حوار المبدعة لطفية  الدليمي   .. حاورها إبراهيم حمزة 

شارك مع أصدقائك

Loading

لطفية الدليمي :

لا راحة في الابتعاد عن الكتابة. هذا وهمٌ لن أقع في مصيدة خديعته .
أنا امرأة كاتبة اعتزلت الصخب العام – لستُ كائناً شعرياً بطبيعتي
لاأحبُّ من يكتبون وكأنهم أسرى محتجزون في مفاعل ذري يوشك على الانفجار
الأكثرية الساحقة من النساء استطابت المكوث في منطقة التبلّد وخدر الحواس
الكتابة ليست لعبة مجانية نلهو بها ؛ في البدء تكون لعبة طوفان الأدرينالين !!،
يمكن للكتابة أن تستنزف حياة المرء؛ لكنه استنزاف ممتع.
حاورها : إبراهيم حمزة
1ــ ماذا فى طفولتك وأسرتك دفعك للكتابة؟ ولماذا تظل حياتك الشخصية منطقة غائمة نوعا ما ؟
سحر الرمز هو مادفعني للكتابة في طفولتي. العالم لكلّ طفل هو سلسلة لاتنتهي من الرموز التي تتخفى وراء أقنعة الصور المرئية .
كتاب ” ألف ليلة وليلة ” كان أول ماشدّني إليه بغلافه العتيق وأوراقه المصفرّة. لم أفهم بالطبع ماالذي إنطوت عليه حكايات ذلك الكتاب، وماكان يهمّني ذلك. الطفل لايسعى للفهم بقدر مايسعى لتحسس مكامن السحر الخبيئة وراء الكلمات والصور ، وهو مايحفّز فيه دافعية التعلّم وامتلاك الوسائل اللازمة لإختراق عوالم الكبار. يظلّ هذا ( السحر الرمزي ) ملهماً لي ومرشداً مؤتمناً حتي في أيامي هذه وإن تغيّرت رؤيتي لوسائل التعبير الرمزي وأفانينه.
أما حياتي الشخصية فأنت تراها غائمة. هل هي حقاً كذلك ؟ لستُ أدري. إذا كان المقصود عدم انكشاف تفاصيل حياتي الشخصية ليكون مادة للتداول العام فأقول ليس ثمة الكثير مما يهمّ القارئ في هذا الجانب لأنّ حياتي الشخصية حياة امرأة كاتبة اعتزلت الصخب العام وكرست حياتها للعمل الجاد وتجنبت الظهور في التلفزة و المحافل العامة. قد تظهر جوانب مني ومن أفكاري وتتداخل مع بطلات نصوصي ولكن ما أسعى اليه دوما هو أن تكون أعمالي الوسيط بيني وبين القرّاء العرب في كل مكان .
2ـــ أول ما يلفت نظرى فى مسيرتك الهائلة هو تعدد الاهتمامات ، هل تشعرين أن الكتابة قد تأخذ من المرء حياته ؟
تعدد الاهتمامات هذا الذي تشير إليه لم يكن ملازماً لنشأتي المهنية الأولى الا في تعدد القراءات وتنوعها . صحيح أنني بدأتُ محبّة لفنون السرد ( رواية ، قصة قصيرة ) والكتابة الصحفية ثم أعقب ذلك نشاط ترجمي راح يتوسّعُ مع الزمن؛ لكنّ تشعب اهتماماتي وتداخلاتها بين الادب والعلم والفلسفة وتاريخ الافكار بعامة بدأ قبل نحو عشر سنوات على وجه التقريب. دفعني لهذا التنوع كتاب ( الثقافتان The Two Cultures ) للورد سي. بي. سنو ، وهو الكتاب الذي ترجمته لاحقاً وصدر بطبعتين مختلفتين: واحدة ككتاب ملحق بمجلة ( الفيصل ) السعودية، والثانية عن دار ( المدى ) العراقية. ثم ترجمت كتاب ( الثقافة ) للناقد الثقافي تيري ايجلتن وبعدها انغمست في متابعة التفاصيل الثقافية والفلسفية لمفهوم ( الثقافة الثالثة ) الذي عرضه ( جون بروكمان ) في كتاب ذائع الصيت له .
