حوار مع الشاعر العراقي خزعل الماجدي
*حاوره وديع شامخ
*-شعراء أي جيل يبدأون متجمعين وينتهون متفرقين دائما وهذا أمر طبيعي وهو ما حصل مع الجميع.
*- ان الشعر هو جوهر الدين والدنيا
*- إننا شكّلنا الطليعة المبدعة لجيل السبعينات، وأنا شخصيا أعيش عافية شعرية وروحية وفكرية
*- دائرة أجيال ستبدأ بعد 2003 ولكن هذه الدائرة قد لا تنتج أجيالا عقدية
*- لا يقاس الشعر بمدى حداثته بل بمدى شعريته
*- السياسة تحتقر الشاعر وتستخدمه وتجعل منه خرقة لمسح وجهها القبيح
*-الأسطورة في الشعر ليست كولاجا واسماء وسرديات ضمنية، بل هي شحنة وقوة نتحسس كهرباءها وروحها
*- أريد ان اجمع منجزي الشعري وفق تبويب اجناسي يتيح للقارئ والناقد رسم صورة كلية له
*-– قصيدة النثر آخر أشكال من القصيدة والتي تستعير من القصيدة شكلها الكتابي المقطعي
*- لا يوجد أدب داخل/ أدب خارج ، هناك أدباء في الداخل وأدباء في الخارج والفرق كبير
*- الصحافة قد تنفع الروائي ولكنها لا تنفع الشاعر كثيرا.
………
لقد شهدت فترة السبعينيات في العراق تحولات مهمة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كما شهدت الحياة الثقافية والفكرية العراقية نوعا من التعددية النسبية ، او هكذا أُريد لها من قبل القائمين على الأمر آنذاك، في هذه الحاضنة القلقة، نشأ الجيل السبعيني الشعري، فقدُم رسميا على انه جيل شعراء السلطة وفتحت كل الأبواب أمامهم لتسويقهم كشعراء مجيرين لمقارعة الأصوات الشعرية التي أنتجتها او رعتها الحركات السياسية المتنافسة والحليفة الأخرى. فأنقلب السحر على الساحر، واستثمر شعراء السبعينات( النخبة الواعية منهم) هذه الفرصة لتأسيس مشروع إبداعي جمالي بعيدا عن عقلية السلطة أولا، وبعيدا عن مثقفيها الذين كانوا في ريبة من طروحات هذه النخبة المنفلتة من عباءة الحقل السياسي الحاضن، والمخلصين لمشروعهم الشعري و المستفيدين من كل ممكنات الحاضنة آنذاك.
الشاعر خزعل الماجدي واحد من الأصوات الشعرية المهمة الذي شهد وشارك في ولادة هذه المرحلة بكل ملابساتها. خزعل الماجدي الذي راهن على ما يصح، فأدار ظهره للسياسة، ومضى الى الشعر بقامة لم يلوثها يوما بقصيدة صفراء، سار بالشعر والمعرفة الى ما يجنبه الوقوع في أغراض خارج إبداعية ، اجتهد هنا واصاب، واجتهد هناك فحاول وأستثمر . اجتهد في دروب الدرس باحثا لكن الشاعر في خزعل لم ينطفئ . في الوقت الذي تهالك آخرون من الشعراء للوقوف في طوابير الأغراض الشعرية المدفوعة الثمن. وبما ان الحياة العراقية تواجه اكبر امتحان بعد سقوط الصنم ، سيكون حواري مع خزعل الماجدي نوعا من المكاشفة لدور الشاعر في الحياة قبل وبعد سقوط الصنم ، وعن المدى الذي يتواصل الشاعر في ماراثوان ليس المطلوب منه ان يكون منتصرا دائما. المهم ان تبقى النار في قبضة الكائن الشاعر، لا يسرقها أحد. فهل كان خزعل الماجدي سارق نار وأضواء، أم قابضاً على جمرة الشعر والحياة ؟
|
س1-طقسك الشعري هو الأشد جاذبية في مجمل اهتماماتك ككاتب مسرحي ومثيولوجي ومؤرخ أديان ومنظر أدبي.. بل لعلك صاحب خصوصية شديدة في هذا الطقس وكأن الشعر بدا عندك كما لو انه دين، فتوشح العالم والتاريخ بغلالة الشعر ولا تتنازل أبداً عن اعتبار الشعر مشغلا مقدسا، كيف ستبقى ثابتا في هذا (المشغل المقدس) ورياح الدنيا الآن تهب علينا وبكل وساخة من كل الجهات؟
ج- ما أروع وصفك للشعر ب(المشغل المقدس).. نعم هذا هو الشعر عندي لا يتزحزح عن مكانته هذه، أنا كائن لا ارضي.. ولقد رفعني الشعر ذات يوم الى السماء وما عادت مشاغل الدنيا عندي سوى( عفطة عنز) كما تقول شقشقية الإمام علي بن أبى طالب. يهبنا العالم مادة نيئة لكن الشعر هو الذي يُنضجها ولا فائدة من هذا العالم كله بلا شعر، الشعر هو روح العالم . .كنت وما زلت أرى ان ما يربط المقدس الديني بالمدنس الدنيوي هو الشعر، فهو يربط جوهر الدين والدنيا معا بل إذا شئت القول ان الشعر هو جوهر الدين والدنيا.
