حوار مع أ.د فرحان باقر حاورته منى سعيد

شارك مع أصدقائك

Loading

 

حوار مع أ.د فرحان باقر

حاورته منى سعيد

الأستاذ الدكتور فرحان باقر

قد يتعرض المرء لهزات والحياة عموماً في صعود وهبوط ، لكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح

كتابي الأول ” حكيم الحكام من قاسم إلى صدام” والثاني لمحات من الطب المعاصر في العراق”

……

اسم لامع في تاريخ الطب العراقي، درس الطب ومارسه ودرَّسه لأكثر من نصف قرن، على يده تعافت أعقد الحالات المرضية وأصعبها تشخيصاً، ذاع صيت علمه حتى حرص أغلب حكام العراق المعاصر، من عبد الكريم قاسم ومن تبعه حتى نوري المالكي، لأن يخضعوا لسماعة تشخيصه ويتطببوا على يده. لذا فأن سيرته العلمية والحياتية الشخصية ، تعد جزءا من مجريات أحداث تاريخية مهمة. ومن يستمع إليه أو يقرأ كتابه سيتوقف عند تفصيلات مذهلة..

يقيم في أبو ظبي وأقيم له حفل توقيع كتابه الجديد ” الطب المعاصر في العراق” بحضور معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التعليم العالي والبحث العلمي الذي تحدث عنه ذاكرا : “أن الأستاذ الدكتور فرحان باقر كان من الذين أسهموا بشكل ملحوظ في ثمانينيات القرن الماضي في وضع اللبنات الأولى في الطبابة في أبوظبي وتطوير الخدمات الصحية، و عمل خلال الفترة من 1983 إلى 1988 رئيسا  للقسم الباطني في مستشفى الجزيرة آنذاك وكان وراء أول مؤتمر طبي ينظم على مستوى الإمارات”.

يصفه الدكتور عبد الهادي الخليلي في مقدمة كتابه ” حكيم الحكام من قاسم إلى صدام ” ذاكرا:لقد كان طبيباً نطاسياً ومعلماً موهوباً يحب أن يهب علمه لكل من حوله ، يقدس المريض الذي هو محور حياته، ويحب التنظيم والنظام والالتزام بالوقت وكذلك التجديد المستمر وتطبيق ما استجد في علم الطب في العالم المتقدم”.

ويذكر أيضاَ:  كان للسنين التي قضاها بعد التخرج مباشرة كمعيد في الفسيولوجي أثر بالغ في رغبته في البحث العلمي العميق وربط العلوم السريرية بالعلوم الطبية الأساسية من خلال عمله الطبي ومن ذلك اهتمامه بالجهاز التنفسي وأمراضه ، حيث استحدث مختبر الفحوصات التنفسية السريرية في المستشفى والذي كان مثالاً لهذه العلاقة التطبيقية بين الطبين السريري والأساسي..” ..

ومن باب الاعتراف بفضل الريادة لابد من تعداد أولويته في مجالات عديدة، فهو الرائد في استحداث الندوة السريرية الباثولوجية في المستشفى الجمهوري ببغداد، وهو أول من بدأ بما يسمى بالدورة السريرية الكبرى التي تُناقش من خلالها الحالات المهمة والنادرة التي تواجه الأطباء المعالجين والتي تحتاج إلى استشارة جماعية.ويشهد له الريادة بتثبيت دستور عراقي للأدوية عملاً بما هو موجود في كل دول العالم المتقدمة وقد صدر دستور الأدوية العراقي تحت إشرافه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وهو من أوائل الذين  استخدموا  الزرع ألمختبري في حالات الالتهاب وعدم الاعتماد على تقييم الحالة السريرية فقط في علاج الحالات الالتهابية.

وفي السبعينات حينما انتشر التسمم الزئبقي في العراق كان من الرواد أيضا الذين قدموا خدمات علمية وبرامج للتعامل مع ذلك الحدث الرهيب بأساليب علمية ناجعة.

أما في مجال الخدمات الطبية فكان الدكتور فرحان قد استحدث أسلوب تحديد عدد المرضى والمراجعين في العيادة الخاصة،واوجد نظام زيارة المريض بموعد مسبق ليوفر لنفسه الوقت اللازم للبحث والاستزادة من العلم ، بالإضافة إلى إدخال مشروع التفرغ التام أكاديميا وسريريا في كلية الطب ببغداد.. وقد تميز فعلا بنشر خمسين بحثاً قيماً في أفضل المجلات العلمية العالمية والمحلية وكان الطبيب العراقي الأول الذي نشر له بحثا في مجلة ” علوم”  الأمريكية ذائعة الصيت.

