةُ
بعيدًا
عن حبَّةِ قمحٍ
عن أنَّةِ ليلٍ
عن همسِ صلاةٍ
سأكتفي بآيتين وسِكّين
إليَّ بِلامةِ حَربي
وأسرجوا مُهرَتي الصَّموت
سأقتفي أثرَ نفسي
ولو ابتدأنا من آخر الأسطر نجدُ الشاعرُ يُعِدُّ عدَّتَهُ لكي يقتفيَ أثرَ نفسه، وهذه العدّةُ (لامة الحرب) بحسبِ ما يسمّيها، سيكتفي بها مع مهرتهِ الصَّموت، وبآيتين وسكّين، ولكنَّ الشاعرَ ليسَ لوحدِه بل يقول(أنا والقصَبَة)، وملفوظ (القصَبَة) ذو معانٍ كثيرةِ ذكرنا أحدها في الأعلى، ويبدأ من ساقِ الأشجار المجوّفةِ مرورًا بقصبةِ الصَّيدِ وخصلةِ الشعرِ أو قصبةِ الغناءِ أو تلك التي تستخدم كمقياسٍ لمسحِ الأرض، وهذه كلّها مداليلٌ لملفوظٍ واحدٍ ثريُّ الدوالِ، ولكنّنا أزاء ديوانٍ عنوانه( أغاني الصّموت) فهو سيكون بمعنى قصبة الأغاني ولكنّها القصبةُ الصامتةُ، وهو ما تشي بهِ بقيةُ الأسطرِ حيثُ يذكرُ أنَّهُ سيكون بعيدًا عن حبّةِ القمح(الخبز)، وأنّةِ ليلٍ(الألم) كذلك عن همسِ صلاةٍ(الأدعية)، سيحشِدُ هذه الأشياءَ الأرضيّةَ لغرضِ اكتشافِ شيءٍ غير عادي وفي مهمةٍ عَسيرةٍ وهي اقتفاءُ أثرِ نفسِهِ (المغنيّة الصامتة) وما أعسرَها من مهمّةٍ.
في نص (أسلافي الأعزاء)، نجدُ ملفوظاتٍ أرضيّةً أخرى (كالماءِ والخبزِ والسيفِ والخمرِ)، وهي تحيلُ لما يفتقدُه الشاعرُ وهو (الوطن) حيثُ نقرأ النصًّ كاملا(9):
ليش…….؟
أما كانَ يكفي…؟
الماءُ…الخبزُ
السيفُ والخمرُ…والغواني
حتّى تركتم لي وطنًا
بلا قبلٍ!!!
:
آهٍ….
هذه تنهيدتي ثوابٌ لكم
طابَ موتُكم
وشكرًا
حيثُ يلومُ الشاعرُ أسلافَهُ وربّما أولياءَ الأمرِ المُعاصرين الذينَ أنجبَهم أولئك الأسلافُ وقد تنعمّوا بما هو موجودٌ من خيراتٍ في الوطنِ تكفي الجميعَ وتَفيضُ من( خبزٍ وماءٍ وسيف(سلطة) وخمرٍ ونساء)، لكنّهم تركوا الوطنَ غيرَ آمنٍ ولا يُمكنُ العيش فيه فهو وطنٌ بلا قُبلٍ(محبّةٍ ووئام)، لذا فبعدَ أن تساءَل بكلمةِ (ليش….؟) بالعراقيّةِ المحكيّةِ وهي بمعنى (لماذا)، نجدُهُ يصرخُ بألمٍ وحسرةٍ(آهٍ…)، ويقولُ إنَّهُ يُثيبُهم بِها وأيُّ ثوابٍ مُزرٍ منَ الأحفادِ للآباءِ الأوّلين، ويقولُ لهمْ بتهكمٍ محزنٍ(طابَ موتُكم وشكرًا) وهوَ دلالةٌ عَلى مُنتهى الألمِ والخذلان.