س2- ألا ترى انك تسلب الشعر عفويته ودهشته الأولى عندما تكبله بهذه الرؤى؟
ج – صحيح ان الشعر بسيط وعفوي مثل ضحكة طفل أو رفة جناح فراشة.. نعم هذه التجليات العفوية هي الشعر ولكن هذه التجليات تخضع لتماسك جوهري هو نبض الحياة الذي هو الشعر من وجهة نظري. والشعر ليس معرفة او عقلا او وعيا متماسكا، ولكنه روح خافق ينطوي على معرفة سرية نشعر بها ولا نعرف تفاصيلها.
لقد كان الدين مستودعا ضخما لانشغالات الروح او هكذا يبدو الأمر ، لكن الروح كانت تفيض ثمارا خارج الدين. وقد حصل ذلك مع الفن والسحر ، لذلك توجب علينا القول ان الشعر هو الذي كان مستودعا ضخما لانشغالات الروح سواء بالدين او الفن او السحر، ذلك ان الشعر هو جوهر هذه الاهتمامات . المسألة ليست بالأسبقيات أو الحجوم لكن الشعر هو نبض العقل السري ونبض الروح عندما تفيض في عدّة حقول وتتحول الى فنون واديان وآداب وعلوم. باختصار شديد: الشعر هو الكلمة الخالقة (اللوغوس) أي هو الكلمة المبدعة وهذه الكلمة هي أساس العالم.
س3- لعلك تتذكر (خمسون بيضة فاسدة في سلّة الشعر السبعيني)عندما اجتمعت أنت وزاهر الجيزاني وسلام كاظم وفاروق يوسف للرد على الاتهامات التي وجهت إليكم عام 1983 والتي تتهمكم بمحدودية المعرفة بالتراث والشعر واللغة الثانية…الخ. من فَسَد برأيك الشعر أم الاتهامات؟
ج- الاتهامات طبعا.. لأنك لو عدت لها فإنك ستلاحظ مدى التهافت التي انطوت عليه، وإذا وضعنا الزمن حكما عليها فسنرى بأننا بعيدين عن أي منها مثل عدم معرفتنا للتراث والشعر وعدم الثقافة… حقيقة الأمر إننا شكّلنا الطليعة المبدعة لجيل السبعينات وما زلنا كذلك. وأنا شخصيا أعيش عافية شعرية وروحية وفكرية جيدة وما زلت أسعى لكتابة الجديد دائما.
