زها حفيدة الحضارة السومرية، وابنة ذاتها، وأم العمارة الحداثوية
عنفوان فؤاد- الجزائر
تتحدّد قيمة العمل الفنيّ من خلال تفعيل دور الزّمن الذي عاصره، مع ضرورة تحويل الحاسّة إلى باحث في ماهية هذا العمل المحسوس كالعمارة، وذلك يتمّ بمحرّك داخلي اسمه المخيال. ومن هنا نطرح تساؤلاتنا، هل العمارة علمٌ هندسيٌّ جمالي سجين الورق كما تمّ وصم المعمارية “زَها حديد”، وهي التي اِغترفت من منابع التشكيل السومرية، كونها جدّدت فنّ العمارة وأطلقت العنان لمخيالها، أم أنّها تحدّت جمود المكان وجعلته سائلًا مطواعًا يُشيّد عمارة مخيالها وتحرير صوتها الأنثوي، حتى أنّها نقلت هذه الشاعرية الناعمة؛ في ظاهرها المتينة في جوهرها؛ لتعبّر عن مدى قوّة الأفكار والتي بإمكانها أن تتحدّى عاملي الزمان والمكان. ولا يمكن غضّ الطرف عن تأثيث وتأنيث العمارة في قاموس “زَها حديد”، عملًا بمقولة ابن عربي: “المكان الذي لا يُؤنّث لا يُعوّل عليه”، التعويل هنا لم يبقَ حبيس الفكرة أو الرغبة، إنّما تجاوزها إلى حيّز التطبيق.
“زَها حديد” والتي كان لها حظًا من اسمها أو ربما اسمها الذي تلبسّها ليصبح بصمة العمارة. فكان لها أن طوعّت المادة وألانت الحديد كما يجب، وتعاملتْ مع الاسمنت كعجينة تُشكّلها حسب رؤيتها لا كما علّموها في المعاهد والجامعات، وشيّدت الفراغ وأثّثت الخيال.. فانتشرت تصاميمها على الجهات الأربع، تاركة أثرها وإرثها وخطّها المعماريّ في 44 دولة حول العالم.
“زَها” صاحبة 950 تصميم معماريّ، محرّرة العمارة من الوصاية الذكورية، مثبتة أن لا علاقة للجندر بالعديد من المجالات طالما العمل يقدّم نفسه قبل صاحبه.
لقد انتزعتْ زَها احترامًا عالميًّا، فهي ليست امرأة خرسانية بقدر ما هي جمالية، وتُعتبر أوّل معماريّة تحصل على جائزة (بريتزكر) في الهندسة المعمارية عام 2004، وبريتزكر في قيمتها تعادل نوبل في الهندسة، كما حصلت على وسام الإمبراطورية البريطانية والوسام الإمبراطوري الياباني عام 2012، وحازت أيضا على الميدالية الذهبية الملكية ضمن جائزة (ريبا) للفنون الهندسية عام 2016، واحدة من أرفع جوائز العمارة في العالم، والتي يبلغ عمرها 167 عاماً ولم يسبق وأن حصلت عليها امرأة وحدها من قبل (هناك بضع نساء حصلن عليها مناصفة)، وحصل عليها عظماء العمارة أمثال (لوكوربوزييه) و(آي.إم.بي) و(شيبرفيلد).