2- الأعلى/ السماوي (اليمامة، السحابة، النجمة)
هنالك أشياءٌ ومخلوقاتٌ يستخدمُها الشاعرُ (ولاء الصوّاف) تنتمي للعالمِ الأعلى/السماوي، وتنطوي عَلى ملفوظاتٍ تتحرّكُ في عالمِ النصِّ حرّةً وتحيلُ لمعانٍ أخرى تداوليًا، ففي نصِّ (هذا أوانُ البنفسج) نَقرأ التّالي(10):
الغيمةُ نسلُ الماءِ
وأنا ابنُها بالتبنّي!
دِثاري الغبشُ
ودُميتي هالةُ النُّجوم
يبتدئ الشاعرُ بجملةٍ خبريةٍ شعريةٍ، ونقطةُ الابتداء هي السّماءُ حيثُ موطنُ الغيمةِ، فهي تتواجدُ بالسّماءِ لكنَّها لا تتواجدُ لذاتِها بل هي نتيجة لتبخرِّ الماءِ لذا فهي نسلُ الماءِ، والشاعرُ يقولُ(وأنا ابنُها بالتبنّي) لذا فهو ليس َابنَها الحَقيقي لأنَّهُ مخلوقٌ أرضي، وبالتالي فهي لكي تلتقيَ به(بوصفهِ ابنَها المتبنى) عليها أن تنزلَ مطرًا لتُرضعَهُ، ولكنّهُ (أيُّ الشاعر) برغم أرضيِّته فهو يتدثرُ بالغَبشِ، ماسكًا بدميتهِ وهيَ هالةُ النُّجوم، هنا يمتزجُ السِّحري بِالطفولي، ويكونُ كلًّ شيءٍ جائزًا، ومن هُنا يتأتى جَمالُ الشعر.
وفي النصِّ ذاتِهِ نقرأ التّالي (11):
هل انشقَّ القمرُ
فأيقظ الصورَ من رقدتهِ
وارتعشتْ كفُّ الحناءِ
على الطور؟؟
حيث يستخدمُ الشاعرُ لغةَ القرآن بصيغةِ سؤالٍ لا أحدَ يُجيبُ عليه سِوى الشاعرِ، إنَّهُ السؤالُ الذي ينطوي على الإجابة بداخلِهِ، فانشقاقُ القمرِ هي إحدى معجزاتُ الرسول الكريم، وهذا يَعني أنَّ القمرَ قد انشقّ فعلًا وسَينشقُّ أيضا عندَ قربِ الساعةِ، وكذلك الطورُ وهو الجبل وقد ذُكر في أماكن مختلفة في القرآن الكريم والكتب المقدّسةِ، وأهمها الجبل الذي كلّم الله عليه موسى(وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا)، وهنالك أيضًا الكفُّ المخضَّبةُ بالحنّاء، وهي ذاتُ مدلولاتٍ سحريَّةٍ وحُلميّةٍ، ففي المنامِ تدُلُّ على الفَرح والسَّعادةِ بحسبِ بن سيرين، وبالتّالي فالقمرُ بوصفهِ تابعًا للأرضِ فهو منتمٍ للسَّماء، لكنَّ انشقاقَه ُ بوصفهِ معجزةً نبويًّة، لهُ تأثيرٌ سعيدٌ على أقدار أهلِ الأرض، إنّ الشاعرَ هنا يُرينا صورًا متعددةً نتيجةً لانشقاقِ القمر ومن نتيجتهِ أنَّ النساءَ يُخضِّبنَ أياديهنَّ بالحنّاء ويطبعنَها على الجبلِ المقدّس، بالواقع ربَّما يكونُ سؤالُ الشاعر منطويًاِ على أمنيةٍ غيرِ قابلةٍ للتحقّقِ، فالشعراءُ كما الأنبياء لهمُ معجزاتُهم أيضًا وهي تضارعُ المقدّسَ في إعجازِهِ، لكنّها تأتي عَلى شِكلِ صورٍ في النصِّ الشعريّ نتيجةً لرؤى الشُّعراء وأحْلام ِيقظتهم الباهرة.