وعلى الرغم من إنجازاته ، أحيل على التقاعد في العام 1979  مع خمسين طبيبا آخرا من خيرة ما أنجب العراق وهم في قمة عطاءهم إلى جانب  صفوة من العلماء والأدباء والأكاديميين بإيعاز مباشر من الحاكم صدام حسين..  فغادر العراق مهاجرا إلى أمريكا وبقي متنقلا بينها وبين الإمارات المتحدة”..

رحلة طويلة..

تجاوز الثمانين ولم يزل طبيبنا يضج حركة وحيوية متقد الذهن يجيبني بمرح طاغ وأنا أسأله: بعد هذه الرحلة الطويلة من الإنجاز والبحث والسفر ، كيف تنظر للزمن الآن بماذا تفكر؟

                حالياً متقاعد لكني فعّال بطبعي مازلت اعمل وأفكر وأنجز.

 كيف؟

– كنت قد تركت عيادتي الخاصة  في أبو ظبي على مضض بعد أن أصبت بمرض أعاقني عن العمل في العام 2007. ثم عرض علي الأستاذ نوري المالكي العمل مستشارا في الرئاسة عملت مدة قصيرة ثم وجدت نفسي لا استطيع إنجاز عملي على وجه  الكمال والرضا فتقدمت باستقالتي ، كما إن عمري لم يسمح لي بالتدريس في الجامعة بحسب قوانين التعليم العالي. ومع هذا مازلت أواصل العمل بتجميع مصادري وتأليف كتبي ، ومنها كتابي الجديد ” لمحات من الطب المعاصر في العراق”.

أما بالنسبة للزمن فأراه يمضي بسرعة فائقة مثل فلم قد تلخص أحداثه خلال ساعة أو ساعتين. وها أنا انظر لما حدث لي في العام 79 حين أقلت وأنا في قمة عطائي العلمي من قبل صدام حسين ، وكنت أول أسم ضمن مجموعة من أفضل أطباء العراق ، ومازلت أحتفظ بكتاب الإقالة ( ويريني نسخة منه مصورة ومطبوعة في كتابه ” حكيم الحكام من قاسم إلى صدام”) .

من تجربتك الحياتية الغنية أية حكمة توصلت لها؟

لا يدوم إلا الصدق والحق والأمر الجيد. وقد يتعرض المرء لهزات والحياة عموماً في صعود وهبوط ، لكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح كما يقال. لم أجد شيئاً ذي قيمة حقيقية سوى ” الاكتفاء”، وأقصد هنا أن لا يمد الشخص يده لأحد غيره . كما إن الطمع والتطرف في الحصول عليه لم يخطرا في بالي يوماً ما ، والحمد لله لي كفايتي.

* في كتابك الأول ذكرت حادثة تدور حول هدية قدمها لك الرئيس السابق أحمد حسن البكر ، حدثنا عنها

-كنت أنوي السفر لحضور مؤتمر عالمي للتدرن في أمريكا في حزيران 1969 ، ومررت بالرئيس البكر ، لكوني طبيبه الخاص آنذاك ، للسلام والاستئذان ، فطلب مني حينها أن أحاول جلب عدد من الزملاء من الأطباء العراقيين المتواجدين في أمريكا وإقناعهم بالعودة إلى العراق. فسألته ببراءة: ماذا أقول لهم؟ فقال: كما شاهدتنا وعرفتنا سنعطي كل ذي حق حقه ونمح كلا منهم ما يستحقه من لقب مهني أو تدريسي ونسهل له أمور السفر، ثم قدم لي ظرفاً يحوي نقوداً حسب ما يظهر ، فاعتذرت بأدب وخجل واضحين عن قبوله ، لكنه أصر على ذلك ذاكراً بأني قد أحتاج إليه في دعوتهم على العشاء أو الشاي فأجبت بأن لدي من المال والحمد لله ما يكفي وإن فعلت ذلك فسيكون على حسابي الخاص وسأكون سعيدا بذلك. بدا الامتعاض واضحا على ملامحه وليس في كلامه ، ولما دخل عليه الدكتور عزت مصطفى وزير الصحة آنذاك وجده ممتعضاً بعينين حمراويين دامعتين كما أخبرني ، فعاتبني على ما بدر مني ، فقلت له إني إنني لم أفعل ما يغضب ، ولم أسيء التصرف ولم أتفوه بما لا يليق وكل ما فعلته أني اعتذرت عن عطية مالية فقط، فأجاب، بأن هذه عادة متبعة وليس فيها ما يضر أو يهين. لكنه عرف أني لا أباع ولا أشترى ، وحتى صدام عرف طبيعتي جيدا.

