حصاد ثقافي لسنة جديدة قديمة .. فاطمة المحسن

شارك مع أصدقائك

Loading

 

حصاد ثقافي لسنة جديدة قديمة

فاطمة المحسن

 

الثقافة عموماً عند جيل الشباب العربي، يتقاسمها المبشرون ومواقع الحب الإباحي ونجوم الأغاني،

 

قبل أيام من رأس السنة الميلادي، تبدأ سباقات الصحافة ووسائل الاعلام لانتخاب الأبرز والأهم من الشخصيات والأحداث الثقافية والسياسية، كما تقام ورش عمل محمومة في مطابخ الميديا لرصد حصاد السنة المنصرمة. وهي كرنفالات تختلف من بلد إلى آخر حسب تقاليد الصحف المحلية والعالمية، ولكنها في كل أحوالها تحدد ميقاتاً للمراجعة وموقفاً من الزمن، حيث غدا هذا الموقف من أهم معالم الحداثة وما بعدها في العصر الغربي.

تأثر العرب بهذا التقليد ووجدوه يتفق مع رغبة في فرز النتاجات وتحديد المراتب الأدبية، وتقليل ضرر الفوضى الضاربة في كل مكان. وحمدا لله  لا تبالغ الصحافة العربية في مراقبة رأس السنة واقتناصه، كما الحال في الغرب الذي يتفرغ ما يقارب الشهرين لبزار كرنفالي ممل ومتصنع.

بيد أن الصحافة العربية وقعت في فخ قلة إبداعها في السنوات الأخيرة، فما أن يقترب الأسبوع الأخيرة، حتى تقرع أجراس الهواتف والبريد الالكتروني والفاكسات في بيوت المشاهير مكررة السؤال نفسه: ماذا قرأت من الإصدارات وماذا أنتجت من الكتب وما صنعت من النشاطات؟ ويبدأ الأديب أو الفنان رفع مناطيده في الهواء الرخي: بعضهم راجع الألياذة والأدويسة، وتبحّر في علم النجوم، وبعضهم قرأ بخمس لغات، وبعضهم تذّكر فضل الصداقات عليه في منح أوسمة الأهمية لهذا الشاعر او الروائي أو الباحث، وعدد منهم وجد نفسه معتكفاً في صومعته يخرج الكتاب تلو الآخر من مائدة العامرة، متخيلاً سهام رسائله حيث تتجه إلى أفئدة القراء.

والحق أن هذا التقليد الذي دام في ربوعنا عقوداً لا تنتهي، يعكس طبيعة العلاقة بين الجمهور بمن فيهم جمهور الصحافة، وبين الكتاب أنفسهم، وهي علاقة يظن الكاتب انها ثابتة لا تبرح مواقعها، مثل ثبات السياسي في موقعه إلى الأبد. فالأديب هو الإمثولة والمقتدى في كل شيء، والقارئ تلميذ يتبع ذائقته. لقد تدرّبت شعوب بأكملها على ما يسمى التقليد، والتقليد والمقلّد تعني التبعية أو المرجعية التي تقدمت في السنوات الأخيرة، حتى غدت المفردة الأولى في علم السياسية وحتى في النص الأدبي.

هذه المركزية الصارمة في التقليد الثقافي العربي، بدأت الآن بالانهيار بعد ثورة الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، دون ان تجرؤ الصحافة العربية الاعتراف بها كمنافس، ومكتسح لتصورات المبدع عن نفسه، ولكن التوترات بين وجود الفضاء الالكتروني ونظام المطبوع، لم تصل بعد إلى حد المواجهة. فالمطبوع الورقي تسلل إلى الانترنت، وغدا جزءاً من نظامه، ولكنه حفظ لنفسه سلطة القانون وثقة التوريث، في حين بقيت معظم المواقع الالكترونية حرة من المحاسبة، والكثير منها قادرة على القرصنة وتخريب الذائقة وسلب حق التأليف. ثورة الانترنت تخرج عن المكان الثقافي القديم، إلى فضاء الكلمة الالكترونية، حيث الحرية كما قيل على نحو مكرر، سيف ذو حدين: فهناك تناسل في المواقع، وحرية لا يحدها وازع.