في نص (هل تكتم السرَّ) مرةً ثانية ، وقد تناولنا الجز الأسفل منه سابقا، نقرأ ما جاءَ في الجزء الأعلى كالتالي(12):
ما قالهُ الطيرُ للغيمِ… ما قالهُ الغيمُ لي
وما لم أقلْهُ لنبيِّ بضفيرةٍ حمراءَ يجوب السوادَ
هنا..
رائحةُ البخور تمزّقُ وحدةَ الريحِ
تعلو النذورُ.. ويهبطُ اليمام
وهنا نجدُ حشدًا من الملفوظاتِ المنتميةِ لعالمِ الأعلى/السماء(الطير، الغيم، البخور، الريح، اليمام)، لكنّها تتكثفُ وتمرُّ من خلالِ جَسدِ الشاعر، فالطيرُ هو روحٌ من السَّماء يكلمُ الغيمَ، والغيمُ بالنصِّ هو الرسولُ الذي يكلمُ الشاعرَ، والشاعرُ رسولُ (البينَ بين) فهو مخلوقٌ يسكنُ ما بين الأرضِ والسَّماءِ بحسبِ (هايدغر)، حيثُ يكلمُ نبيًّا بضفيرةٍ حمراءَ ربّما يكونُ المقصودُ به فيلسوفًا معينًا يجوبُ السواد(أرض العراق)، ثمّ يتركزُ المكانُ حينَما يؤكدهُ الشاعرُ قائلًا(هُنا..)، وهو المكانُ الأولُ الذي يفوحُ قداسةُ، حيثُ رائحةُ البخور، التي تشققُ الريحَ بِشذاها(رائحةُ البخورِ تمزّقُ وحدةَ الريح) وهو تعبيرٌ جميلٌ ومعبِّر، حيثُ تعلو النذورُ من أهلِ الأرض استعطافًا للمُتعالي ويهبطُ اليمامُ، وهي صورةٌ مكثفةٌ للتواشجِ الروحي ما بينَ الأرضِ والسّماءِ.
ملفوظ الأرجوحةُ في النص
يبتدئ الشاعرُ الديوانَ بإهداءٍ غير عادي، فهو يُهديهِ قائلًا (إلى/حَبلِ الغسيلِ الأزرقِ لأرجوحتي)، وهو ما يجعلنا نتساءلُ عن مغزى الإهداء، وماهي دلالتهُ، فالأرجوحةُ تقعُ بينَ عالمين وهي معلقةٌ بينَهما، وما من شخصٍ إلا وركبَ الأرجوحةَ في طفولتِه، فهي تحتفظُ بِذكرياتِ الطفولةِ البعيدةِ، وهذه الذكريات ُ قد تكونُ سَعيدةً حينما نركبُ الأرجوحةَ العراقيّة الجميلة وهي خشبةٌ طويلة معلقةُ من طرفيها بين نخلتين، أو قد تكونُ حزينةً حينما نسقطُ من الأرجوحةِ كما حدثَ لي وكُسرت يدي، وليسَ من المستغربِ بعد هذا الإهداءِ نقرأ أولَ نصٍّ يحمل عنوان(الأرجوحة) حيث نقرأ(13):
منذُ خمسينَ قطافًا أو يزيدُ..
