محمود البريكان .. فاطمة المحسن .. “هو الأول وإن غادر السباق مبكراً”

شارك مع أصدقائك

Loading

محمود البريكان

فاطمة المحسن
“هو الأول وإن غادر السباق مبكراً”
مات محمود البريكان كما مات المتنبّي على يد قطّاع الطرق. تقول أخبار العراق إنه قُتل طعناً، وسُرق بعض متاع يملكه، ودنانير وعملات أخرى قليلة كانت بحوزته. تولّت أخته دفنه في مقبرة العائلة في البصرة، ونعته بضعة سطور لاتحاد أدباء العراق.
في ملف الأقلام الذي خصّصته للبريكان، كتب مهدي عيسى الصقر، الروائي المعروف، كلمة استشهد فيها بقول البريكان: “كل آداب العالم وفنونه، ما عاد بوسعها أن تمنع جريمة صغيرة واحدة من أن ترتكب، ولا أن تخفف من مظاهر العبث الشامل”.
محمود البريكان الشاعر الذي تحوّل إلى لغز في تاريخ العراق الأدبي وأيقونة وأمثولة، مات ميتة عبثية غامضة، مثل مصير شعره الذي لم يطلّع القارئ العربي بل حتى العراقي إلّا على القليل منه. ظهر مع السيّاب وبدأ مجدداً في القصائد القليلة التي نشرها نهاية الأربعينيات، وقيل إن الريادة الحقيقية في حركة الشعر العراقي الحر قد بدأت على يديه. وهو قول تعزّزه النماذج التي نشرها وشهادة مجايليه. كان صديقاً لأدباء مرحلته أو مزاملاً لهم، ويتردد قول يشير إلى أن السيّاب أراد أن يتولى إخراجه من عزلته ونشر شعره، وهو يدلّل على أن شخصية مثل البريكان كانت تترفع عن المنافسات وتفرض حضوراً مختلفاً للأدب والأديب.
يختلف البريكان عن صحبه بمن فيهم السيّاب والبياتي، بثقافة موسوعية قلّ نظيرها بين الشعراء، على حدّ قول علي الشوك صديقه وشبيهه في بعض السمات. ربما كانت ثقافة البريكان وراء عزوفِهِ عن النشر، وانقطاعه عن الحياة. فقد ظلّ ملازماً لمدينته البصرة وراغباً عن الناس والوسط الثقافي، ولم ينشر إلى اليوم ديواناً، ولكن مجموع ما ظهر له في الصحف والمجلات لا يتجاوز 36 قصيدة بحسب إحصاء مجلة الأقلام في عددها الذي خصّته فيه بملف العام 1993 وحوى شهادات نادرة لأصحابه من الأدباء العراقيين، إضافة إلى دراسة نقدية عنه كتبها الأديب عبد الرحمن طهمازي.
لعل سيرة البريكان الشخصية تقارب في منطقها سيرته الجمالية وتكاد تتطابق معها، بيد أنها تسلّط الضوء على بعض ما تنطوي عليه الثقافة العراقية من خفايا والتباسات تعزّز ذلك الولع لديها في خلق الأبطال الثقافيين، وتلك مفارقة في مجتمع تعوّد التنكّر للمبدعين وتجاهلهم. فما عاناه الرصافي والسيّاب والملائكة والجواهري والكاظمي وغائب طعمة فرمان وعلي الوردي والكثيرون غيرهم، لا يدلّل فقط على أن هناك إهمالاً متعمداً وقمعاً يأتي من السلطات فقط، بل يشير إلى تقليد اجتماعي ينطوي على قلة اكتراث بالثقافة والمثقفين. وقد شمل هذا التقليد البريكان وإن بدرجة انحراف قليلة. فالبريكان كان يحمل في المقابل ازدراءً خفيّاً لهذا المجتمع، وربما تبرز بين علاماته تجاهله لعارض الشهرة. لعل ذلك الرأي يحتاج الكثير من البراهين التي تسندها سيرته الشخصية، فهو في شعره الأول لا يختلف عن غيره في نزعته الاجتماعية وانحيازه إلى الجماهير، بيد أن الاختلاف الجذري عند البريكان يكمن في ثقافته النوعية، تلك التي قادته إلى الإحساس المكثّف بإشكالية المعرفة وأزمتها عند الأديب نفسه. إن تواضعه الشخصي وكياسته وأدبه الجمّ، تكمن خلفها رغبة عارمة في تمجيد العقل المتعالي، ذلك الذي يؤدي إلى الشكّ بوظيفة الشكل الأدبي أو وظيفة الشعر في استيعاب الأغوار البعيدة للمعرفة وما تنطوي عليه البصيرة من أهواء.