بكرين وصدامين وزيارة مرقد الحمزة الشريف؟

على ذكر البكر ، معروف عنه اهتمامه بالأطباء  إلى جانب ولعه بزيارة مرقد الحمزة في وسط العراق،  وكان سَّماع أيضا لما يقال ، ففي وقته ظهر علاج للسرطان باسم ” بكرين وصدامين ”  بعدما أسس أحدهم مختبرا باسم الحوامض الأمينية مدعيا أن فيها أساليب لاكتشاف الأمراض الخبيثة .. كما شاعت حينها طرفة مفادها إن أحدهم ذهب لصيدلية طالبا دواء بكرين ، فقال له الصيدلي : لا يوجد عندنا. ثم طلب دواء صدامين فقال له الصيدلي : لا يوجد عندنا أيضا، وحين سأله: ما الذي يوجد عندكم إذا؟َ

أجاب: عندي : طه محيي الدين ” أي نائب الرئيس العراقي السابق صدام حسين”..

ذكرت في كتابك أن الرئيس أحمد حسن البكر كان يحب الأطباء، أليس كذلك؟

–              صحيح، كان البكر يحب الأطباء كما اعتقد و في اجتماع كان وزير الصحة حاضرا فيه قال بما معناه: ” إنني كرئيس للجمهورية أستطيع أن أصدر امرأ لآي شريحة من المجتمع بأن يخرجوا حفاة إلى المطار- على سبيل المثال- لكن لا يمكنني عمل ذلك مع الأطباء ..

نرجع لكتابك الجديد ما أهم ما يتضمن؟

-استعرضت فيه تاريخ الطبابة في بلاد ما بين الرافدين قبل الإسلام وخلاله. وكان ضعيفا جدا بحسب ما وردنا من المصادر التاريخية إلا ما جاء في القرآن الكريم، ثم استعرضت الطب في العصور الإسلامية اللاحقة وفورته وانتشاره في العالم وخصوصا في الفترة الذهبية في عصر المأمون ثم عصر التدهور عند غزو المغول وتدمير بغداد مرورا بالعهد العثماني والفترة المظلمة ثم الاحتلال البريطاني وقد بدأت فيه بوادر شروق أشعة الشمس في الأحوال العامة إذ تأسست الكلية الطبية في بغداد عام 1927 وهي من أوائل كليات الطب في منطقة الشرق الأوسط. وبدايتها كانت قوية صلبة لأنها  أتبعت نظام واحدة من أعرق الكليات الإنكليزية وهي كلية الطب في أدنبرة- اسكتلندا بفضل العميد سندرسن باشا الطبيب المرافق للجيش البريطاني.

أتذكر هذا الاسم وكان طبيبا في الحلة مركز محافظة بابل العراقية ” وقد عالج جدتي بحسب ما ذكر لي” ، هل كان في بابل حقاً؟

– نعم لقد عُين في الحلة في البدء كرئيس للمستشفى ثم أصبح  طبيب ومستشار الملك والسفارة البريطانية والخارجية. وبفضل صداقته للملك فيصل الأول بنيت الكلية الطبية في بغداد بالرغم من انشغالاته، ويشرفني أن أكون أحد طلبته وقد درسَّني في صفي الثالث والرابع طبية ثم استقال.

وفي كتابه بعنوان” 10 آلاف ليلة وليلة في بغداد” يذكر سندرسن: لحسن حظي عينت في بغداد، البلد البائس زمن الحكم العثماني واستطعت تشكيل كلية وخرجت 500 طبيباً، والآن استطيع التقاعد”..