س4- لم يشهد المشهد الشعري العراقي احتداما صارخا إلا بولادة مفهوم ( الجيل) وقد تناوبتم على حراسة هذا المصطلح بعد ان تبنوه ( الستينيون) وجعلوه ترسا تحصنوا به واعتبروا أنفسهم الخلاصة الوحيدة لما قبلهم والمدرسة الوحيدة لما بعدهم.. فهل الشعر برأيك في حاجة الى سجن جديد مع تغير نوع معدن الأغلال؟
ج- لم تظهر بالعراق تجمعات فنية وادبية تحمل أسماء ومضامين عملها مثل السريالية، التكعيبية، الواقعية، الرمزية…الخ، وهو ما حصل في الغرب حيث النمو الطبيعي لظواهر الأدب والفكر، أما في العراق والوطن العربي عموما فلم تظهر مثل هذه التجمعات النوعية، فظهرت تجمعات عقدية كان من السهل إطلاق اسم العقد عليها، فالجماعة التي تظهر في الخمسينات تعيش مناخ واحد وتنتج نمطا معينا من الأدب ولذلك يطلق عليها جماعة الخمسينات وهكذا. وهذا التقسيم الجيلي يستند الى أسس واقعية على الأرض، فالعراق شهد بعد الحرب العالمية الثانية تحولات نوعية سياسيا واجتماعيا فظهر الرواد ثم جيل الخمسينيات، وبعد عام 1958 حدثت تحولات نوعية فظهر جيل الستينات، وبعد عام 1968حدثت تحولات جديدة فظهر جيل السبعينات، وبعد الحرب العراقية الإيرانية حدثت تحولات هزّت نسيج المجتمع العراقي وكيانه فظهر جيل الثمانينات، وفي(1991 – حرب الخليج الثانية والحصار) حصلت تحولات جديدة فظهر جيل التسعينات. وارى ان دائرة الأجيال هذه التي بدأت منذ 1947 وحتى 2003 واستغرقت نصف قرن بالضبط أظهرت لنا ستة أجيال وخصوصا في الشعر( رواد، خمسينيون، ستينيون، سبعينيون، ثمانينيون، تسعينيون) وقد أقفلت الدائرة حيث الاحتلال وسقوط النظام السابق واعادة بناء العراق دولة ومجتمعاً. حصل هذا ولا يستطيع أحد ان ينكره، ولنكن واقعيين في ذلك لعدم وجود فرصة لظهور تيارات نوعية وتجمعات خاصة لان سياقنا الحضاري لا يشبه السياق الحضاري للغرب. ولعدم وجود مدارس كبرى في الفكر والفلسفة والسياسة والفنون والعلوم الإنسانية . لذا كان التجييل واقعيا، وأنا أخالفك الرأي إذ لم يكن هذا التجييل سجنا أو سجونا للشعر بل العكس هو الصحيح. فعندما يحتكر الشعر جيل يظهر جيل أخر ليحرر هذا الاحتكار ويضيف للشعر لوناً ونكهة اخرى وهكذا تجد ان الشعر العراقي أنجز في نصف القرن الماضي أربعة أنواع كبرى من الشعر هي( التفعيلة، قصيدة النثر، قصيدة النص، النص المفتوح).
س 5- وهل كل هذه الإنجازات الشعرية النوعية هي من نتاج الحقب العقدية وشعرائها فقط ؟
ج- لا طبعا فهناك إضافات أنتجتها إتجاهات وألوان تمثلها جماعات وتكتلات أو أفراد داخل وخارج العراق. أعود للتعليق عن سؤالك السابق ، واعترف بحرية الشعر ولكنه ليس مثالا معلقا في الهواء لا طعم ولا لون ولا رائحة له. لقد عاش الشعر العراقي تحولات كبيرة على ضوء التحولات السياسية والاجتماعية ومدى تفاعله مع الشعر العالمي ، وهذا أمر لا نجد له نظيرا في كل الوطن العربي. فليس هناك أحقاب جيلية مكتنزة في أي بلد عربي مثل العراق، ولذلك فالشعر العراقي يتحول ويثور ويتبدل في كل فترة حسب الظروف التي فيها او التي تحركه.ثم إننا لم نحرس مصطلح الجيل بل كانت الأجيال تتدفق رغما عنا،ولو أننا حرسنا مصطلح الجيل لكنا تمترسنا في جيل السبعينات ولم نسمح بظهور ما بعده. ولكن دعني أقول لك شيئا ان شعراء أي جيل يبدأون متجمعين وينتهون متفرقين دائما وهذا أمر طبيعي وهو ما حصل مع الجميع.
