الشاعر اللبناني وديع سعادة
حاوره: أحمد حسو
الشعر لا يغيّر العالم بل يغيّره المال والسلطة والزعماء نحو الأسوأ!
الشاعر اللبناني وديع سعادة من الشعراء العرب المجددين الذين يمتلكون نكهة شعرية خاصة في الأسلوب وفي الموضوعات التي يطرحونها. ورغم بعده الجغرافي عن العالم العربي وتمسكه بالعيش في منفاه الأسترالي إلا أنه حاضر بقوة في الشارع العربي وخصوصاً لدى الشعراء الجدد، أعني شعراء “الموجة التسعينية”، في مختلف البلدان العربية. صدر له حتى الآن أكثر من ثمانية دواوين.
وديع سعادة كان أخيراً في زيارة إلى مدينة كولونيا الألمانية واشترك في مهرجان مشترك مع شعراء أوروبيين. التقيته على هامش المهرجان وكان هذا اللقاء:
* هل هذه أول مرة تلتقي فيها الجمهور الألماني؟
– نعم إنها المرة الأولى التي ألتقي فيها الجمهور الألماني، والفضل في ذلك يعود لمهرجان كولونيا للشعر الذي يتيح فرصة أكبر للتعرف على شعراء آخرين ويكسر إلى حد ما حاجز اللغة وحاجز المسافة بين الشعراء.
* كيف تنظر إلى هذه المهرجانات الشعرية المشتركة، بمعنى أن تلتقي شعراء من لغات مختلفة. ماذا تضيف هذه اللقاءات إلى تجربتك الشعرية؟
– هذه اللقاءات، كما قلت سابقاً، تكسر نوعاً من عزلة الشاعر مع نفسه أولاً ومن عزلة اللغة أيضاً، لغة الشاعر بالنسبة إلى الآخرين. هذا النوع من اللقاءات ينمي مسألة أساسية في حياة الإنسان وفي حياة الشاعر معاً، هي مسألة التقارب الحياتي والإنساني والشعري بين الشاعر والآخرين.
* ديوانك الأول “ليس للمساء إخوة” كتبت الجزء الأول منه في عام 1868 ووزعته باليد عام 1973 ثم صدر أخيراً عام 1981. هل لك أن تشرح لنا هذه المفارقات الغريبة؟
– ديواني الأول هذا كتبته بخط يدي ووزعته عام 1973 بالتبسيط أمام كلية الآداب في بيروت وكذلك في شارع الحمراء. وقد اعتمدت هذه الطريقة لأرى وأختبر كيف ينظر الناس إلى الشعر. وهي كانت تجربة مفيدة لي شخصياً. بعدها أضفت إلى هذا الكتاب – المخطوطة عدة قصائد وصدر بحلته النهائية سنة 1981. أي أن عملية إصداره مطبوعاً دامت اثني عشر عاماً وهو ليس أكثر من خمسين قصيدة. لماذا كل هذه المدة؟ لأني لا أكتب إلا حين تصبح الحالة ملزِمة لي للكتابة، ولذلك كانت هذه القصائد قليلة جداً في مدة طويلة. أي أني لا أكتب إلا حين يجبرني الشعر على كتابته، إنْ أمكن قول ذلك.
* أهذا يعني أنك تعاملت مع القصيدة كمنشور سياسي ووزعتها في الشارع أم أن الناشرين رفضوا أن يطبعوا لك؟
– لا لم أسأل أي ناشر كي يطبع لي هذا الديوان. كما قلت لك سابقاً أردت أن أختبر نظرة الناس للشعر والشعراء، لذا نزلت إلى الشارع وبعته بنفسي.
* هل ترى للشعر دوراً يتجاوز التلقي الجمالي؟ أسأل هذا السؤال لأنك نزلت إلى الشارع ووزعت قصائدك للناس.
– توزيع قصائدي كان اختباراً شخصياً لي. أنا لا أرى أن الشعر سيغير العالم. هو بالكاد يغير لحظة في حياة الشاعر هي لحظة كتابة القصيدة. ما يغير العالم هو القوة والسلطة والمال والزعماء، وللأسف هؤلاء يغيرون العالم نحو الأسوأ.
* هذا يقودنا إلى علاقة الشعر بالسياسة. كيف تنظر أنت إلى هذه الثنائية؟
– إذ كنت تقصد السياسة بمعناها الواسع وليس معناها المباشر فالشعر في هذه الحالة سياسة. وفي النهاية كل شيء يخضع للسياسة بمعناها الواسع: سياسة مفهومنا للحياة ورؤيتنا للأشياء والأمور… بهذا المعنى أرى أن الشعر فعل سياسي إلى حد ما ولكن ليس بالمعنى المباشر للكلمة.
* أنت تعيش منذ وقت طويل في المهجر في أستراليا. ما تأثير المكان الجديد على موضوعاتك الشعرية؟
– لا شك أن للمكان تأثيره على الشاعر وعلى الإنسان سواء كان كاتباً أو لا. يمكن أن يكون وجودي في أستراليا جعل شعوري بالمنفى وبمعنى المنفى شعوراً أقوى، سواء المنفى الداخلي للشاعر أو المنفى الخارجي، أي الجغرافي. فتأثير الهجرة بالنسبة إلي جعلني أغوص أكثر في ذاتي كشخص يعيش في عزلة ودفعني أكثر إلى التفكير في معنى العزلة.
