طفولات زائفة
أدعياء يغتالونها بالكذب
..
لعل من أجلّ وأعمق وأصدق مرحلة في عمر الكائن والأمم والحضارات شخصيا وكونيا ، هي مرحلة الطفولة ، النشأة ، الخروج من رحم اليقين ، الذهاب الى الوجود عارياً ، كما حكاية ثياب الأمبراطور .
الطفولة بيضة قبان عمر صاحبها ، تدل عليه ، وتشير إليه ، تختصره ، وتتنبأ له وبه ، إذا احسن ذكرها بواقعيتها وحلمها الأثير، بلا رتوش حاضرة ، بل تزيده مكانة ورفعة واحتراماً، ودهشة من الآخر .
مثلا هناك عباقرة علمياً وادبياً وفلسفياً وفنياً كانت طفولتهم متعثرة اقتصاديا واجتماعيا وذهنيا مثل :
اينشتاين ، نيوتن ، غوركي .، بابلو نيرودا ، طه حسين ، بدر السياب .. كاظم الساهر وغيرهم الكثير . لم تكن موفقة ابدا ، وكانوا يفتخرون بها وينتصرون لها بوصفها ذاكرة وتاريخا واهناً استطاعوا ان يرمموها بعطاءات الحاضر وقيمه، دون التعكز على الطفولة بوصفها بذخاً ممتدا ..
هؤلاء يستحقون التوقف عندهم لأن الطفولة وشم ، وليست سيادة ..، ذاكرة وليست أرجوحة لتبليد الحواس ولا هي مفسدة للمهد ، مهلكة للصدق ، رمحاً في خصر البراءة ، فستكون حقا سيفا لبتر الكائن البشري عن سفره الإنساني من الرحم الى المشيمة ، وسوف نشهد حفل عرس وحشياً لميوعات قادمة ، من كائن مُلقى الى الواقع بلا ذاكرة .
كائن املس الملامح ، لا يعرف الماضي بوصفه ذكرى والمستقبل بكونه حلماً ، ولكنه يراوغ في منطقة الحاضر ، ليس لأنها حرفة حصاد الواقع ، أو هدية المعادل الموضوعي لهيكل الزمنية ” ماضٍ ، حاضر ، مستقبل “.
وتأسيسا على فرضية التلازم هذه ، سوف نشهد حرقاً تعسفياً لدورة استحالة الطبيعة والكائن ..
كل طفولة هي عودة لسؤال البراءة للصرخة الاولى ، وستكون المعرفة متوالية تراكمية نوعا وكما ,,
القفز على الطفولة في عصا ” زانة ” اللعب للوصل الى حلبة الفوز يشبه تماما التنصل من الطفول واختصارها كمنصة للبطولة دون المرور في ادوار استحالة الكائن ..
هي دورة التسامي للماء وفق قانون تجاوز دورة المياه في الطبيعة ، كما تحول الماء الى الحالة الغازية دون المرور بالحالة الصلبة، وهي ما يطلق عليه بالتسامي ..
وهناك مراحل فكرية تقتضي حرق مراحل الرحم بطريقة النشوء والارتقاء مثلا ، وهناك نظريات لنشوء الكون، وخلق الكائن بالصدفة أو بالتطور ..
كل هذه الدورات في حياة الكائن ، تنتظر منّا نصا للارتقاء وليس تاريخيا للمصداقية ..
ولعل من المثير للقرف والسخرية والشفقة معا ، هو ما يرد في مذكرات او حوارات او مقالات من ادباء او كتّاب سيرة او رحلات ، وتراهم يتغنون بطفولتهم وغناها وثراها المادي وبحبوحتها الإجتماعية ونبوغها المُبكر .
وسوف اعرج على تمثّل لظاهرة واحدة بأداء مختلف ، هما يمتازان بقدرة هائلة على النمو اللبلابي ، ويمتلكان مهارة تدجين حواس الآخر المنبهر ، المتلقي السلبي ، قارىء الاعلانات والوهم ، هما يمتلكان هذه السلعة ويروجان لها ، وبينهما من تاريخ ما صنع الحداد ، كلاهما مرّا بيّ ، ومروا في الحقل ايضا .
احدهم حاذق الموهبة واسع الثقافة ، مبدع سردي خطير ، وله في كل عزاء دموع ، وفي كل عرس شموع ..
استثمر طاقته كبلدوزرحديدي يقتحم به كل من ركب معه لتهديم حصون وتبليط طرقه .. ناجح جدا في سلم البراغماتية ، وليس حسب سلّم ماسلو لهرم الحاجات ..
