ليتني كنت بوبولينا … ناصر قوطي

شارك مع أصدقائك

Loading

ليتني كنت بوبولينا

ناصر قوطي

_ليتني كنت بوبولينا!!
همس بحسرة:
_يعرفني القاصي والداني.. الكثير من الناس..الجيران البسطاء..العجائز في الدكاكين..حفاة الأزقة في الحارات..الأطفال.. الصبيان والمجانين.
– هل تعرف بوبولينا؟
_ أعرفها..
يعرفه الكثير من الناس وهو يستدين علبة سردين،علبة دخان وصحيفة … رجل كان تخلى عن كل أدواته..ثيابه..صحفه..كلماته.. لوحاته مع فرشاة الرسم..تخلى حتى عن أشياء لاتسمى ولاتحصى.. لكنه لم يتخل عن طيبته..وقيل عنه بعد ذلك انه هاجر من أجل إمرأة عجوز ليعقد القران عليها بعد ان مل مضاجعة الكلمات التي لم تفض به الا لسوء الحال، فالمرأة بلاد وان كانت عجوزا، هكذا يفهم الأمور.
_ لذا جئت..
قال:
تصحرت روحي من الناس العجائز.. الأصدقاء ..الملل اليتقاطر.. الوطن يتقهقر مثل بول بعير مصاب بالجرب..البعير الذي تأخر ولم ينزل من التل حتى آخر المشوار.
هكذا بدأ حكايته وأنا ألتقط كلماته من بين ضجيج المهاجرين في القارة العجوز ،وأشم دخان لفافة التبغ التي سيلتهمها، لو لم أمد يدي وأوقف السيجارة التي ستلسعه،كتبت كلماته في ذاكرتي وها أنا أدونها بلغة فاسقة لن تقدر على وصف ألمه المبرح الذي كان يفيض من عينيه.
كتبت :
قال:
_ما ان سمع اخوتي وأصدقائي بسفري القريب حتى تقاطروا الى غرفتي، بالرغم من انها لاتحوي الا على سقط المتاع. فمنهم من لم أره منذ عام أويزيد وكانوا يعرفون حالي وحالتي التي أقل مايقال عنها انها مزرية لاتسر عدوا أو صديقا.
سرير خشبي يترنح ويهتز إثر ادنى حركة والتفاتة، وفراش ورثته عن أمي الراحلة التي استوطنت غرفتها.كنت أرى في عيونهم تلك الشراهة على حيازة ماأملك.تلفاز معطوب،مروحة عاطلة وافريزا صغيرا مستعملا، كنت قد ابتعته بثمن بخس. بضعة كتب قريبة الى الروح لم أبعها، بعد ان بعت مكتبتي لصديق، ساوم عليها.. اشتراها بثمن بخس.البعض منهم الذي لم أره يبتسم يوما جاء يفتح شدقه على سعته والتقط زرا كهربيا وقال: انك لا تحتاجه لأن مروحتك عاطلة.همست داخلي يومها:ليست المروحة هي العاطلة فقط، ربما الزمن تعطل وربما أنتم. أحدهم ابتسم وهمس في أذني:هذا السرير أريده لطفلي. وآخر قال: هذه الحقيبة فارغة لن تحتاجها!!، بالرغم من انه كان يرى ملابسي التي يتنازع عليها الغبار معلقة على الحائط فوق السرير، بمسامير صدئة اجتهدت طويلا لأثبتها على الجدار. حائط أم جدار؟ أم غرفة لصدى كلماتي وآهاتي ، أحلامي، هو يعرف،هم يعرفون أنني مزمع على الرحيل.صديق قال: هذي الكتب لن تحتاجها مادمت ستسافر وتأبطها دون أن يسمع نأمة صوتي أو يلاحظ دمعتي التي ترقرقت وأوشكت أن تنفجر وتغمر الغرفة.لم أملك إلا أن أهمس بمرارة: هل بقي الفراش .. فراش أمي الميتة ..ياأللـ………ـه.. كم نحن فقراء..كم هو فقير هذا العالم..كم تمنيت أن أملك ما يغري اخوتي واصدقائي بالحضور الى غرفتي الفقيرة لأهب لهم شيئا..