في رواية نساء المنكر
وعي الذات في فضاء ملتبس
جميل الشبيبي
تؤسس الروائية سمر المقرن روايتها ( نساء المنكر –دار الساقي ط 1 2008) ، على إشكالية سؤال شائك تطرحه الساردة في بداية الرواية يعتني بشكل العلاقة بين الرجل والمرأة وما يحيط ذلك بتابوات مجتمعها ومحرماته، وهو سؤال إشكالي،لا يجد له جوابا محددا، بل أن الإجابة ستكون متناقضة، على وفق موقع وجنس الذي يجيب على السؤال، كما أن هذا السؤال المحرج سيطرح من ذات أنثوية مفترضة وجريئة أو من خلال حالة خاصة متطرفة ،وهي أنثى مفترضة تؤمن أن جسدها ومكوناته هو ملك خالص لها ولا يحق لآي شخص أن يتدخل بينه بينها،وهي حرة في أن تهبه لمن تشاء، وهو اعتقاد ذاتي خاص يتخطى مجموع الأفكار التابوات التي تسور جسد المرأة بالأعراف والتقاليد والقيود الملزمة لها ، التي تفرض على المرأة تحريم ممارسة حريتها مع أكثر من رجل في وقت واحد أما صيغة السؤال، فيحدده افتراض له تمثيل في هذه الرواية يسمح بممارسة فعلية تخرق تابوات المجتمع وقناعاته التي ترفضها المجتمعات جميعها كما تصرح الساردة/ الشخصية الرئيسة في الرواية قائلة 🙁 كل المجتمعات بما فيها الغربية ترفض أكثر من علاقة مع اختلاف الخلفيات – الرواية ص7) لكنها تمثل إجابة مبطنة على السؤال الذي طرحته الساردة على نفسها في فضاء الرواية 🙁 عندما تخون المرأة حبيبها _ وليس زوجها فهو خارج شرعية هذا السؤال- هل تبلغه بذلك لإراحة ضميرها؟أم تندم وتعود إليه نادمة ولا تتحدث له بشيء ص6).والسؤال لا يتعلق بالخيانة الزوجية التي تبدو هنا،علاقة بيع وشراء، تحاول الزوجة فيها أن تتخلص من هذه العلاقة طيلة ثمان سنوات، دون جدوى، وبقيت تحمل لقب ( متزوجة) (وما أنا في الواقع إلا ( معلقة) والضمير التقليدي لا يتواني في وصفي أمام نفسي بحاملة الخطيئة ص7) ،خلال ذلك تعترف هي بدخول رجل في حياتها ( ردني إلى الحياة التي كنت اكرهها ص7) فتصبح العلاقة (التي يطلق عليها الجميع خيانة )مع رجل غريب بهذا المعنى مقرونة بالحب فقط، وهي العلاقة الطبيعية التي تؤمن بها الشخصية.
إن طرح سؤال الخيانة من قبل العاشقة في بداية الرواية،يمهد لخرق متعمد للمفاهيم الدينية والممارسات الأخلاقية التي تجعل من الخيانة الزوجية رجسا وزنا يتطلب الرجم أو الجلد كما نصت عليها آية من القران الكريم (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)،وبهذا المعنى فان الشخصية التي تسرد سيرتها الشخصية وتجربتها مع ( رجل عاشق- رئيف) في هذه الرواية،تتمرد على السنن والأعراف السائدة وتعلن عدم رغبتها وإنصاتها لأفكار ورؤى رجال الدين من المعتدلين أو فقهاء التشدد الوهابي كما تعلن ،بل تتوجه إلى كتابات الروائية أحلام مستغانمي، بوصفها مشروعا للحرية والحب ( سأتوجه إلى الحب، وان كانت هي وجدته في باريس،فانا وجدته في لندن ص11)، لتقطع صلتها بالواقع المعيش الذي يضج ب( صرخات رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن النكر على النساء (….) وما ذلك إلا لان طريقتها في لبس العباءة لم تعجبه،وقد تكون متبرجة من وجهة نظره مما يجعلها مركزا لشهوة الرجال فتغويهم وتحجبهم عن جنة النعيم ص12-13).