* هل هذه العزلة تقف وراء طغيان الموضوعات الوجودية والفلسفية في قصائدك؟ عندما نقرأ قصائدك نلحظ أن هناك هماً فلسفياً طاغياً عليها. هل السبب هو الغربة أم أنك تسعى من خلال القول الشعري إلى إنتاج منظومة فكرية جديدة؟
– عملية الغوص في هذه الموضوعات هي محاولة مني لإعادة خلق حياة خاصة بالنسبة إلي. محاولة لخلق نموذج حياتي أفضل. إنها محاولة، وغالباً لا تنجح.
* لغتك الشعرية تتأرجح بين التجريد المعقد والتقريرية المباشرة. هذا التغير في اللغة هل هو بسبب تنوع الموضوعات أم أن اللغة تأتي هكذا ككائن منفصل يفرض نفسه؟
– أنا أرى أني حين أكتب، أكتب ببساطة بعيداً عن التعقيد وبعيداً عن التجريد. أما كيف يرى القارئ القصيدة فمسألة أخرى. كل ما كتبته كان عن الأشياء الحياتية وعن تفاصيل تُحسب صغيرة. فأنا أرى أن الإنسان نفسه هو عبارة عن تفاصيل صغيرة، وما كتبته يتناول هذه التفاصيل الصغيرة للإنسان.
* ما هو دور اللغة في هذه الحالة؟ هل هي الإطار الذي يحمل المعاني التي تريد ضخها أم هي النص؟
– اللغة ليست فقط النص، هي الإنسان ذاته. وهي ليست مجرد كلمات، هي حامل المفاهيم. ربما لا يكون هناك موطن إلا اللغة.
* أنت من الرموز المهمة في “قصيدة النثر” العربية، لماذا اختيارك لهذا الشكل بالذات؟
– حين أكتب لا أفكر في أني أكتب قصيدة نثر أو قصيدة عمودية. حين أكتب لا أفكر بالأنواع الأدبية للكتابة. في كتاباتي الأخيرة حاولت أن أتجاوز، أو لنقل حاولت كسر الحواجز بين هذه الأشكال الأدبية، فصرت أكتب نصاً انسيابياً يحمل الشعر والرواية والفلسفة ويحاول أن يكسر هذه الحواجز ما بين نوع كتابة ونوع آخر.
* لكن هذه الحواجز بين الأجناس الأدبية طبيعية وليست مصطنعة. ما هذا النص الانسيابي؟ هل لك أن تفسر أكثر؟
– هو نص غير مقيد بفكرة مسبقة للكتابة أو تقرير شكل مسبق لها. نص يذهب إلى حيث يشاء. لا قرار مسبق أو التزام مسبق بشكل ما للكتابة. هو ترك النص ينساب كما يشاء.
* ما تردد حتى الآن هو أن الشعراء لجأوا إلى “قصيدة النثر” للانعتاق من الوزن والقافية وما إلى ذلك. ما أسمعه منك أن قصيدتك النثرية لا تلقي بالاً لهذه الأمور، فهي عفوية طبيعية متحررة من الشكل. وأنت لا تفكر بالشكل الذي تكتب فيه، كيف تنظر إلى “قصيدة النثر”؟
– “قصيدة النثر” أو القصيدة الحديثة هي ليست كما ظلّ النقاد والشعراء على مدى سنوات عديدة يعنون أن الحداثة الشعرية هي التحرر من الأوزان والقوافي وما إلى ذلك. الحداثة ليست عملية شكلية. هي فهم حديث للكتابة والحياة.
* هل يمكن أن توضح أكثر؟
– أعني أن الحداثة ليست شكلية فقط. قد يكون الشكل من ضمنها لكنه يلعب دوراً هامشياً. عملية الحداثة كما أفهمها تدخل في العمق الإنساني للشاعر وللإنسان في تفاصيل لم يكن الشعر يتطرق إليها في السابق.
* هناك من يتهم شعرك بأنه أقرب إلى الشعر الأوروبي منه إلى العربي، ربما بسبب إقامتك الطويلة في الغرب، أو ربما لأنك تستمد أسلوبك من “قصيدة النثر” الأوروبية. ما هي نسبة شعرك إلى الشعر العربي؟
– أنا مزيج من قراءات عديدة ومختلفة عربية وغير عربية، وشعري هو ابن هذا المزيج المتنوع من القراءات. ولذلك أشعر بأني عربي كما أشعر بأني أوروبي أو أفريقي… أنا أشعر بأني غير منتم إلى قوم بعينه أو إلى بلد بعينه، إنما أشعر بالانتماء إلى الإنسانية جمعاء.
* هل أنت فعلاً شاعر عدمي كما يُكتب عنك؟
– بعض النقاد وصفوا كتابي “نص الغياب” بأنه شعر عدمي أو كتابة عدمية. في الحقيقة لا أعرف إذا كان هناك إنسان عدمي فعلاً بكل معنى الكلمة. لو كنت عدمياً لما كتبت أو لأنهيت حياتي، انتحرت مثلاً.
* لمن تكتب؟
– في الحقيقة لا أكتب إلا لنفسي. وحين أكتب لنفسي أكون أكتب للغير أيضاُ، فمثلي مثل الآخرين. ومن الطبيعي أن تكون الأمور التي تهمني والتي أكتب عنها تهمّ الآخرين. فحين تكون كتابتي ذاتية تكون غيرية أيضاً.
* هل فكرت بإعادة إنتاج تجربة الشعر المهجري، بمعنى هل ترى نفسك شاعراً مهجرياً؟
– لا، لا أعتبر نفسي شاعراً مهجرياً بالمعنى المطروح للشعر المهجري.
* هل لشعرك وشائج قربى وانتماء لمدرسة “شعر” اللبنانية؟
– لا أنتمي إلى أي مدرسة شعرية، لا مجلة “شعر” ولا غيرها.
*-صحيفة “القدس العربي” في 20/11/2000