أهب لهم مايتمنونه ويحتاجونه. لوانني أملك مثل “بوبولينا” سريرا وفراشا من ريش نعام،ببغاوات ملونة.. ودجاجات تبيض أو تحف ثمينة لتغريهم بالحضور..ولكن لا.. لا شيء يغري في غرفة أمي الميتة.في ثواني الفجر الصاخبة بأصوات ديكة مراهقة تعوي وتصهل.. تستعطف دجاجات نائمة أو ميتة.. حملت حقيبتي الفارغة.. ودعت الغرفة الفارغة..الوطن الفارغ من المارة.. نظرت الى الشارع وبخطوات قاسية مجنونة تركت كل شيء ورائي.كنت ألهث هاربا من ثقل ماسمعته..لم تكن ثمة حقيبة على ظهري.. خرجت خالي الوفاض. كانت اصوات مختلطة مع صياح الديكة تصلني من بعيد، تتردد ورائي وأنا أفكر بهذا القفر.. هذا الفقر..القفر الذي يغمر بعض الأرواح،بل يغمر العالم..العالم الذي أعرفه في غرفة ووطن. قلت للمتحدث:
مادمت معدما الى هذا الحد من حقك أن تهاجر. قال:روحي هناك..وسكب دمعتان مثل خيطين من حرير..و..اعتذر. كان كمب المهاجرين يغص بالاطفال والنساء والشيوخ ..لم أرد عليه لأن عيونه فاضت بالحنين ودموعه أوشكت أن تتفجر..
هل كانت الغرفة وطن؟. كمب أم وطن..ربما..هل كان الأصدقاء يحملون ذكراك حين يستلون كتابا من مكتبتك..هل كان العالم خاويا حد أن ينساك الرفاق على الرف مثل عملة قديمة..
قال:
_لاأعرف..فقط..أحتاج لتفسير يبرر لى رؤية العالم ومن أي منظار مشطور يرون فيه الآخر لاأكثر.وها أنذا على الحافة ولم يرني أحد..
همس بذلك وأشعل لفافة أخرى وقبل أن ينفث دخانها هيمن شرطي ألماني على نشوته الوحيدة،شرطي لم ينبت الزغب أعلى شفتيه ووضعه بين خيارين،أما أن يطفؤها أو يصطحبها معه الى خارج القاعة.نهض الرجل الذي تعدى عقده الخامس ودون أن يعلق على شيء وقف بأدب جم مع ابتسامة مريرة. مشى متمايلا حتى باب القاعة. فتح الباب وخرج بعد أن وضع معطفه على رأسه،ووضعت يدي على قلبي،حين تبعته. كان يترنح وهو يدوس على العشب الأبيض،كانت السماء بيضاء..والريح،الشجر أبيض، جدران البيوت،السطوح والشارع الوحيد الذي يفضي الى المدينة العجوز المهجورة..كانت المدينة بيضاء وباردة ،همست:ليتك تركت بتلة في بلادك الحارة لتذيب بذكراها كل هذا الجليد الذي يحاصرك.
ألقى نظرة جامدة باتجاه صحراء السماء..السماء البيضاء،تلفت الى كل الاتجاهات كانه يودع هذا العالم الجليدي ومشى بصعوبة كما لو شيخ في التسعين القى نظرة ثلجية جامدة على باب كمب المهاجرين وبصق،كان عقب سيجارته يتوهج حين رماه وراءه بينما عدت لأغلق الباب على الشيوخ والأطفال والنساء من المهاجرين. غير أن يدي كانت تستقر على قلبي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*”بوبولينا” احدى الشخصيات المؤثرة في رواية “زوربا” للكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس. وهي من بائعات الهوى ولها عشاق كثر من كل البلدان في شيخوختها وهي تحتضر هجم الجيران على منزلها ونهبوا كل شيء أمام ناظريها. حتى ذكرياتها الرمزية التي لاتباع في سوق الخردة.

شارك مع أصدقائك