تسرد ( سارة) معاناتها في طلب التفريق من زوجها، أمام قضاة يمتثلون إلى القاعدة العامة التي تقول ( إن دخول امرأة متزوجة على الورق في علاقة مع آخر خيانة أولى تجر إلى أخريات ص8)،وهي تسخر من هذه القاعدة، وتعترف لنفسها ولمتلقي الفضاء الروائي الذي يحمل رسالتها أنها تفضل ميتة الشجعان أو الانتقال إلى (حلكة الظلام ) بديلا عن الاستعطاف والتذلل :(فغباء مني استعطافه وهدر لعزتي الأنثوية الخوف من تهديداته المبطنة ص8)، ولذا تستجيب لقلبها وتغادر إلى فضاء آخر لتخوض تجربتها الجديدة التي تضعها تابوات المجتمع ضمن عنوان ( نساء المنكر)،بوصفه موقفا لا خيار فيه ولا تسامح، وهو يستحق أن يعتلي متن الرواية، ليشير إلى الآخر الفاعل المتواري بين السطور الذي يحمل معاول الترهيب والإذلال تغذيها الأوهام والمخاوف المغروسة في أعماقنا.
تمثل لندن فضاء صحيا تمارس فيه سارة حريتها،التي سلبها مجتمع الرياض المعادي للنساء، كما يتضح من شهادتها عن تلك الأحداث،وإذا تحرينا تجربتها القصيرة في لندن مع عشيقها رئيف،سنرى أنها تجربة ليست خارقة بإحداثها، فهي ممارسة طبيعية بين حبيبين في ظرف خاص بعيدا عن ( جحيم الآخر) لان فضاء لندن لا يسمح بالتلصص أو التدخل في شؤون الغير !!
تقول سارة عن الليلة الأولى مع رئيف 🙁 الحب الذي مارسته مع رئيف ليلة كاملة كان أقوى واكبر من عشرة زوجين لربع قرن في بيت متهالك العواطف مترامي الإحساس بالآخر ص17
ومشهد الحب الذي تسرده يتكرر في العديد من المشاهد الروائية في الرواية الخليجية وغيرها، فيعبر عن علاقة حميمة بين رجل وامرأة، في فضاء آخر ربما الرياض نفسها، وبهذا المعنى فان الروائية تدرك أنها لم تأت بمعجزة في هذا المشهد بل أنها طرحت معادلا ايجابيا لتلك الوصايا التي يحملها رجال الشرطة في الرياض التي تجعل همهم الأول هو شعار (تغطي يا مرة) والإيغال في التحري عما يفعل الاخرص13
لكن هناك في لندن مشاهد ستبقى مفارقة لما يحدث في المدن العربية،منها الخلوات الخاصة بين العشاق في حديقة ( هايد بارك) بعيدا عن جحيم الآخرين كما يقول سارتر( الجحيم هم الآخرون)،التي تنتبه لها الطفلة سارة( أراقب العشاق وادقق في النظر في تفاصيل قبلهم ص19 ) بينما كانت أمها تشتمهم وتقول (كفرة) أما الحادثة الثانية في الحديقة فلا يمكن أن تحدث في مدننا العربية ،وهي من أهم الإشارات إلى الواقع العجيب الذي يعيشه البشر في الفضاء المنفتح على الحرية في مدينة لندن بشكل خاص : امرأة سمراء مسنة تحمل أوراقا تنادي بها على المارة،وسط سخريتهم وتندرهم عليها،وحين تقترب ( سارة) منها يتضح لها أنها تحمل أوراقا تبشر بآلهة جديدة تستحق العبادة من وجهة نظرها!! غير أن سارة تكتشف أن سخرية المارة من هذه المسنة، لم يكن بسبب دعوتها إلى آلهة جديدة بل لكون هذه الآلهة (إناث)، مما يعزز في نفس الساردة سؤالا محيرا يكمن في أعماقها يسرد لها سعي المرأة كي تستعيد حقوقا كانت لها في سالف الأيام،في مقابل سخرية مرة تسعى فيه المرأة السعودية على استحياء وخوف في الحصول على إذن بقيادة السيارة!!