نعم بالتأكيد. يمكن للكتابة أن تستنزف حياة المرء؛ لكنه استنزاف ممتع. أنت مالم تشغف بشيء فلن تمنحه حياتك ولن تكون مستعداً لكلّ التضحيات اللازمة لهذا الشغف. الكتابة ليست لعبة مجانية نلهو بها فحسب . من ينشد اللهو لن ينجز شيئاً مؤثراً أو مفيداً .
3ـــ لك تعبير لافت ويدعو للتأمل “الكتابة خصيصة أخلاقية” هل هذا حكم تخصيصى بشرى أم تقديس لدور الكتابة ؟
-دعنا من هذه التوصيفات اللاهوتية المرتبطة بصفات مثل ( التقديس ). أفهم أنّ التقديس هنا يراد منه إعلاء الشأن والاستزادة من التقدير ؛ لكن حتى في هذا الاطار لاأحب هذه المفردات .
الخصيصة الاخلاقية التي أعنيها في كلّ منشط كتابي هي أنك عندما تكتب فأنت تسعى – مهما كانت طبيعة كتاباتك – لتمرير حزمة من الخبرات إلى القارئ وكأنك تريد القول : أنا لديّ هذه الحزمة من الخبرات ، وقد تحصلتها بمشقة، وأريد تمريرها لك لأجنّبك مشقة الحصول عليها. الكتابة الابداعية تسعى لتقليل مناسيب الألم المرتبطة بتحصيل الخبرات في هذا العالم. هذا إلى جانب فضيلتها الامتاعية. ثنائية ( الخبرة / المتعة ) هي في قلب كلّ فعالية إبداعية .
4ـــ ” الكون والحياة والوعى ” هل يغير الزمن نظرتك لأى من أسئلتك التأصيلية الثلاثة ؟
نعم كبيرة . قد يكون التغيير بسبب قراءة كتاب جديد أو تحصيل خبرة جديدة من حوارية مع صديق أو الاستماع لبرنامج تلفازي أو إذاعي رصين ، أو بسبب ترجمتي لكتاب يتناول أحد شؤون هذه الكينونات الجوهرية الثلاث في حياتنا البشرية .
5ــ حسب عنوان لحوارك المترجم مع دوريس ليسنغ ” هل يمكن فعلا للكاتب أن يبحر عمره كله فى بحيرة جميلة من السكون والسلام ؟ هل الكاتب ابن التأمل أم التوتر ؟
في بداياته يكون الكاتب – وكل مبدع عموما – ميالاً للتوتر وعدم الاصطبار على تنضيج الافكار والمفاهيم . إنها لعبة طوفان الادرينالين !! ثم مع الزمن والخبرة نتعلّمُ الهدوء الجميل ومحاولة الانصات لتلك النغمات الخفية في عقولنا والكون. أرى أنّ مناسيب التوتر تقلّ مع الزمن مقابل تصاعد مناسيب الاستثارة التأملية الهادئة. مع تزايد حصيلتنا المعرفية وخلاصات تجاربنا ،لاأحبُّ من يكتبون وكأنهم أسرى محتجزون في مفاعل ذري يوشك على الانفجار .
6ــ لايمكن العبور على هذا الزخم الضخم من الكتابة عن النساء لديك ، إبداعا وفكرا ، هل تغير الكتابة شيئا في وضعية النساء العربيات ؟
عندما أكتب عن النساء العربيات لاأتساءل كم ستغير كتاباتي من وضع المرأة العربية. لديّ دافع قوي للكتابة لايمكن كبحه في موضوعة ثقافية أو فكرة محدّدة. الكاتب هنا مثل الشجرة التي تحمل ثماراً كل سنة. هل حصل أن تساءلت شجرة : لايطيب لي أن أحمل ثماراً هذه السنة لأنّ من يتذوقون طيبات ثماري لايعاملونني كما أريد .