س6- وهل انتم متفرقين الآن كجيل سبعيني بعد ان كان صوتكم الجمعي عاليا؟
ج- نعم .. فكل واحد في مكان ولكل واحد منجز مختلف عن الآخر. عندما نتحدث عن الماضي ندافع عن الجيل وفكرة ظهوره ،وعندما نتحدث عن الحاضر ندافع عن منجزات كلّ منا على حدة ، لأن الجيل بعد مرور عقدين واكثر عليه يذبل كفكرة وينشط كأفراد وتكون هناك ولادة ثانية لكل شاعر وهي الولادة الحقيقية.
س7- وهل هناك ولادات متعددة للشاعر؟
ج- نعم، هناك الولادة الأولى التي هي عادة من رحم الجماعة أو البيئة التي يعيش فيها أما الولادة الثانية فتكون عندما تسقط مشيمة الجيل ويبدأ الشاعر بنسج مشروعه الفردي الخاص، وارى شخصيا ان هناك ولادة ثالثة للشاعر عندما يتحول الى كائن شعري عظيم وينسلخ عن الأدب والأدباء ويرتفع فوق ميوله واهوائه ويخلق له كيانا روحيا عظيما.
س8- طرحتَ وجهة نظر جديدة حول الأجيال الشعرية في العراق على صفحات مجلة الأديب وفي اتحاد الأدباء في مهرجان الجواهري، هل من إضاءة لوجهة نظرك ؟
ج- لقد أشرت الى الجهد الشعري العراقي في النصف القرن والذي بدأ منذ 1947 الى 2003 وما رافقه من إنتاج ستة أجيال وهي منقسمة الى قسمين متجانسين يضّم كل منهما ثلاثة أجيال مع بعضها قدّم القسم الاول( الرواد ، الخمسينييون، الستينيون) أول دفعات التجديد، وقدّم القسم الثاني ( السبعينيون، الثمانينون، التسعينيون) التنوع الأجناسي للشعر العراقي والعمق الجمالي والروحي له .و لكني أرى ان دائرة أجيال ستبدأ بعد 2003 ولكن هذه الدائرة قد لا تنتج أجيالا عقدية بل أجيالا هي عبارة عن مجاميع متكتلة مع بعضها على قضية أو لون شعري ، فربما نسمع بشعراء المائدة او شعراء الروح او شعراء الوردة …الخ. لكن مسيرة الشعر العراقي ستتصاعد نوعيا بعد وهلة تعب تستمر لسنوات بعد 2003 ثم تنهض الشعرية العراقية بدم جديد وافق جديد وطروحات جديدة وتجمعات جديدة.
س9- ارتبط ظهور جيل السبعينات الشعري بمناخ سياسي أتاح لكم كلّ هذه الجرأة وسوّقكم كأبناء لتحدي الأسماء الشعرية في الأجيال السابقة لكم في مرحلة السبعينات السياسية في العراق .. ما هو تعليقك؟
ج- يبدو لك هذا الأمر ظاهريا، فعلى (حكومة) تريد تحريك عجلة المرور في الحقل الثقافي، وقد أرادت حكومة السبعينات ان تظهرنا كأسماء جديدة. ولكن مثقفي السلطة آنذاك كانوا كلهم من الستينيين ، بعثيين وشيوعيين ، ولا اعتقد انهم فسحوا المجال لنا لكي نواجههم ونتحداهم. دعني اصف لك المشهد بكل صراحة، في بداية السبعينات ظهرت بشكل عفوي ثلاثة تجمعات أدبية في مدينة ( الثورة) في بغداد وتحديدا في ( الداخل ، الجوادر ،مكتبة العباس بن الأحنف)وكانت هذه التجمعات العفوية تضم شبابا لا علاقة لهم بالسياسة أو بعضهم كان شيوعيا، وسرعان ما اتصلت هذه المجموعات ببعضها، واتصلوا بعد ذلك بشباب مثلهم في بغداد الجديدة وكلية الآداب. ومن هذه التجمعات الخمسة نشأ جيل السبعينات في العراق،ولم يكن بتوجيه من أحد. التأثيرات السياسية المبرمجة ظهرت لاحقا، وكانت اغلبها ضد النظام ، فبعد أن أفلت الشيوعيون واختاروا المنفى لم يحصل النظام على ما يريد من الذين بقوا في العراق لأننا اخترنا العمل الفني في الشعر ونبذنا كليا العمل السياسي. ولذلك وجه النظام ثقله على نوعين من الأدباء : شعراء وأدباء الحرب وشعراء المهرجانات ثم قصائد المديح. ولم يكن جيل السبعينيات( اعني النخبة النوعية من الجيل السبعيني) بين النوعين . وهكذا تجد ان الكلام الذي قلته يراد منه النيل من الشعراء الذين عملوا بصبر على تطوير الشعر في السبعينات ثم في الثمانينات.
