زياد رحباني..الحكاية لم تنته بعد.. علي حسن الفواز

شارك مع أصدقائك

Loading

زياد رحباني..الحكاية لم تنته بعد..

علي حسن الفواز

رحل زياد رحباني، ليترك علامة على رحيل الحلم، وعلى تصدّع الذاكرة، وعلى فضائح الأشياء التي تباع، بدءا من الثورة الأيديولوجيا والرومانسية، وليس انتهاء بالمكان والأفكار..
رحيل زياد الفيروزي، هو احتجاج على ما يجري، على الخيانة والخطيئة التي تغوّلت مثل جريمة، تركت الكثيرين وكأنهم مأخوذين بسردية البحث عن القاتل، وعن الشاهد، وعن أداة الجريمة ذاتها، فما عمل عليه زياد من خمسين عاما اجهضه “الكفر الوطني” والوهم الأيديولوجي، وكثرة الاشباح التي تسللت الى روح بيروت، وربما الى مقاهيها ومسارحها ولياليها..
رحيل زياد حمل معه رحيل “الحلم برومانسية التغيير” وبهواجس التحرر من الآخر الاستعماري/ الصهيوني/ المحلي المغشوش بعقدة قتل الأخ، لذا ترك كثيرا من الأغاني وكأنها وصايا للتطهير، وللتحريض على رمي أسلحة قابيل في المزبلة.
كان زياد لبنانيا بالمعنى الشعري، والسحر الموسيقى، امتلك هوسا بالمغامرة، وبإعادة دوزنة صوت “الأم فيروز” ليكون أكثر تلمسا للشعر، وللهمس الذي يصيب الجسد واللغة والمكان بنوع من الارتعاش، وبشغف من الاصغاء..
زياد زمن ثقافي لبيروت، رحيله قوّض الوقت والساعات، نزع عن ليل المدينة سر الحب، تركها ليُتمٍ غريب، ولوحدة من الصعب أن تتخلص منها، ومن قلق اسئلتها عن الغائب والمسافر…
لم يكن زياد يساريا بالمعنى الجيفاوري، ولا حتى بالمعنى الجدانوفي، كان اقرب الى ظاهرة “فيكتور جارا” المغني التشيللي الشهيد، الغناء لديه هو الحب، هو النضال من اجل عالم اجمل، من اجل بطولة ترمم الفراغات التي يتركها القتلة دائما..
علاقة زياد ببيروت هي علاقة الجسد بالأنثى، بالحميمية التي تفصح عن الغواية، وعن البوح، وعن الانكسارات الداخلية التي تتشظى من خلالها اللذة والنداء، ربما كان يغني لها ليسترها من عري غامض، يطلق لها اصواته التي تنسحب من روح الرحابنة الى روح التاريخ، فهم كائنات مدينية، قشّروا عن الطبقات رماد الزمن التجاري، ويبوسة البيكات الذين احاطوا المدن بالمعسكرات، والاوهام الطبقية، وباللذائذ الخادعة…
ترك زياد جسده النحيل للحرية، لمساكنة أشياء لامعة، صاخبة، غامرة بالحمى، ومكشوفة على شهوات لا تنتهي، بدء من شهوة الأصابع وهي تلامس البياض، الى شهوة الفم وهو يترك ريقه لروائح الأرواح التي تحدث عنها جبران خليل جبران كثيرا…
كان يحتفي باللغة، ساخرا منها، قاموسه من الاستعارات مفتوح، لا حدود طبقية لها، ولا اكراهات سياسية وايديولوجية تفرض قمعها عليه.. كل ما فيه مفضوح على رجل خرج من زمن الرومانسية اللبنانية الى الثورية بمعناها الجمالي والمعرفي والإنساني..
لم يصدّق حكايات ابطال التاريخ، فبطله المحلي الجنوبي والبيروتي، والعاشق هو رهانه على الاحتفاء بالحياة، وعلى ترميم العالم بالموسيقى، وعلى تحويل اللغة الى ترياق للوجع الوطني، للأرض التي كثر اعداؤها مثل رصاص الخيانات..
يعرف الكافر جيدا، ليس عبرة خلطة الايمان، بل عبر قسوة الجوع والفقر، فكان يساره هو الضد الجمالي والطبقي للشبع القاتل، يضع حلمه بين أصابع هذا اليسار الشعري، وكأنه يُخرج الايمان من المثيولوجيا الى الواقع، ومن الغياب الى الحضور.. .
.عاش زياد نصف قرن في الموسيقى، فكان صانعا للسعادات الموسيقية، غيّر من قواعدها، ومن لعبة تأليفها، ومن علاقتها بالاصوات، وبما تصنعه من سحر تتجاوز طبيعة المقامات، الى مستويات تكون فيها الجملة الموسيقية نظيرا للجملة الثقافية، وصولا الى أنه نقل صوت فيروز بايقاعها المسرحي الى إيقاع اكثر عمقا، واكثر شعرية، واكثر احتفاء بالجملة وبالجسد وبفلسفة الصوت..
‏رحل زياد ليترك الجميع عند حافات سائلة، وكأنهم لم يصدقوا ذلك الرحيل، ولا حكاية الفراغ الذي سيتركه هذا “الولد” المشاغب، والساخر، وغير المساوم، والمؤمن بأن الفقراء الثوار هو من سيرث الأرض التي افسدها “مشعلو الحرائق”
رحل زياد، ورحل معه الطفل الذي يرفض أن يكبر، والحلم الذي يأبى أن يهبط من الرأس الضاج باسئلة الوجود المعنى، وربما رحلت معه الحياة ذاتها، تلك الكينونة الغرائبية التي عاشها طولا وعرضا، ترك فيها اثره الكلكامشي، وشغفه البرومثيوسي بسرقة النار والحكمة، ليجعل المدينة والجسد واللغة مأخوذة بفكرة الوجود المتعالي، والانتماء الى “حقيقة” هو يعرفها، ويصدّق سردياتها، واسرار الطريق اليها ومنها.. .
‏ رحل زياد وهو يكره الخونة، وأصحاب الأقنعة، وكل الغشاشين الذي علّقوا البلاد على حيطان المدن المذبوحة، وتركوها لاغتصابات ماكرة لفقهاء الظلام وفقهاء الكراهية وفقهاء الطبقات..
. مات زياد أو رحل، لكن الحكاية لم تنته بعد….”

 

شارك مع أصدقائك