حوار مع فاضل ثامر
نقد النقد اشتغال في الأدبية لا الفلسفية
الدكتور سلمان كاصد
عندما كنت محررا في القسم الثقافي لصحيفة الاتحاد في أبوظبي اتفقت مع الناقد الدكتور صلاح فضل رحمه الله أن نتحاور في النظرية النقدية وبما أنجزه في التعريف بالنقد الغربي الذي جاء في كتابه ( البنائية) حيث أوجز فيه نظريات النقد الأدبي الحديث ، والذي كانت تتداوله الدراسات الأكاديمية العراقية آنذاك ، بوصفه مرجعا وصفيا لعرض النظريات النقدية الغربية ، وهو من تأليفه تحديدا كما جاء على صفحة غلافه ، إذ لم يشر الكتاب إلى أنه مترجم من مصادر غربية متعددة .
في تلك الجلسة التي ضمتنا معا صلاح فضل وأنا والشاعرة العراقية لهيب عبد الخالق ، بدأ الحوار معه حول وضع اسمه مؤلفا للكتاب ، بينما كانت الأفكار والمفاهيم بمجملها منقولة من كتب متعددة لم يشر إليها في المتن ، ولهذا السبب ما كان صلاح فضل بحسب الدارسين سوى باحث قدم معلومات ضمها كتابه البنائية ، ولم يعط رأيه أو يحلل نصوصا أدبية ، وتلك فضيلة ثرة منه قدم فيها المفاهيم النظرية الغربية ، بأسلوب واضح ومفهوم ، ساعتها أبدى الصديق صلاح فضل تحفظه على هذه الملاحظة ، التي ضمها سؤالي له حول :
هل كان مؤلفا لهذا الكتاب ، أم هو ناقل لمفاهيم موزعة في كتب النقد الأوروبي ؟
واحتراما لرغبته حيث قال :
” هذا كتاب أنجزته منذ 20 عاما وأرجو عدم مناقشته والعودة إليه بعد زمن طويل ، “
وافقت على مقترحه بتجاهل الخوض في هذه الموضوعة ، ولكنني رددت عليه ببساطة : إن الفكر الغربي يحاكم ويحاور الآن النصوص القديمة وبخاصة الإنجيل ، بعد ألفي عام فكيف لا تريدنا أن نتحدث عن كتاب لك صدر قبل عقدين من الزمن !”.
لقد كان طلب الناقد صلاح فضل تجاوز هذا السؤال بلطف جم .
هذا ما وددت أن افتتح به مقالتي هذه , عندما قرأت قبل أيام قليلة مقالة الناقد العراقي فاضل ثامر حول ( نقد النقد بصفته خطابا فلسفيا) والذي نشر في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 11/1/2025 مقتبسا الكثير من المفاهيم والمقولات النظرية لمنظرين غربيين ،أسسوا دعائم النقد الغربي بنظرياتهم و أفكارهم حول النقد ونقد النقد ( meta criticism) وحدود هذين المصطلحين .
في البدء يشغلني ويهمني أن أتحاور مع الناقد حول تأصيل المصطلحين ومدى اقترابهما أو تباعدهما في الغايات وألمقاصد و الاشتغالات التي يخوضان بها.
تطرق الناقد إلى مفهوم “النقد ” بوصفه سبيلا للوصول إلى ( نقد النقد” بحسب قوله ، أو إلى “ما وراء النقد” ولم يبين الفرق بين المصطلحين الأخيرين ، علما أنه يدرج آراء المشتغلين الغربيين والعرب بتبني المصطلح الأول “نقد النقد ” من جهة ، وآراء آخرين يؤيدون المصطلح الثاني “ما وراء النقد ” من جهة ثانية ، ولم يتطرق إلى أسباب الخلاف بين هذا وذاك وحججهم بالرفض والقبول.