س10- في ملتقى تموز الإبداعي عام 1995 أعلنت موت الحداثة، ما هو مفهومك للحداثة شعريا وما فرقها عن التحديث، وما هي مسوغاتك لموتها؟
ج- (موت الحداثة) جاء لتصحيح مسار الحداثة وليس لقتلها. فهو ينقد بصراحة أيديولوجية( الموديرنزم) ويفتح الأفق للتحديث ( الموديرنتي)، انه يحاول ان يخلّص الحداثة من عصابها الأيديولوجي المتزمت. التحديث قدرنا الأبدي أما الحداثة فمرحلة من مراحل التحديث والتي بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر في الغرب وهي على وشك الغروب الآن. أما التحديث فموجود من منذ اقدم العصور وما زال مستمرا وسيبقى.
س11- هل تنظر الى الحداثة كمعيار لقياس جودة وجدّة الشعر؟
ج- لا يقاس الشعر بمدى حداثته بل بمدى شعريته، لقد قدّمت لنا الفطرة الإنسانية أعظم أنواع الشعر في الحضارات السومرية والبابلية والمصرية والكنعانية والصينية والهندية وغيرها. ومازلنا نرى الشعر نقيا عالي الشعرية في فلكلور الشعوب. ليس الحداثة هي مقياس جودة الشعر لكنها آلية من آليات تصنيع شعر جيد وقد لا تنجح في ذلك خصوصا إذا غاب عنها الصدق ولم تسخنها حرارة التجربة.
س12- (عزلة في الكريستال ) قصيدتك التي مسرحها صلاح القصب وقال عنها: لا يفهما غير الشعراء والسحرة.كيف تنظر الى عزلة الشاعر وغربته في وطنه وخارجه وما تأثيرها على مشروعه الإبداعي ؟
ج- الشاعر غريب عن عصره وأهله وبلده أصلا، وهو يخوض في العزلة دائما، ولكني اخترت عزلة صلدة في ( عزلة في الكريستال) وكتبتها بكثير من الألم في منتصف الثمانينات من القرن الماضي لاني شعرت بامتهان الشاعر وكيف ان السياسة تحتقره وتستخدمه وتجعل منه خرقة لمسح وجهها القبيح. شعرت ان الشاعر قد ينحدر في لعبة الامتهان وينسى دوره العظيم . شعرت ان كلّ شيء في العراق آيل الى الهاوية. لذلك كتبت هذه القصيدة التي تلقفها صلاح القصب وجعل منها مسرحية عرضت 1990 في كلية الفنون في بغداد. كانت عزلتي من كريستال.. ومازالت عن كل قبيح وهزيل ومنافق ولا أخلاقي.. ولكنها ليست عزلة عن الناس والحياة والعصر ونبض الحاضر. قد لا تتحمل أعمارنا بحكم قصرها الى الكثير من ضياع الوقت ولذلك علينا ان نحافظ على وعي ثاقب ونغامر في الحياة، أنا مع الحياة أولا ولكن الإبداع يعمّق رؤيتنا للحياة ولا يجعلنا في عزلة.
س13- في الوقت الذي ابتعد الكثير مكن الشعراء عن توظيف الأسطورة ولجأوا الى صنع أساطيرهم الشخصية، أراك في خزائيل واسرافيل ودلمون إنهمكت في اسطرت نصك ، كيف تتعامل مع الأسطورة شعريا؟
ج- الأسطورة في الشعر ليست كولاجا واسماء وسرديات ضمنية، بل هي شحنة وقوة لا نتحسس آثارها المادية كالأسماء والكولاجات والسرديات بل نتحسس كهرباءها وروحها الداخلي. ولم تكن الأسطورة مرجعيتي الوحيدة فهناك الكثير من المرجعيات السحرية والروحية.