قل كلمتك وامضِ ولاتلتفت لما يحصل الآن أو ماقد يحصل لاحقاً . أوقنُ أنّ الكلمة الطيبة لابدّ أن يكون لها صدى طيب في زمن قَصُرَ أم بَعُدَ.
7ــ ما الذى يحكم اختياراتك للترجمة ؟ هل ترشيح دور نشر أو جهة أم اختيار شخصى؟ وهل تميلين للكتب ذات الصبغة الفلسفية؟ ولماذا ترجمتِ كتاب ” الثقافتين” رغم سبق ترجمته ؟
معظم الكتب التي ترجمتها هي اختياراتي الشخصية باستثناء كتابين أو ثلاثة رشحتها دار النشر التي أعمل معها ( دار المدى العراقية ).
أميلُ للكتب الفلسفية والعلمية (الفيزيائية بالتحديد) والانثروبولوجية والكتب التي تتناول تاريخ الافكار بعامة .
كتاب ( الثقافتان ) ترجمته لولعي الشخصي الكبير به. أعلم أنه كان مترجماً؛ لكني في ترجمتي لكل كتاب أعمل على خدمة الكتاب عبر كتابة مقدمة وافية عنه وإضافة حوار مع المؤلف – لو وجد -، فضلاً عن ترجمة مراجعة أو إثنتين للكتاب من تلك المراجعات المنشورة في الصحف أو المجلات الثقافية العالمية الرصينة .
8ــ “مدنى وأهوائى” كتاب مجمع لرحلات متعددة، لكنى أراه كتابا تعريفيا ثقافيا بالدرجة الأولى، ماذا أضفت لفن كتابة الرحلات ؟
ماأضفته هو تعشيق فن الحكاية مع الرحلة بحيث تصبح الرحلة تمريناً واقعياً في السرد الروائي. أنت عندما تقرأ رحلاتي لن تقرأ سرداً محايداً مكتوباً بعين ترصف المشهديات بطريقة تلقائية روتينية؛ بل كأنك تقرأ رؤى ثقافية وفصولاً في رواية حقيقية .
9ــ ” هشاشة الروح لدى النساء” هل قصدت فعلا فى ” سيدات زحل” الكشف عن هشاشة المرأة العراقية والعربية عامة؟ هل تطور أحوال النساء العربيات يرضيك ؟
ساءت أحوال المرأة العربية -والمجتمع العربي بعامة- بطريقة ممنهجة منذ بدايات العقد الثمانيني من القرن الماضي وحتى اليوم .
زرتُ مصر في ستينات القرن الماضي وتجوّلتُ في كبرى مدنها ( القاهرة والاسكندرية). كانت النظافة والتنظيم والمرأة التي ترتدي موديلات نسائية بسيطة وغاية في الاناقة هي المعالم الرئيسية التي لاتكاد تغادر ذهن الرائي؛ أما اليوم فأصاب بالحسرة عندما أرى حشوداً من النساء المنقّبات في قلب حرم الجامعات المصرية. أغتيلت بدايات الحداثة المنشودة بكل قسوة .
ماحصل في مصر هو ذاته ماحصل في العراق وسائر البلدان التي عوّلنا عليها لتكون مشاعل التحديث العربي .
ماذا يبقى لي وانا أرى هذه الارتكاسة النكوصية سوى أن أكتب عن تراجع حال المرأة العربية من جهة ،وعن قوة ومقاومة الكثير منهن سواء في روايتي ( سيدات زحل ) أو في سواها. هناك بين النساء من تحاول تهشيم الفقاعة الكلسية المصبوبة حول عنقها؛ لكنّ الاكثرية الساحقة من النساء إستطابت المكوث في منطقة التبلّد وخدر الحواس بما يبدو وكأنه تغييب طوعي للوعي .