من هذا المنطلق بدأ الناقد يستشهد بأقوال المنظرين واحدا واحدا ، حتى ليدعونا أن نصف قراءته بأنها ( عرض ) لمفاهيم ( رولان بارت ،ورينيه ويليك ،و سوريش رافال ، و نورثروب فراي ، و تودوروف ، وباري ويلسون) وكأنه قد نقل أفكار هؤلاء الستة ، ومعهم اثنان من العرب وهما ( الجزائري حمزة بوساجية والعراقي باقر جاسم محمد ) ، في ثلاث صفحات لا غير ، في اجتزاء شوه فيه صورة نقودهم وأفكارهم حول موضوعة ( فلسفة نقد النقد بوصفه خطابا فلسفيا) .
انتقل الناقد إلى الموضوعة الثلاثية المعروفة ، بأن نقد النقد ماهو إلا الحركة الثالثة ، التي أفرزتها ما بعد الحداثة ، بعد الحركة الثانية النقد ، والحركة الأولى النص أو المنتج الأدبي ، وهذا التقسيم الثلاثى :
( نص أدبي ثم نص نقدي ثم نص نقد النقد ) هو ما كان يشغله في تعالق مفهومي ودلالي بين عناصر هذا التقسيم ، كونها لغات متعددة ، إذ يرى الناقد أن النص الإبداعي الأول يمتلك لغته الأولى وكذا النص النقدي الثاني يمتلك لغته الثانية وبذلك تمظهرت اللغة الثالثة ، متمثلة بنقد النقد وكل هذه التقسيمات الثلاثة قائمة بذاتها ، ولم يفرق الناقد بين نقد النقد الذي يتعلق بالنص النقدي من حيث توصيفه وتفكيكه ، بينما أهمل الناقد مشكلة موضع الاختلاف بين النقاد في تبني المصطلحين ” نقد النقد” أو “ما وراء النقد” باعتبار الأخير تقويضا للنقد وإنشاء نقد مغاير وجديد وبذلك يبطل مفهوم التعالق الثلاثي الذي تحدث فيه الناقد فاضل ثامر .
في ضوء ذلك أقول : إن هذا الاستنتاج أو الرأي النقدي ليس من عنديات الناقد فضل ثامر ، إذ ورد هذا التقسيم في دراسة الجزائرية بدرة قرقوي التي لم يشر إليها الناقد ، وقد جاء ذلك في كتابها ( نقد النقد في المغرب العربي ) حيث تقول :
( إن مصطلح نقد النقد يدل على القراءة الثانية أو قراءة القراءة أو لغة حوارية أو لغة اللغة أو كتابة الكتابة كما ترجمها الدكتور سامي سويدان ، أي أننا نغوص في أغوار نص نقدي قدم من قبل ناقد ، لكي نبحث عن مكامن القراءة الجديدة للنص الأدبي ، ولكي نكسب هذا النص التصويب والجدية ومشروعية النقد الأدبي ، وكذا محاولة التأسيس لنظرية نقدية ) .
وبذلك هي ترى أن ماطرح من مفهوم “نقد النقد” ليس من فترة ما بعد الحداثة ، بل هي نتاج فترة ما بعد البنيوية.
من هذا المنطلق أجد أن تقابل هذه الأبنية الثلاثة وتحديد الفوارق بينها صار ضرورة لتوضيحها للقارئ استكمالا للحوار مع الناقد فاضل ثامر وهي:
( النص الأدبي اللغة الأولى )
١- خيال
٢- توصيف (الأدب)
٣- لغة سردية
٤- خارج نصي
٥- نص أولي
٦- قبلي دائما
(النقد اللغة الثانية )
١-مادي حواري
٢- فهم وتحليل
٣- لغة شارحة
٤- يعتمد على النص الأدبي
٥ -تحليلي
٦- بعدي يتعلق بالأول وليس بالثاني
( نقد النقد اللغة الثالثة )
١- اشتغال مادي و معرفي
٢- لا صلة له بالأول إلا من باب القراءة الثانية
٣- لغة متعلقة بالثاني
٤- يفكك النص الثاني ويحاكمه
٥- نص علمي معرفي
٦- بعد البعدي شارح أو مفكك للثاني و ليس تطبيقيا للأول
تلك هي حدود الأنواع الثلاثة وخصائصها بشكل عام ، مما يجعلها تمتلك سماتها الخاصة .