س14- ( فيزياء مضادة) مجموعة شعرية نشرتها تحت عنوان فرعي 100 قصيدة نثر عام 1997 عن مكتبة المنصور العلمية، وكانت على شكل قصائد قصيرة مركزة خارج التوصيف العام والمعروف لأسلوبك في منجزك السابق ، ماذا شكلت تجربة المضاد الفيزياوي من إضافة وأهمية نوعية لمشروعك الشعري؟
ج- ( فيزياء مضادة) لم تأت خارج التوصيف الجديد للشعر، فقد كانت جزءا من مشروعي الشعري وفي حقل قصائد النثر، فقد نشرتها مفردة عام 1987 ثم في مجموعة عام 1997 ، أي بعد عشر سنوات ، وقد نشرتها في المجلد الاول للأعمال الشعرية ليّ مع خمس مجموعات أخرى كلها من قصائد النثر.
س 15- لقد قرأت هذا المجلد الأول وقد قدمتَ له مهادا نظريا عن الشعر الشرقي بوصفه مرجعيتك الأولى لكتابة قصيدة النثر، فهل أنت جاد في إصدار أجزاء أخرى لتجربتك الشعرية والكشف عن مصادرك ومرجعياتك لكل تجربة يحتويها المجلد الآخر؟
ج- هذا سؤال مهم ، فأنا أنتجت أعمالا شعرية كثيرة وفي مختلف أجناس الأداء الشعري وظل الكثير منها غير منشور أو غير مصنف على أساس جهودي الشعرية في هذه الأجناس ، لذا سيصدر المجلد الثاني وهو يضم قصائد التفعلية مع مجموعة نثرية وهي( خواتم الأفاعي) وسيضم المجلد الثالث نصوص مفتوحة( عكازة رامبو، حيّة ودرج، خيط العبور، حمام كركوك، فلم طويل جدا..) أما المجلد الرابع سيغطي خزائيل ب12 جزء وهو الشعر الذي أسميته ب( الغنوصي) . اعترف ان بعض أجزاء المجلدات القادمة غير مكتملة لكنني أشتغل على إكمالها. أريد ان اجمع منجزي الشعري وفق تبويب اجناسي يتيح للقارئ والناقد رسم صورة كلية له. وستكون لكل مجلد مقدمة نظرية، في المجلد الثاني سأتحدث عن السحري والايروسي ( كيمياء اللغة والجسد) ، وفي الثالث عن النص المفتوح، والرابع عن الشعر الغنوصي الكبير الذي كتبته في أقسى الظروف.
س16-أراك مشغولاً بالتنظير لكل مجلد من أعمالك الشعرية . هل ترى هذا ضرورياً إذا فهمنا ان المقدمات النظرية لكل عمل إبداعي قد تفسد التلقي، سيما وان هناك شعراء طرحوا رؤيتهم النظرية عن الشعر دون الحاجة الى هذا القسر المرافق لكل تجربة شعرية تطرحها عبر الأعمال الشعرية؟
التنظير فاسد إذا جاء قبل التجربة، فأنا لا اكتب تنظيرا قبل ان تكون التجربة الشعرية قد انجزت، واما عن التنظير البحت فقد صدر ليّ أخيرا كتاب بجزأين عنوانه( العقل الشعري) عن دار الشؤون الثقافية في العراق. لذا فان مقدماتي النظرية عن كل تجربة شعرية ليّ هي إضاءة أو مفتاح لقراءة نصوصي ولم الزم القارئ بها ، وعلى من يجد أنها غير ضرورية فليبدأ بقراءة النصوص .
س17- لكني أجد ،من خلال حديثك عن أعمالك الشعرية، ان تبويبك الاجناسي لها ينطلق من قصائدك النثرية وترجع الى التفعيلة في المجلد الثاني مع مجموعتين نثيرتين فقط ، وبعدها تقفز الى النص المفتوح بالمجلد الثالث والرابع.
ج- أنا لا انظر الى تطور الشاعر وفقا لنظرية استحالة الكائن البايولوجية، فمسألة تقديم قصائد النثر عن التفعيلة تندرج في رؤيتي لمنجزي الشعري وكيفية تقديمة نوعيا.
