قصة قصيرة ٍ
لا دفء في أرحام بديلة
ريتا الحكيم/ أديبة سورية
تئنُّ الطريق الوعرة تحت وقع أقدامهنَّ، نسوةٌ مجهولاتٌ حزمن مصائبهنَّ وعلقنها على ظهورهنَّ المحنية، لا تشي ملامحهنَّ بأيِّ ضعفٍ، لكأنهن جُبلن من حجر الصوان. لاحت في الأفق سحابةٌ سوداءٌ.. ألقت الرُّعب في قلوب النسوة الثلاث، التفتت إحداهن إلى رفيقتيها لتحثَّهما على السَّير قبل وصول الشَّر المختبئ في ثنايا السَّحابة تلك.. إنها سحابةٌ مخفيَّةٌ في جعبة المجهول الذاهباتِ إليه. لم تخطئ تلك المرأة في حدسها وفي استباقها لأمرٍ جلل سيحدث لهنَّ حين يعبرن النهر، كل شيء تحوَّل إلى خيالاتٍ هلاميةٍ أثارت فيهنَّ فزعًا ورهبةً رغم ما يتمتَّعن به من قوةٍ وعزيمةٍ. أحيانًا لا تبدو الأمور على حقيقتها بالنسبة للناظر إليها من زاويةٍ واحدة.. وهذا ما حدث بالضَّبط، بدتِ السَّماء لتلك المرأة ألسنةً من لهبٍ، تململت في مشيتها ومن خلفها وقع خطوات رفيقتيها يرشدها إلى أنهما ما زالتا بأمانٍ، وحدها ينهشها القلق بأنيابه الحادَّة.. تعيد تثبيت الوشاح على رأسها لكأنها تخشى أن تهرب الأفكار التي راودتها حين غادرت الأهل مع رفيقتيها دون أن تعلن عن وجهتها درءًا لأي احتمالٍ في أن يلحق بهن أحد من المعارف والأقرباء. “حياة”، “أمل”، و”نور” أسماؤهن كانت وبالًا على إمكانية العيش في منطقةٍ نهشتها الحروب، وسالت دماء أبنائها أنهارًا؛ فلم يعد للحياة طعم ولا للأمل فسحة سماوية ولا للنور قنديل في نفق الاقتتال.. واللهيب الذي استشعرته إحداهن بغريزتها لم يكن وهمًا بل استقراءً لحدثٍ جللٍ سيقلب كل المخطَّطات التي راودتهنَّ وعلَّقن عليها آمالًا كبارًا. النَّجاة حلم هشٌّ والموت أمر محقَّق في مثل هذه الظروفٍ التي لا تخضع لسلطة العقل والضمير. البقاء هناك انتهاك للإنسانية و بأبشع الصور والطرق التي لا تخطر إلا على بال الشياطين من الناس.. هذه الأفكار أقلقت “حياة” مما دفعها إلى محاولة قطع حبل الصمت لخلق حوار مع “أمل” و”نور” حتى لو كان حوارًا تافهًا أو ذريعةً لمضغِ ثقل المسافة التي قطعتها معهما، لكنها تراجعت عن قرارها ولاذت بصمت المقابر التي مرَّت بها في رحلتها الشَّاقة، وتساءلت فيما إذا كان من الضروري أن تكون بينهن سيالة عصبية تؤلف بين توجهاتهن وهنَّ يسلكن نفس الطريق.. بعد ذلك احجمت عن التفاعل وتركت لهذه الطريق القيادة والبتَّ في هذا الأمر. انتبهت إلى أنَّ أسماءهنَّ تشكل سلسلةً لا تكتمل حلقاتها إلا بامتزاجها في بوتقةٍ واحدةٍ.. هي الحياة وتلك الأمل والثالثة النور؛ فهل هي صدفةٌ أم من تدابير القدر؟ لا لم تكن صدفةُ أبدًا.. “حياة” هجرت بلادًا يقتتل أبناؤها ويغرقون في بحرٍ من الدِّماء، “أمل” هربت لتحظى بحياةٍ أفضل، و”نور” لحقت إحساسها إلى حيث الضِّياء يغمر القلوب. خلف هذا التساؤل تكمن إجابة واحدة يعرفنها هنَّ الثلاثة ولا يفصحن عنها.. وكأنَّ الإفصاح هزيمة لا يتحمَّلها مزاجهنَّ المتقلب بعد أن تركن بلادًا تنزف وبيوتًا يُقتل أصحابها بلا رحمةٍ، لكن كل واحدةٍ منهن احتفظت بمفتاح بيتها كقلادةٍ على صدر الفَقد تتحسَّسها كلَّما ضجَّ الحنين في حناياها إلى ملاعب الطفولة والأهل. كل شيء أصبح ذكرى.. الوطن، الأحبة.. الأموات منهم والأحياء، والبحث عن وطنٍ بديل أمر صعبٌ وتقبُّل الآخرين أكثر صعوبة؛ فكيف ستنتهي حكايتهن وإلى أين؟ كان يجب أن يحدِّدن الوجهة المطلوبة وكي يتخلصن من رهبة الموت وفداحة اليأس وعتمة الضمير اتَّفقن ألا يلتفتن إلى الوراء وألا يفتحن صناديقهنَّ السَّوداء عند كل عثرةٍ تعترضهنَّ. اتخذت ” حياة” قرارًا بضرورة انفصال كل واحدةٍ عن الأخرى وحاورت “أمل” و”نور” في الأمر.. وبعد أخذٍ وردٍّ كان لها ما تريد على أمل أن يجتمعن صدفةً في فضاءٍ أكثر رحابةً وأمنًا كما جمعهتن طريق الهرب صدفةً. بعد عدَّة سنواتٍ ماتت “حياة” في الغربة، و”أمل” أصيبت بجنون اليأس من العودة.. أما “نور” ؛ فقد فقدت بصرها وهي الآن تلعن الظلام الذي لم يرحمها وكان خاتمة لقصتها. —————————————————————– اجتمعتِ الحياة مع الأمل والنُّور صدفةً بعد طول فراقٍ، على الطريق الصَّاعد إلى السَّماء.. وبقيتِ الطَّريق شاهدًا على أنَّ الأوطان البديلة أرحامٌ بديلةٌ وأنَّ الغرباء لا يشعرون بالدِّفء إلا في أرحام أوطانهم.