ولا يمكن أن نحسب البريكان ثائراً متمرّداً من طراز آرثر رامبو مثلاً، حين أحرق أشعاره وانتهى عند حوافي الشرق مهرب سلاح أو تاجر عبيد. بل إن البريكان شخصية متطامنة في مظهرها الخارجي، حاول أن يجنّب نفسه الارتطامات السياسية العنيفة التي دفع ثمنها الكثير من الأدباء في العراق، وإن كانت المعتقلات والتعذيب أحد هواجس شعره.
بوسع البريكان أن يمضي بعيداً في صمته، وهذا ما فعله سنوات طويلة، ولكنه حسب ما ذكر في مقابلة نادرة معه، لم يكفّ عن كتابه الشعر، والقليل الذي نشره وآخره كان يدلّل على أنه كان ينحت بهدوء في أغوار القصيدة المتطلبة التي تناسب مقامه.
القصيدة لدى البريكان هي، في النهاية، استعارة موسّعة للحياة حيث بمقدورها الاقتراب من الحقيقة ولكنها لا تصل إلى معرفتها. لعل المهمة التي أوكلها إلى نفسه، كانت أكثر من طاقة شاعر وأعلى سقفاً من موهبته نفسها. عند هذا الحد، بمقدورنا أن نتخيّل بعض أسباب تتصل بطريقة تعامل البريكان مع الشعر والحياة.
فالبريكان مثله مثل عبد الملك نوري الذي برز قصاصاً ومثقفاً متميزاً في الأربعينيات من القرن المنصرم، كان ينوء بحمل ثقافته القصصية واطلاعه الواسع على الأـدب العالمي والفنّ والموسيقى والمكتشفات العلمية الجديدة، وهوسه بدوستويفسكي وغيره من القصاصين الكبار في العالم. كما كان يحمل تصوراً خاصاً عن موهبته دفعه إلى الإعراض عن فهم كيفية توظيفها، فانتهى إلى الصمت والعزلة المترفعة، فتحوّل إلى حكاية من حكايات الثقافة العراقية.
يختلف البريكان بلا شك عن عبد الملك نوري، ولكنه يمتّ إليه بصلة، يشاركهما فيها بعض الأدباء والفنانين العراقيين من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومنهم الفنان التشكيلي محمود صبري، وعلي الشوك الباحث المعروف، وسواهما، سواء من واصل منهم أو هجر الأدب والفن في وقت مبكر. لعل ثقافتهم وسعة اطلاعهم على الفنون والنظريات والأفكار العالمية، أحدثت لديهم أزمة حادة في الوعي، وغربة عن المجتمع حتى في فترة انتماء بعضهم إلى الحياة السياسية، كما هو الحال مع علي الشوك ومحمود صبري.
بعض ما نُشر من شعر البريكان يشير إلى أنه يرى في القصيدة شيئاً أكبر من بداهة الشعر، بل هي ضرب من صناعة الشاعر لنفسه أو إعادة تقديمها في حال من التوافق والانسجام مع سمو الروح ورفعتها. إنه يقول في حديث له حول مفهوم الشكل الفني: “التشكيل الفني للقصيدة هو تشكيل للروح، وكيان القصيدة نفسه يسهم في الاحتفاء بانتصار الشاعر على الفناء ويرسم رؤياه في مادة الكلمات”. يمهّد البريكان لهذا بقوله: “لا يكون الشعر عظيماً حتى يتجاوز اليومي والمألوف والمباشر، وإن بدا أنه يصوّر المألوفات”.
القليل من صور البريكان تخلو من تلك المسحة التي يحاول أن يضفي عليها سمواً ورفعة، تنأى بها عن هرطقات الشعر وتخريب المعاني. إن صقله شعره يوفر له نظافة خاصة ونضارة تجنبه المستصغر من الأشياء، والطارئ من الكلمات، والمبتكر منها أيضاً، وتلك مفارقة ليست لصالح شعره. يخيّل إلى قارئه أنه التقى الكثير من مفرداته وصوره في مكان آخر، وعند شعراء عالميين، وعلى وجه الخصوص بين تلك التجارب المنشغلة بمفهوم الشعر الكوني. بيد أن البريكان لا يتعامل مع تأثير هذا الشعر، مثل