أهزُّها مرَّةً..وصوتُ الحربِ يهزُّها ثانيةً
تأخذني للغيمِ
وتعيدُنا إلى الأرضِ الحرامْ
إذن فالأرجوحةُ هي من يمثلُ ثنائية(الأعلى – الأسفل)، وهي من تأخذ الشاعر للسماء حيث الغيم وهي كذلك من تنزله للأرض، فهي بوابةٌ بين عالمين أحدهما متعالٍ(الغيم/السماء) والثاني متهاوٍ(الأرض) وبقدر ما يبدو العالم العلوي شفافا وأبيض كغيمةٍ يبدو العالم الأرضي مخيفا(أرض حرام) كأرض المعركة، الأرجوحة هنا كناية عن الحياة ذاتها وعن رحلتنا فيها فحينما يقولُ الشاعرُ (منذُ خمسين قطافًا أو يزيد..) فالقطاف هنا هو العمر وقد تجاوز الخمسين بقليل، وما أسرعَ العمرَ الذي يتسرّبُ من بين أيدينا كحفنةٍ من الرملِ ولا نشعرُ بهِ، وحينما يقولُ الشاعرُ(أهزُّها مرَّةً..وصوتُ الحربِ يهزُّها ثانيةً)، فهو يُعيدُ لنا ثريّا ديوانِه(أغاني الصموت)، فهو يتوسل السماء حينما يهزُّ الأرجوحةَ بصمتٍ، ولكنَّ الحربَ بصوتِها القاسي والقاتلِ تهزُّ الأرجوحةَ(كناية عن حياةِ الشاعر) بعنفٍ نحو أرضِ الموتِ.
في نصِّ آخر تحت عنوانٍ (اشتهاءٌ متأخرٌ) نقرأ التالي(14):
كأيَّةِ شجرةٍ أغني..
أغنيتي..صمتٌ بارتعاشةٍ خضراء
أرجوحتي..خيالٌ محمومٌ ودمٌ تفرّقَ على سنينَ
وأنتِ التي.. لاأعرفُ أينْ؟
بينَ أصابعي وشفتيكِ لحظةُ اشتهاءٍ
الشاعرُ هنا يُغنّي أيضًا بصمتٍ كالشجرةِ، أمّا الأرجوحة (حياة الشاعر) فهي خيالٌ محمومٌ(متحرك) وهو تشبيهٌ جميلٌ جدًا، وكذلك فهي دمٌ قد تحرّك على السنين، وهوتشبيهٌ آخر لا يقلُّ جمالًا وعمقًا عن سابقهِ، والشاعر هنا بين لحظتينِ من الغناءِ بصمتٍ نحو الخارج، وبين الصمتِ الذي يضجُّ بالحركةِ نحو الداخل، ولكن هذه الحياة لاتخلو من الحبِّ الذي ينبجسُ على شكل ذكرى اشتهاء متأخر، بين أصابعهِ الصامتةِ وشفاهِ الحبيبةِ التي لا تعدمُ الكلامَ لكل مقامٍ.
في نصٍّ آخر بعنوان(فتىً بجناحينِ من فضَّةٍ ولبن)، يتكررُ ملفوظُ الأرجوحة ولكنّهُ يأتي بصيغةِ الجمع الأراجيح، وهو نصٌّ رثائي، حيثُ نقرأ التالي(15):
كانَ صغيرًا
باسم السنبلةِ… قتلوه
…
….
فاستحال أغنيةً تخطفها الطيرُ
وعادتِ الأراجيحُ بلا أغنيةٍ
عاريةً
تخطُّ على الأرضِ
صدى فرحٍ قديمٍ
حيثُ إن الفتى القتيلَ صارَ أغنيةً على ألسنةِ الطيورِ، لكنَّ الأراجيحَ عادت صامتةً وعارية، وهي تتذكر صدى أصواتهِ لتخطّها على وجهِ الأرضِ ذكرى من فرحٍ قديم، إذنْ فالأشياءُ تتذكرُ الموتى وتشعرُ بالحزنِ والفرحِ أزاءَ من فارقوها، والشعرُ عند (ولاء الصوّاف) يلتقطُ بحساسيةٍ مفرطةٍ هذا الشعور الكوني البديع.