الكثير من المواقع التي أنشأها شباب جدد مهمتها السطو على مواضيع الغير، وتلفيق البحوث والمقالات عبر التلصيق والقص. أسماء تظهر كل يوم لباحثين وأدباء وكتّاب قصص، ومقالات سياسية واجتماعية، وأقل منهم للشعراء، ولعل هذا يشير إلى قلة اهتمام العالم الالكتروني بفن الشعر، رغم أن مواقع مهمة طورت آليات تداوله العربية.

معارض الكتاب المطبوع في العالم العربي، تزداد عدداً وتصبح مناسبات للاستقطاب الثقافي، وقدر ما تخفت أهميتها في مصر وبيروت، قدر ما تزداد غنى في الخليج والجزيرة عموما وفي العراق والأردن، وهي تدخل في حلبة الصراع مع النشر الالكتروني الذي لم يقو بعد على أن يدخل فيها بكامل أهليته.

الثقافة العربية اليوم تخوض معاركها الأهم بين التقليدي والحداثي، وأدوات الصراع ذاتها يستخدمها الطرفان، فقد حل الانترنت والجوال ضيفاً على الجوامع، وتداخلت في الفرد الواحد النزعتان، ولكن السنوات الأخيرة تسجل انحسارا في شعبية القوى التقليدية: القاعدة وشبيهاتها على الضفة الاخرى للطوائفية العربية، على عكس السنوات المنصرمة التي صعد فيها نجم تنظيم القاعدة في الكثير من البلدان العربية، وخاصة البلدان المحافظة، ولكن هذا لا يعني انحسار خطر الإسلام السياسي العنيف.

أزمة التقليد والتحديث في المجتمع الثقافي العربي واضحة المعالم، وتحدث توترات تنعكس على نتاج الشباب في القصة والشعر، ولعل هذا النتاج غدا البوصلة التي نستشعر من خلالها نبض التبدلات الثقافية، فقد ضعف فيه خطاب الايديولوجيا، وتراجعت في الكثير من نصوصه نسب الاهتمام بالحب أو الجنس على النحو الذي يهتم فيه الجيل القديم والأجيال الوسطية. ولعل تلك المواصفات لا تنسحب على كل البلدان، ففي بلد مثل السعودية تزداد نسبة المهتمين بالحب كموضوع بين الأدباء في أعمار العشرينات، في حين تكاد تضعف في بلدان مثل لبنان والعراق ومصر، فالحب الرومانسي والعلاقات الجنسية تكاد تكون موضع تهكم وتوريات صادمة للأكبر سنا في تلك البلدان.

الثقافة عموماً عند جيل الشباب العربي، يتقاسمها المبشرون ومواقع الحب الإباحي ونجوم الأغاني، وعلى نحو ما كرة القدم، أما الأدب و ما يسمى الثقافة العارفة فقد أخلت الكثير من مواقعها الى الإعلام المرئي، فحاول الأدباء التقليل من هذه الفجوة بالظهور المتكرر في الفضائيات، ومسايرة المزاج الجماهيري، السياسي منه على وجه الخصوص.

وقدر ما تشتغل عوامل الاهتمام بالخصوصيات المحلية، وتتشظى ثقافات البلد الواحد، قدر ما يتوحد العرب عبر الفضائيات التي تنقلهم من محليتهم إلى عوالم أوسع تبدّل ذائقتهم وأفكارهم. وثقافة الحوار تكاد تصبح السمة السائدة التي تساعدها تنوع منابر القول في نظم الاتصال الحديثة، ولكن الملاحظ أن تلك الحوارات لم تقلل نسب التعصب، وأسلوب التشاتم والإلغاء، سواء كان صريحاً أو مبطنا، فالتناشز بين الحداثة والتقليد، لم يحسم لطرف العقلانية في الاثنين.

نخطو إلى سنة ميلادية جديدة، ترافقنا الاحداث الجسام، وبؤر التوتر الأوضح والأكثر خطورة في العالم العربي: فلسطين والعراق ولبنان وسوريا ، وتبقى الحروب زمنا خارج الزمن العقلاني، ولن تكون الثقافة سوى ضحية من ضحاياها. فهل نأمل سنة جديدة لا نشهد فيها قرع طبول الحرب في تلك الجبهات الساخنة؟ ربما يصبح أمل السلام محض أمنية بعيدة التحقق، ولكن الثقافة العربية التي تقف ضد الحروب، والمثقف الداعي إلى السلام، أضعف من أن تسمح ظروفنا بولادته

 

 

 

 

 

شارك مع أصدقائك