ما يتعامل غيره، إنه يعيد صقل تلك الصور وتهذيبها حتى تنتسب إليه. وفي كل الأحوال لا يمكن أن يدلّنا ما نشر من شعره على تضاريسه بأكملها، غير أن الذي يدركه القارئ، هو طريقته المخلصة في التثاقف مع الموروث العالمي، فهو لا يملك خفة بدر شاكر السيّاب وطلاقته في مزج المحلي بالعالمي، ولا صنعة البياتي في استجلاب الثقافة إلى الشعر، ولا تجريدات أدونيس وبحثه عن مضمون فلسفي لشعره. عمق المعنى لدى البريكان ووضوح الصورة بمقدورهما عكس تلك الشفافية التي ينظر من خلالها إلى العالم. القصيدة لديه لا تجسّد حقيقة بل تصوّر كثافة ثقلها على الروح. فزعه من العالم وانفصاله عنه، يجعل من شعره محض معاناة خالصة يظهرها في هندسة الشعر وفي ترتيب الصور التي تبدو وكأنها على ثقة من أمر إيقاعها. في الكثير من الصور يتصاعد هذا الإيقاع رويداً رويداً وبخفوت، كي يلامس ذلك الفزع والخوف:
غرفة المسرح الساكنة
ألقت في السكينة عزلة أشيائها
عزلة الجسم عمّا يجاوره، والهياكل عن روحها،
والعناصر عن ظلّها المختلف.
لا يشوّش فوضى الكتل
ولا يقاطع صمت الظلال
غير أصواتهم، وعندما يُفتح الباب، ما بين حين وحين
ويُحرك زرّ الضياء.
غير أن البريكان لا يعتزل برجه العاجي كما يمكن أن يقال عن المثقف النخبوي، وهو لا يؤمن بهرطقات الفنّ للفنّ، فشعره شاهد على رهافة في التقاط الإنساني من الحياة، ومن دون تصنّع أو تعمّل أو مجاهدة. الذي يحدث لديه أن عاطفته التي يترفّع عن إظهارها في قول مباشر، يتمترس خلفها شعره. بيد أنه يدعو القارئ إلى معاينتها من زاوية مختلفة، وسياقات أعم من الانشغالات اليومية للحياة.
في زمن الحرب وفي العام 1989 كتب البريكان قصيدة أسماها “التصحّر” يقول في مقطع منها:
في الهواء
يتحرك هذا الوباء الذي لا اسم له
يتسلّل عبر الستائر
ينفذ من بين شقوق النوافذ
يسبح في الغرف الهادئة
ويشعّ مع الضوء من شاشة
ويرسب ظلّاً خفيفاً على الأغطية
ويرشّ ببطء على كل شيء
طبقات الغبار.
لا يُحس به حين يظهر.
كل علاماته خلل غامض في الرؤى
ودوار.
إنه شاعر خمسيني بامتياز في هذه القصيدة، فالقرينة واضحة ولا تحتاج إلى كدّ لاستنباطها، وهي تحرك موسيقى القافية لتتجه نحو تكوين صورة وصفية، غير أن حرصه على الاستزادة في العلاقة السببية بين الشيء وعرضه، يشكّل محور العاطفة الكامنة أو المستترة في الصورة. فالدائرة أُغْلقت من حيث ينبغي أن تبدأ في الكلام العادي، أي بكلمة “الغبار”، ولكنه زاد عليها حين استدرك بآثار ذلك الغبار على الإنسان.
ندرك حسّ البريكان التراجيدي في كلّ سطر شعري، ولعل نزعة التشاؤم واليأس تكسبه غنائية يسعى الشاعر إلى تغييبها، أو حجبها، ولكنها تشي به وتسفر عن وجهها في كل مرة.
لعلّ الصدفة، أو هذا الزمن الذي يفزعه ويحتمي منه في جدران بيته، قد باغته بالضربة الأخيرة، غير أن دقّات نذيرها كانت تسكن شعره:
على الباب نقر خفيف
على الباب نقر بصوت خفيف ولكن شديد الوضوح
يعاود ليلاً، أراقبه، أتوقعه ليلة بعد ليلة
أصيخ إليه بإيقاعه المتماثل
يعلو قليلاً قليلاً
ويخفت
أفتح بابي
وليس هناك أحد.
مَن الطارق المتخفي؟ ترى؟
شبح عائد من ظلام المقابر؟
ضحية ماض مضى وحياة خلت
أتت تطلب الثأر؟
أقبلت تنشد الصفح والمغفرة؟
رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضة
ومهراً لأجل الرحيل؟
(قصيدة «الطارق» ــ 1984)

 

شارك مع أصدقائك