س18- في بيان نشر على موقع إيلاف بعنوان ( النص المفتوح) ذهبت الى موت القصيدة، وطرحت فوارق بين أشكال البوح الشعري جديرة بالنقاش، لاحظت انك تُجير بعض ما كتبته سابقا لمشروعك النظري ( النص المفتوح) وكنت لا تعلن مثل هذا التجنيس وقت كتابتها مثل ( حيّة ودرج) وعكازة رامبو مثلا).
ج- نعم .. بيان النص المفتوح يعطي فكرة عن هذا النوع من الكتابة الشعرية ويفرّقه عن قصيدة النثر بشكل خاص، وقد جاء البيان بعد مضي خمسة عشر عاما على كتابتي لاول نص مفتوح في تاريخ الشعر العراقي وهو (خزائيل) ثم اتبعته بنصوص مهمة مثل ( عكازة رامبو، وحيّة ودرج وخيط للعبور….الخ) وقد تكونت لديّ فكرة نظرية وعملية عن هذا النوع من الكتابة فوضعته في بيان ( النص المفتوح)، ألم أقل لك ان تنظيري يأتي لاحقا وبعد كتابة النص.
س19- وهل تعتقد ان النص المفتوح هو نهاية الشعر؟
ج- كلا .. بل نهاية القصيدة ، فمعه سيكتب الشعر على شكل نص وليس على شكل قصيدة ، انه بداية نوع جديد من الشعر، وهو لا يلغي الأنواع الشعرية التي قبله بل هو يكملها ويعطي أفقا جديدا للشعر.
س20 – وماذا عن قصيدة النثر أو النص النثري الذي حسم موت القصيدة شعريا رغم الشيوع الخاطئ والملتبس لمصطلح ( قصيدة النثر)؟
ج- قصيدة النثر آخر أشكال من القصيدة والتي تستعير من القصيدة شكلها الكتابي المقطعي، ما زال الوقت مبكرا أمامها لكي تمنحنا الكثير من الشعر . ولكن لا بأس من أن تخرج أنواع جديدة ، والنص المفتوح نوع شعري جديد له الكثير من الآفاق التي سيفتحها.
س21.- بما انك متحمس للنص المفتوح وما يوفره من مرونة اجناسية يؤهل كاتبه لولوج حقل الرواية ، هل فكرت في كتابة الرواية ، التي باتت الجنس الأكثر شيوعا وإغراء سيما وان الكثير من الشعراء جربوا هذا الحقل ؟
ج- بعد ( حيّة ودرج) وجدت في نفسي القدرة لزيارة السرد روائيا وكان هذا المشروع يراودني وابتعد عنه ، وما ان عدت الى العراق ورأيت انهيار مجتمع كامل وقيم كاملة . وجدت ان الشعر لم يعد قابلا للتعبير عن هذا الوضع ففكرت بكتابة رواية تسع لبوحي الجديد، وأنا بصدد إنجازها. ولقد اكتشفت ان أهم شرط للشاعر يريد ان يكتب رواية هو ان يتخلى ( بتواضع) عن عالمه الشعري وادواته الشعرية ويفكر بطريقة وأدوات السرد الروائية . اعمل بهدوء وآمل أن انتج رواية تلقى قبولا إبداعيا وتلبي حاجتي النفسية في هذا العالم .
س22-كانت ( العين الثالثة)هي نافذتك الصحفية في جريدة الجمهورية ، وأنت اليوم تعمل في فضائية الشرقية ، ماذا تأكل الصحافة من جرف الشاعر ، وكيف ترى الشاعر وهو يمتهن الصحافة؟
ج- يحتاج الشاعر ان يقول شيئا خارج مركزه الشعري وكذلك يحتاج الى العيش ماديا من خلال ما توفره الصحافة او الأعلام. ولكن الإسراف في العمل الصحفي يدمّّر الشاعر كليا، الصحافة قد تنفع الروائي ولكنها لا تنفع الشاعر كثيرا. وقليل منها مفيد. ولكن لا حيلة لنا من العمل في مجالات بعيدة نوعا ما عن مركزنا وعالمنا الشعري.