وكيف كانت الكلية الطبية في العراق آنذاك؟

– احتلت منزلة مرموقة بين الكليات وكادت أن تكون موازية للكلية الطبية الأمريكية ببيروت وخرجت آلاف الأطباء منهم أصبحوا قادة الطب في المنطقة في الكويت مثلا أو السعودية واليمن والأردن..الأمر الذي وفر مكانة جيدة للطبيب العراقي أيضا الذي أصبح مطلوبا من قبل الجامعات التي أدارها خريجو بغداد في تلك الدول.

لقد توفرت فيها الجودة إلى جانب مجانية العلاج وشهدت إجراء عمليات كبرى للقلب المفتوح من قبل الدكتور يوسف النعمان مثلا وغيرها من العمليات.

ثم أخذ مستواها بالهبوط بفعل في فترة الثمانينات فكانت أول نكبة كما نعتتها إحدى المجلات الطبية العالمية ،بمذبحة مدينة  الطب” حين تمت إقالة قرابة الخمسين  طبيباً من خيرة أطباء العراق في نهاية عام 1979 وكان اسمي على رأس القائمة كما ذكرت. ثم عمدوا إلى إغلاق الدراسة التي كانت ضمن عضوية كلية الأطباء الملكية البريطانية ووضعوا البورد العراقي، وهو جيد وقد سد جزءا من الفراغ العلمي لكن ليس على حساب الدراسات الاخرى المعروفة عالمياً. ثم مر العراق بظرف الحصار وعدم تمكن الطبيب من السفر للخارج لغرض التخصص ، ثم عمدوا إلى التمويل الذاتي بسبب ضعف التمويل الحكومي للمستشفيات إلى جانب ظرف الحصار القاسي الذي لم يسجل التاريخ مثل قسوته وما جر على البلد والطب بشكل خاص من كوارث .

بعد تدهور المستوى الصحي والطبي في العراق ونظرا للحاجة الملحة للأطباء خصوصا أبان الحرب العراقية الإيرانية عام 1982 دعت الحكومة الأطباء المقالين للعودة ثانية ، فعاد الكثيرون ورفض الآخر ومنهم الدكتور مهدي مرتضى وهو الغيور الذي رفض رغم الإغراء بمنصب المشرف على إحدى كليات الطب وبراتب عال له ولهيئة الكلية  يصل لعشرين مليون دينار آنذاك  أي ما يعادل 7 آلاف دولار.

فوجئت وأنا في طريقي لبغداد على متن طيران الإتحاد الإماراتي بامتلاء الطائرة بالمرضى العراقيين المتجهين صوب الهند للعلاج ، ما الذي حدث للأطباء العراقيين  المشهود لهم بالكفاءة ، وهل يعجز الطب هناك عن علاج هؤلاء؟

– بعد الاحتلال بدأت الدوائر الطبية في العراق تستعيد عافيتها تدريجيا لكنها جوبهت بحملات من القتل والاختطاف ، وهكذا فمن من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ولعل آخر كارثة حصلت للطب العراقي مقتل الدكتور محمد العلوان  عميد كلية طب المستنصرية مؤخرا ، وهو احد تلامذتي من خيرة الأطباء.هناك جهات تعمل ضد مصلحة العراق. وحتى مجلس نوابنا طالبوا أخيرا بسيارات مصفحة لحمايتهم تبلغ أسعارها الملايين في حين قتل لحد الآن أكثر من 600 طبيب عراقي ولا حماية للآخرين ، ولا احد يستمع لشكوانا ولا من مجيب لدعواتنا..

والآن ما الذي يمكن إنقاذه من هذا الوضع المتردي برأيك؟

– الكثير عند توفر حسن النية والدراية والإخلاص والمواطنة الصالحة. وهذا ما ذكرته أثناء حضوري لمؤتمر الكفاءات في بغداد برئاسة الشيخ خالد العطية مؤكدا على ضرورة إعادة الكفاءات للعراق وما أكثرها.. لكن المؤتمر لم يبلغ النتيجة المتوخاة بسبب نواقصه فكتبت مذكرة لأصحاب الشأن . لكن في الحقيقة الأمور تسير ببطيء شديد و مثل “ناكوط الحِب” بسبب البيروقراطية التعيسة. صحيح يكتب بالصحف عن حلول لمشاكل الطبيب العراقي لكن في الحقيقة حين يعتزم أي طبيب العودة ويرسل مثلاً أوراقه بالبريد لا تقبل ويطلب منه مراجعات وتكاليف قد لا يتحملها وبالتالي لا يتشجع على الخوض بها.

 

 

 

 

 

شارك مع أصدقائك