ثم تتساءل بسخرية مرة (ترى هل يصل الهوس بي يوما إلى أنادي بعبادة المرأة؟؟ ص22
وهناك أمثلة عديدة من العينات التي تمثل عسفا للمرأة :ارتداء النقاب بوصفه إلزاما لها ولا يجوز لها أن تسفر عن وجهها لأنه من المحرمات، لكن الساردة تتعامل مع النقاب بسخرية مرة إذ تصفه وكأنه نافذة تمكن المرأة من متابعة الآخرين دون أن يتمكنوا هم من متابعتها،( وترك لهن وهم القناعة بأنه يضمن لهن ( حرية ) ما دمن خلفه بمقدورهن أن يمارسن المراقبة بكل اطمئنان ص13 ثم تصرح نيابة عن النساء المنقبات ( وان أردن ممارسة الدعارة فلا مانع لكونهن شخصيات مجهولة ومحجوبة عن الآخرين ص13)!!
وحين تتعرض هي وعشيقها من قبل رجال ( الهيئة) للمداهمة في المطعم الذي قررا الالتقاء فيه في مدينة الرياض وتلقيهم الضرب المبرح والاهانات التي لا تليق ببشر، ثم يجري إجبارها على التوقيع على أوراق تتهمها وعشيقها بجرائم لم ترتكبها حتى أنها لم تسمع بها،سيكون ردها على شكل خطاب تحريضي مباشر تضمنه مظلوميتها ومضلومية غيرها من النساء تبثها في فضاء محكوم بهذه الأحكام فتقول (ما يحصل في هذه الساعة هي جريمة كبرى ليست بحقي فحسب بل هي جريمة بحق الإنسانية، وبحق وطني ، وبحق الدين الإسلامي،الذي يتصرفون باسمه، ويريدون توظيفه في اهانة البشر وسحق كرامتهم ص44، وهو خطاب مباشر على لسان المؤلفة التي تستعير صوت الساردة لتسجل موقفها من الأحداث التي تسردها.
إن تماهي الروائية مع السيرة الذاتية لشخصية سارة،وتبني خطابها الناقم على ما يجري في الواقع المعيش ، بوصفه تجربة معيبة وخالية من ابسط شروط الإنسانية، والإصرار على تصوير حياة النساء في هكذا مجتمع مغلق على الماضي،وبهذا الشكل التعسفي، واعتبار ذلك حالة مستقرة لا تنتظر تغييرا قريبا ، قد سبب انكماشا للفضاء الروائي على عينيات حياتية اختارتها الروائية لتصوير عالم المرأة في المجتمع السعودي، وهي عينات مكررة في العديد من الروايات السعودية بل والخليجية، الأمر الذي جعل هذه الرواية رواية ( أطروحة) بوصفها رسالة أو موعظة تريد الروائية كشفها وفضح قساوة أحداثها على الذوات الإنسانية التي تعاني منها، وهي عبارة عن حكايات مأساوية غاية في القسوة ، يؤطرها خطاب مؤدلج تحكمه عبارات غاضبة تعمل على إدانة هذه الأحداث وتسخر منها، دون أن تتحرز الكاتبة مما سيحدث مستقبلا في المجتمع السعودي من تطور وانفتاح في إنصاف المرأة وإعلاء حقوقها حين أصبحت اغلب هذه الأحداث والعينات التي أوردتها من سجن النساء ومن وقائع المجتمع جزءا من ماض منقرض، بفعل القوانين والتعليمات الجديدة التي صدرت انتصارا لحرية المرأة.كإسقاط نظام الوصاية ورفع الحضر عن قيادة السيارة للنساء وتمكينهن من ذلك منذ عام 2017 إضافة إلى سن قوانين وتعليمات لصالح المرأة في العمل والمساواة في الأجور وتولي مناصب في الدولة وقد جرى ذلك في الأعوام الأخيرة بعد صدور الرواية بعدة سنوات ،مما اضعف الجانب الفني في هذه الرواية والروايات السعودية المشابهة لها بسبب تركيزها على إشكالات الحياة بوصفها إشكالات خالدة، لا يمكن تجاوزها أو إيجاد بدائل لها، فتصبح الرواية بهذا المعنى شهادة عن الماضي القريب ويصبح التغيير وإيجاد البدائل التي تلاءم الحياة المعاصرة هي الحكم والنقض في آن !!