الهامش والمتن
هنالكَ نصوصٌ يستخدمُ فيها الشاعرُ تقنيةَ المتنِ والهامشِ، ولكنَّها غيرُ معنونَةٍ، وهذهِ التقنيةُ تذكرُنا بما قرأناه في ديوان (الكتاب) للشاعر أدونيس، ولكنَّ الموضوعَ مختلفٌ، فالشاعرُ(أدونيس) أخذَ شخصيّاتٍ شعريَّةً مُهمَّشةً وانتشلها من الكتبِ القديمةِ ليُسلط عليها الضوءَ، أما عندَ الشاعرِ الصوّاف فهي مختلفة، لأنَّ الديوان يتكلمُ عن أغانيِ الصامتِ، حيثُ بقي وفيًّا للموضوع في معظمِ صَفحاتِ الديوان، ولكنْ علينا أن نبقى بما هو (أعلى/أسفل) وهي الثنائية ذاتها التي كُنّا قد مررنا بها سابقا، فالمتنُ هو الأعلى ويمثل سماءَ النصِّ فهو مكتوب في أعلى الورقة وهو موطنُ الربِّ، والهامشُ يمثل الأسفل حيثُ الأرض التي يسكنها البشر ويفصلُ ما بينهما حاجزٌ أو خط ٌّرفيع كالتالي(16):
حينَ هوى الصلصالُ من فمِ الربِّ..تبسَّمْ..!
سيلُ الهمسِ تبدى
بدفءِ الجسدِ المنحوت
من وردٍ وخمرٍ
وليلٍ صموت
كنصفِ إلهٍ بليد..أنا
وضعتُ يدي على كتفها
وهمستُ
أنت لي..
كم من نصفِ إلهٍ بليدٍ..أنتَ
إذنْ فالصلصالُ يَهوي من فم الربِّ في أعلى النص وهو المتنُ، والشاعرُ نصفُ إلهٍ بليدٍ يقبعُ في الهامش تحتِ الخط الرفيع، في الجزء الأعلى يُخلق الأنسانُ بكلمةِ (كنْ..) فيهوى الصلصالُ ليكونَ جسدا دافئا منحوتا على شكلِ بشرٍ، من وردٍ وخمرٍ وليلٍ صموت(عمر
لا أحدَ يعرفُ مقداره)، أمّا في الجزءِ الأسفلِ فالإنسانُ لا يكتملُ إلا بِأنثاه، فهو لاهٍ يبحثُ عن نصفهِ الثاني، كي تستمرَّ الحياةُ، وبالتالي يبقى الإنسانُ في الأرضِ ويبقى الربُّ في العلى دائما وللأبد.
في نصًّ آخرَ نقرأ التالي(17):
لم أحملْ خشبتي كنبيٍّ
ولا إكليلُ الشوكِ استوقفَ رأسي
فقط
أحجُّ لغيابكم
لأراني
ربّاهُ…
:
أيُّ نصفٍ لي تبقّى…؟
الشمالُ…أكلتْهُ الحرْبُ
اليمينُ…قيَّده الجُناةُ
وأنتِ…كُلي الذي غاب
الشاعرُ في متن النص (الجزء الأعلى) حاجٌ بمرتبةِ صفيٍّ لذلك فقدْ وجدناهُ في مرتبةٍ عليا مع الشهداءِ والأنبياء، الشاعرُ ليس نبيا(لم أحملْ خشبتي كنبيٍّ) وكذلك فهو ليس شهيدًا (ولا إكليلُ الشوكِ استوقفَ رأسي) ، إلا أنهُ يستحقُّ أن يكونَ في المتنِ فهو دائمُ المعاريج والطوافِ لكي يرى نفسَه في ذاتِ الإله، هو مسافرٌ أبدي للاقتراب من المتعالي، لكنَّ الشاعرَ بالرغمِ من رغبته المتعالية فهو إنسان كتبُ عليهِ أن يعيشُ في الأسفلِ(الهامش) تتقاسمه الحروبُ والجناةُ، ولا فسحة لهُ بالفرحِ بل بالحياة ذاتِها حيث تتهددهُ المخاطرُ، فحينَما يسأل (الربَّ) عن أنصافِ جسدهِ، فالحبيبةُ تمثلُّ الكلُّ فبها يكتملُ لينجبَ وتستمرَّ دورةُ الحياةَ، وبرأيي هذا المقطع من أجملِ وأعمقِ مقاطعِ الديوان التي تعتمدُ تقنيةَ الهامشِ والمتنِ.