لم يترك ثغرة في راسة إلا وملأها بفكرة شامخة ، فهو ابن مدينة فقيرة تقع على أطراف عاصمة الرشيد ، ويدعي انه من حواضرها ، وهو ابن عائلة بسيطة ، وادعى انه سليل عائلة بغدادية محتدة الحسب والنسب ، وهو بهذا سطا على ارث عائلته ،و كان له ان يقدمها ككنز نشأ منه ، الى جحود ونكران مرضييّن .
ولم يكتف هذا الماحي لذاكرته إثر حدث إجتماعي ، فراح يمارس تهميش صاحبته إثرا بعد كتاب ، ويضع اسمه في ترجماتها .
فعلا لقد صدق هذا المتسلق ليس على ظهورنا وقلوبنا فقط ، بل الى فضاء آخر من المجد الزائف .
الثاني له ولع في الاقتراب من نار الشعر ، امتهن اليُتم منذ نعومة أحلامه ، وعاش فقيرا يقضي يومه في اشغال واعمال لا تتناسب مع طفولة مصادرة ، منذ موت الأب ظلما ، وقضاء الأم بمرض لعين ..
هذا الطفل الخائف من محيطه ، المدجج بالمقدسات ، راح يلهو ليس كما الأطفال ، ينتعل نعلا بلاستيكيا، وبجامة عتيقة يعمل صانعا عند الآخرين ، له قدره رهيبة في حساب الزمن ليس في السنوات والأشهر والأيام ، بل بالهنات واللحظات والثواني من جمرات الأيام .
كل هذه الذاكرة المتوقدة بالحسابات ، سوف يطويها كسجادة لم تصلح للدعاء والصلاة ..
ساح في أرض الله على متن راحلة مجهولة- تم تجهليها – ، لم يذكر لها فضل ولا منقبة ، كل مكان تزرعه فيه ، لا يخضّر منه إلا وجهه وطموحه وجنونه عظمة، راح يتناسل من رغبته الدفينة في ان يكون حاصد الجوائز كغريمه اللدود .. صاحبنا السالف الذكر ..
كلاهما ماهران في تطويع الأرحام والنُطف لتشكيل مسار لقطارهما المدوي ، انهما ظاهراتان وليس فردان ..
هذا الكائن !! مع كل الاستفهام ، وكاتب السير ، مع الكثير من العتمة ، والراحل في الامكنة في زوراق الآخرين ..
يكتب بصفاقة تامة ” انه يحضر حفلة موسيقية في بلد ما ، ويعطف على متسول لشراء بطاقة له ، وبطريقة الافلام الهندية يحضر هذا المتسول منهوكاً جدا ، لأن صاحبنا لم يعرف المسافة بين بيت هذا المتسول ومكان الحفلة !!
يراه منهكا ، خائر القوى ، ولكنه يتمتع بسماع الموسيقى الكلاسيكية .. ويقول ” لقد ذكرني بطفولتي ، حين كنت اسمع الموسيقى ومنها الكلاسيكية “!!!
ياللمكيدة ،ظهر صاحبنا انه من مدينة حالمة تعشق الموسيقى ؟؟ انها مدينته التي كانت يتمية هذا الحقل ، ولا يُسمع فيها غير آذان وشهقات الحزن المديد ..
اي كذب يرتدي صاحبنا بعد ان وصل الى مجد الجائزة ، الجائزة المادية ، فراح يبدد خزائنه لمحو تاريخ بسيط وفقير ومشرف ، يلعبة على طريقة الإحلال والابدال ..
كلاهما نجح في قطف الجائزة ..
الأول في اشباع موهبته بالمزيد من الكذب ، والعيش في عالمه الافتراضي السردي ، والثاني نما من قهره الطفولي ليؤسس سيرة ذاتية مزيفة ..
كلاهما مارسا الكذب والخديعة والزيف ، ووصلا الى هدفين يشتركان في محو الطفولة ، والقفز على ابجدية نمو اكتمال الحياة ، بوصفها حلماً نبيلاً لا ينبغي بيعه في سوق الوهم .
منْ سيبقى خالداً ، ومنْ سيخرج من غربال الوجود بمكر اسود ؟
يا للثقافة العراقية التي تتنفس عطنها من هذه الشباك ، هذه المكائد ، هذه الظاهرة ، التي استشرت لتؤشر الى إرث قادم مخيف ..