وقد اعترفت الروائية سمر المقرن لصحيفة (سبق ) الالكترونية السعودية ( 10 مايو 2019 بذلك واعترفت بان المرأة السعودية (أصبحت عضوة ونائبة وزير وسفيرة وشريكة كاملة من دون قيد) وأكدت في المصدر نفسه ( إلى أن الأبواب اليوم مفتوحة أمام المرأة، والفرص كلها متاحة، والكرة في ملعبها،)وهذه التصريحات، تشير إلى أن أحداث الواقع المستثمرة في الرواية،ينبغي التأني في توظيفها، توظيفا فنيا منفتحا على فضاءات خيالية تتجاوز الراهن الواقعي وإشكالاته،دون الانغلاق على الأحداث والحكايات الواقعية،وبهذا المعنى كانت تجربة الحياة القصيرة في لندن فرصة لتجديد وإدامة الأمل في نفس الأنثى المحبطة في مجتمعها،ودرس يتخطى تجربتها المحدودة،التي فجرت فيها ينبوع اكتشاف عطش جسدها لسنوات طويلة ( لم يكن يبحث فيها إلا عن زفرة حقيقية تنبع من داخل عاشقة لاماكنة جنسية تعمل وقت التشغيل وتغلق وقت الإفراغ ص16 وكان الاحتفاء بهذه الحياة واضحا في سرد يحفل بلغة موحية شفافة تكثر فيها المجازات التي تعلي شان الحياة وتمجد العلاقة بين الذكر والأنثى بشكل صريح (كانت مشاعري مضطربة حيال التعبير عن حبي له واحترامي إياه وكنت اشعر بان الإفصاح عن الحب يطغى على الهيبة والاحترام.ص16 وهي لغة تتقاطع مع اللغة المتجهمة ذات الألفاظ الخشنة والنابية التي صورت فيها تجربتها قبل الذهاب إلى لندن وبعد العودة منها .
لقد كانت رواية ( نساء المنكر) التي صدرت عام 2008 شهادة جريئة على وقائع كانت سائدة حتى وقت قريب في المجتمع السعودي والخليجي أيضا تنظر إلى المرأة نظرة إذلال ومهانة، نظرة دونية لا إنسانية تحتمي بقوانين وأعراف ومنظومات فكرية ودينية سلفية تنظر إلى المرأة بوصفها عورة ينبغي تحجيمها في بيتها وردعها بالنواهي والعنف الأسري والمجتمعي لإنقاذ المجتمع من شرورها!!! وقد كانت هذه الرواية وغيرها من الروايات السعودية والخليجية الملتزمة بقضايا المرأة، صوتا معارضا وجريئا على تلك القوانين والادعاءات المزيفة بحق المرأة، أسهمت في إبطال ونقض العديد من هذه الأفكار الغريبة،لصالح حياة رحبة وبيئة منفتحة على الحياة الجديدة.