وأخيرًا ولكي نختتمَ قراءةَ الديوان سنأخذُ المقطعَ التالي(18):
سأكتفي بأن أشيرَ إليكِ
فحينَ تبسمينَ
يبتسمُ الربُّ
ويكتفي بالبسملةِ
واحدةً واحدةً أعدُّها
هزائمي معكِ
وحينَ اكتملَ العدُّ
قلتُ لنفسي
عمتَ مساءً يا أنا
يبقى الربُّ في المتنِ( يبتسمُ الربُّ / ويكتفي بالبسملةِ) ولكنَّ الشاعرَ يبقى محتجزًا في الهامشِ (عمتَ مساءً يا أنا)، وهنا نلاحظُ شيئاً جميلًا فابتسامة الربِّ مرتهنةُ بابتسامةِ الحَبيبةِ، حيثُ يُعطي الشاعرُ للمرأةِ منزلةً كبيرةً، وكأنّما الربُّ يراقبُ الشاعرَ، لكنَّ على العكسِ من ذلك فهزائمُ الشاعرِ لا يتحملُ وزرَها إلا الشاعرُ ذاتُهُ .
الخلاصة
يمكنُنا تأشيرَ بعضَ الملاحظاتِ على الطريقةِ الكتابيّة للشاعر (ولاء الصواف) في هذا الديوان، وهي اعتمادُه على النصوص القرآنية (لغةً وأحداثا وأفكارًا) فهو مشبعٌ بالقصص القرآني ويستفيدُ أيضًا من الملفوظاتِ القارّة والمشهورة في الكتبِ المقدَّسةِ والأساطير، ولا أعني أنه يقلد هذه النصوص بل يخلقُ نصّا خاصًا بهِ يغاير الآخرين ويُطبعُ باسمهِ، ما يكتبُهٌ ليسَ منتميًا لقصيدةِ النثر بقوانينِ (سوزان برنار) المعروفة (من تكثيفٍ ومفارقةٍ ومجانيةٍ)، بل ينتمي للنثرِ المشعرن، قصيدتُهُ الطويلة ليستْ متصلةُ بل تتراكمُ على شكلِ مقاطعٍ(موتيفات ) تتألفُ من عدةِ أسطرٍ، وهذه الأسطرُ تتكون من(1-7) كلمات، ولا تكتمل الجملة لديع في سطر واحد بل ننزل للسطر الذي يبيه، وهو يستخدمُ تقنية التكرار(التوازي) ويطبقُها على الحروف في بعض قصائده من مثل(ياء النداء) وحروف الجر(من، واللام)، أو يكررُ الكلماتِ من مثل(اشهدي) و(انمدًّ) و(هاليلويا)، عوالمُ الشاعر مبنية بواسطة ملفوظات الأشياء فتحفزُ الخيالَ لكي يبني هذه العوالم الشعريّة، لغةُ الشاعر قويّةٌ وتشعرنُ الملفوظاتِ غير المستعملةِ من مثل(الصموت) و(لامة الحرب) وغيرها لتخلقَ فرادتَها ضمن هذا الكمِّ الهائل من الشعراء، عالمه الشعري منشطرٌ إلى عالمٍ أرضيٍ له ولبني البشر وآخرَ سماوي للربِّ ولمنْ يرتضيهم ليكونوا معهُ كالأنبياءِ والشهداءِ والأصفياء.
1- ديوان أغاني الصموت – ولاء الصواف – ط1- دار الصواف – بابل – العراق – 2018 – ص8
2- م ن – ص 13
3- م ن- ص 20
4- م ن – ص20
5- م ن – ص21
6- م ن – ص58
7- م ن – ص23
8- م ن – ص25
9- م ن- ص 58
10- م ن- ص 9
11- م ن- ص 11
12- م ن- ص23
13- م ن- ص7
14- م ن – ص8
15- م ن – ص37
16- م ن – ص62
17- م ن – ص65
18- م ن – ص73