س23- أدب الداخل/ أدب الخارج. معادلة قلقلة روِّج لها من اجل تكريس غطاء أيديولوجي هنا او هناك في الأدب العراقي . ما هو تصورك عن هذا التوصيف -خارج الإبداعي- ؟
لا يوجد أدب داخل/ أدب خارج ، هناك أدباء في الداخل وأدباء في الخارج والفرق كبير. ومن يحاول التأكيد على هذه المعادلة القلقلة كما تقول، فهو يكرس فهما أيديولوجيا سخيفا، ثم ان الداخل هو رحم الموضوع كله وأدباء الخارج يكتبون عن ذلك الوطن/ الداخل، فما معنى ان يضع بعضهم نفسه فوق الداخل؟ هذه رؤية يكرسها بعض الأدباء العصابيين الذين يحتقرون أناس الداخل ويعتقدون انهم ملوثون بأخطاء الماضي.. أما هم فطهرانيون . والحقيقة هي ان أدباء الداخل عانوا من كل الظلم والتعسف والحروب والحصار وبقوا متماسكين ويتواصلون لإنتاج الأدب العراقي. أما منافي الخارج فكانت فراديس وأماكن لهو وترف في اغلب الاحيان قياسا الى جحيم الداخل.
س24- أنت من الأدباء الذين غادروا العراق طواعية وعملت في عمان وليبيا لسنوات وأنتجت الكثير من الأعمال في حقول اشتغالك المختلفة ، وعدت أخيرا الى العراق ، كيف تقيم المناخ السياسي العراقي الجديد؟
ج- الديكتاتورية المقيتة هي التي اضطرتني للهرب خارج العراق ، والآن أجد الحكومات المتتالية تنهب ثروات العراق ولا تعمر البلد إضافة الى الاحتلال الذي دمّر العراق. إجراءات الديمقراطية ما زالت شكلية والعنف يفتك بالبلاد وأنا ضد كلّ خطأ يصدر من أية جهة . المهم ان الشعب العراقي يتحسس ثمار الديمقراطية والدستور والانتخابات، شرط ان لا تكون هذه الأمور الجميلة أغطية لمزيد من سرقة الشعب والضحك عليه ثانية.
س25- أخيرا، خزعل الماجدي بعد هذه التجربة المتنوعة في الشعر والتاريخ والمثيولوجيا والأديان القديمة والمسرح والتنظير الفكري، أريد العودة الى عنوانك الاول وهويتك المقدسة ( الشعر). مفترضا ان أعمالك الشعرية -والتي تحدثنا عن صدورها في سياق الحوار-،هي تجارب سابقة، فما هو جديدك الشعري، وما هي رؤيتك لكتابة الشعر الآن؟
ج- لا أخفيك .. أنني بعد هذه التجربة الشعرية المنجزة وتجربتي الحياتية في هذا العمر، أصبحت اكثر حكمة وزهداً حياتيا، فأنا انظر الى العالم الآن خارج نزوات الصبا والفتوة والاحتدام ، أمجّد الضعف الإنساني وخبراته الروحية العظمى التي يلمّها الجسد الفاني والهش.واتفق معك على أعمالي الشعرية التي ستصدر تباعا هي عملية تجميع وتبويب لمنجزي الشعري السابق. ولكني الآن أنجزت شعرا جديدا يختلف عن المجلدات الاربعة، مجموعة نصوص بسيطة تنتمي الى المعنى ( قصائد المعنى) ميزتها التقليل من غلواء الشكل الجمالي والميتاجمالي والبلاغي..الخ. قصائد تؤكد على المعنى الإنساني. وقد جمعت هذه النصوص في مجموعة أسميتها ( ربما.. من يدري) آمل ان ترى هذه النصوص النور قريبا. واسمح ليّ أن أعلن عن جديدي في مجال البحث النظري فلديّ بحث عن ملحمة جلجامش بعنوان ( تأويل الملحمة) عرضت جزءا من قراءتي الجديدة لملحمة جلجامش في بيت الحكمة في بغداد، وسوف يصدر قريبا.
- نشر الحوار في جريدة الزمان اللندنية ( 1 أكتوبر 2007 )