أُطلق عليها لقب (ملكة المنحنيات) كونها فتحت الزوايا وجدّدت من أسلوب العمارة، مُغيّرة المفاهيم والنظريات، وهي صاحبة المقولة الشهيرة:《هناك 360 درجة، فلماذا نَعْلقُ في واحدة لا غير!》وكأنّها توجّه كلامها لمعشر المعماريين التقليدين حتى يخرجوا من سجن النظريات، إلى حريّة الآفاق، كما تدعو المتلقي ليختار أي زاوية شاء وينظرها فيرى ما أرادتْ منه رؤيته. ولمْ تكتفِ زَها بأنثنة المكان بل زادته اللّمسة الإيروسية حيثُ جعلت تارموماتر الرغبة يتحرّك في معالمها، ونلمس ذلك بشكل جليّ في تضاريس ومنحنيات العمارة التي تميّزت بها أعمالها، حتى أنّك كمتلق تستشعر سيولة وانسيابة المادّة التي في أصلها صلبة، ساكنة، وخرسانية لتصبح ليّنة ومغرية في نفس الوقت، مجدّدة تعقيداتها وغموضها ضاربة عرض الحائط بذكورية العمارة التي أشار إليها شاكر اللعيبي في مؤلّفٍ خاصّ، مستحضرة تكوّر الجسد الأنثوي وفي هذا توكيدٌ على عدّة أعمال جسدّتها على أرض الواقع مثل (ملعب اللؤلؤة نادي الوكرة في قطر) و(مطار بكين في الصين)، معرّية بذلك المفاهيم المضلّلة التي تحيط بكل ما هو أنثوي، والذهاب إلى أقاصي الّلذة والتي ترفع الحرج عن المتلقي ليصبح شريكًا يستأنس بتلك الملامح والإيحاءات طالما ثمّة شريك حقيقي يلازمه منذ الخليقة. لم تنشغل “زَها” بماديّة الأشياء والحيّز الذي تضعها فيه بقدر اهتمامها بماهية العمارة وتحريرها للمكبوت المتوارث وهذه هي سمة الفنون ككلّ. فالمكان لم يقع عائقًا أمام خيال “زَها” بل تجاوزته بثقة الأنثى المتمكّنة إلى الفضاء المفتوح على كلّ الاحتمالات ومن ضمنها البُعد الذي يناسب أعمالها لتقيم عليه عمارة أفكارها. ولم تعوز تأليفات “زَها” إلى معونة ذكورية لتحقيق ذلك معلنة استقلاليتها وتجرّدها منه.
من سِماتِ عمارة “زَها حديد”، التفرّد والانسيابية مع المحيط الذي تتواجد فيه، بلمسة أنثويّة تميّز ذائقتها ونعومتها بتدارك المادّة المشتغلة عليها، مع فتح الزوايا وعدم الارتكان إلى واحدة دون غيرها، كاسِرةً بذلك نظرية التناظر والتقابل والانعكاس، إنما انشغلت واشتغلت على تكميم الأفواه التي اتهمتها بأنها مهندسة الورق، كون تصميماتها المعقدة من المستحيل أن تُشيّد على أرض الواقع، فكانت قدر التحدّي ولوت ذراع المستحيل، وجعلت من الأماني حقيقةً ملموسةً قابلةً للسكن والعمارة.
تعاملت “زَها” بذكاء وفطنة مع الفضاء والمكان والمناخ قبل التورّط في أيّ تصميم، كيف لا وهي ابنة المناخ المتقلّب والطبيعة الصامدة، فحسبتْ حساب كلّ تلك التفاصيل لتأتي تصاميمها حسب طبيعة المكان، فحين تعاملتْ مع مدينة “دبي” جعلت من المعلم مواكبًا لناطحات السحاب وحداثة التصاميم هناك. فكان معلم (The Opus) خاويًا في الوسط كأنّه عينًا مفتوحة ترصد كل ما حولها دون رمشة واحدة. وقد فاز هذا المعلم بجائزة مشروع الترفيه والضيافة لعام 2017. لدينا أيضًا مقر (شركة بيئة) في الشارقة، والذي جاء شبيهًا للكثبان الرملية التي تتميّز بها صحراء الشارقة.
اشتغلتْ “زَها” على الفراغ وشغلت كتلة السكون، فصهرتْ الفضاء وسكبته في قالب الرؤيا، لم تكتفِ بالاشتغال على العمارة بمفهومها البنائي وعصرنتها شكلًا فحسب، بل رسمت حدودًا جديدة لِعلاقة الكتلة بالفراغ.
وضعتْ “زَها” بصمتها وإمضاءها في ذاكرة التاريخ، رغم أنف العالم الغربي وقبله العربي، فليستْ بحاجة إلى أدنى مناسبة لنتذكّرها فما شيّدته يصدح باسمها وفعلها، والأثر والإرث الذي تركته يجدّد سيرتها واسمها في ذاكرة الهندسة المعمارية التي لا تبلى بمرورِ السنين، تمامًا كما الحضارة التي قدِمت منها، حضارة بابل وبلاد الرافدين والحدائق المعلقة.