10ــ مسرحياتك “الليالي السومرية – الشبيه الأخير- كوميديا سوداء – مسرحية الكرة الحمراء – قمر أور- شبح كلكامش : هل اخترت الحوار مع الواقع من خلال القناع التاريخى ؟
نعم ، إخترتُ الحوار مع الواقع من خلال قناع تاريخي ( شخصية ملحمية على طراز كلكامش مثلاً ) مترافقاً مع إعادة تكييف السردية التاريخية لكي تصبح مطواعة لتمرير فكرة حديثة أريدُ إسقاطها على الواقع المعاصر . الموضوعات السياسية التي تتناولها الاعمال المسرحية لايحبذ تناولها بطريقة إحتكاكية خشنة وإنما عن طريق المقاربة الفكرية التي تتوسّم تفعيل ذكاء المشاهد وتنشيط ذاكرته البصرية لكي تتقن فنّ فك التشفير الكامن بين الافكار الخبيئة في ثنايا المشهديات المسرحية .
11ــ علاقتك بالشعر .. هل قتلتها الحروب والمجاعات والسفر الطويل .. أين الشعر فى حياة مثقفة كبيرة مثلك ؟
أنا لستُ كائناً شعرياً بطبيعتي برغم شعرية لغتي في بعض اعمالي السردية. الشاعر الذي أحب قراءته دوماً هو ( ويليام بليك ) الشاعر المتصوف الرسام و الشاعرة ( أنا أخماتوفا) .ما احبه في الشعر أن يكون أقرب للصلاة الربانية : عندما تريد كتابة الشعر أكتبه بينك وبين نفسك وتلذذ به في خلوتك. يبدو لي أنّ الشعر صار صنعة متاحة لكل راغب بشهرة متعجلة كما يحصل مع كتابة الرواية ،بسبب ماقد يتوهمه البعض من عدم حاجة الشاعر والروائي إلى اعداد ثقافي واسع وتجربة عيش ثرية .
12ــ قلت فى حوار لك “لم يعلمني أحد كيف أكتب، إنما كنت أكتب حسب” بشكل عام مَنْ من الكتاب العرب تحديدا كان له أكبر الأثر على اتجاهك وأسلوبك واهتماماتك ؟
نجيب محفوظ : الذي جعل القراء العرب وغيرهم – وهم في أمكنتهم – يتعرفون التضاريس القاهرية وحياة الناس في مصر حين قدمها على نحو ملحمي ممتع وفريد وغير مسبوق .
محمود أمين العالم : الماركسي المثقف الذي أرى أنّ كتابه ( فلسفة المصادفة ) كتاب غير مسبوق في وقته ( منتصف خمسينيات القرن الماضي )
زكي نجيب محمود: الفيلسوف النبيل الذي سعى لإشاعة الفكر العلمي والتفكر الفلسفي في أوساط مجتمعنا العربي، وكان له دور مؤثر في الصحافة والمجلات الثقافية العربية
فؤاد زكريا: مثال الفيلسوف متعدد الاهتمامات الذي سعيتُ لكي أتمثله .
13ــ هل يعتزل الكاتب ؟ هل راودتك هذه الرغبة فى إراحة العقل ؟
المسألة ليست مشروطة بالرغبة بل بالامكانية أيضاً. حتى لو أراد الكاتب الحقيقي طلب الراحة فهل يستطيع ذلك؟ قد يقبل بالابتعاد عن الكتابة يوماً أو يومين أو شهراً أو حتى سنة؛ لكنه في النهاية سيعود للكتابة. الكتابة عند الكاتب الحقيقي تصبح مثل رئة يتنفس عبرها وعينا إضافية تعين بصره وبصيرته .
لاراحة في الابتعاد عن الكتابة. هذا وهمٌ لن أقع في مصيدة خديعته .
 

*- حوار  ابراهيم حمزة في ( الاهرام العربي)عدد السبت 8 ابريل -نيسان

 

شارك مع أصدقائك