أراد الناقد فاضل ثامر أن يقول : إن نقد النقد يتعلق بالجانب الفلسفي ، وكان الأحرى به أن يذهب إلى المفاهيم النقدية لكولدمان Goldman ونقده لمفاهيم جورج لوكاتش في تناول سوسيولوجيا مجتمع الرواية والواقعية النقدية واشتغالاتها وتحديد مفاصلها ، لا مثلما تناول التوسير مفاهيم ماركس ، بوصف هؤلاء الثلاثة يمثلون (نقد النقد ) من جهة والبعد الفلسفي من جهة أخرى ، بعيدا عن مفهوم (ما وراء النقد ) التقويضي .
يستشهد الناقد فاضل ثامر بتودوروف في مقولته ( إن النقد ليس ملحقا سطحيا بالأدب ، وإنما هو قرينه الضروري) .
لا أعرف حقا هل أن الناقد يناقش تشكل النظرية النقدية أم هو يناقش نقد النقد ، ولا أجد ضرورة للاستشهاد بهذه العبارة التي لا تخدم عنوان أطروحته ، والأحرى به أن يأتي بآراء تودوروف حول مفاهيم ميخائيل باختين وغيره من النقاد في كتابه ( نقد النقد .. رواية تعلم ) الذي تطرق فيه إلى مفاهيم الحوارية والتعالقات النصية والأصوات.
لقد غاب عن ذهن الكاتب أن طبيعة الدرس النقدي لنقد النقد تندرج ضمن المناهج الإبستيمولوجية بتعريف الناقد المغربي محمد الدغمومي ” تعريفا بالمبادىء والقواعد والموضوعات التي تخصصه عن غيره من أشكال الخطاب المعرفي والعلمي ، بدءا من التأكيد على الجانب الأبستيمولوجي ” الذي يعد بالأساس المنهج الدراسي الذي يتبعه نقد النقد ، وبذلك ” يؤكد أن نقد النقد هو منهج علمي يبتعد عن النقد ويتموضع في مكان العلم ، وفق هذا الموضوع لم يتحدث الناقد فاضل ثامر عن علاقة العلم بنقد النقد ، بل ذهب إلى باري ويلسون وحديثه عن الهرمنيوطيقا التي تعنى بفك الرموز في النص الأول ، وهي ليست من مهمات نقد النقد ، غير أن الناقد أخذ مفهوم (ما وراء التفسير ) ليذهب به إلى ( ما وراء النقد ) ليقارب بينهما ، في الوقت الذي تعنى الهرمنيوطيقا بالنقد تحديدا ، حيث
– كما قلنا – تتناول الرموز في النص الأدبي بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي ، أما التأويل الذي يقترب من الإبستيمولوجيا في الغاية ، فإنه معني بالمعنى الكلي الأشمل ، وقد استخدم الأول ( دراسة وتفسير النصوص الأدبية).
يرى الناقد فاضل ثامر في شرح مفهوم (رينيه ويليك) :
(أنه يشكك في كون النقد الأدبي فنا) ، ثم يأتي الناقد ثانية ليستشهد بويليك على أن النقد الأدبي فن قائم بذاته ، أي ليس متعلقا بفن آخر ، كما ينكر أن يكون نقد النقد نظرية قائمة بذاتها .
يرى الناقد أيضا أن بارت كما يقول : ( عد النقد خطابا حول خطاب ، وهو قول ثان أو لغة واصفة ، تمارس على قول أول )، في الوقت الذي يعرف الناقد أن رولان بارت درس فضاء الخطاب ، وهو يعرف تماما أنه خطاب على خطاب ( بوصفهما فضاءين متحاورين ) ، وأكد على ذلك حين نقل مفاهيم المغربي حمزة أبو ساجية المشابهة لمفهوم بارت.
يؤكد الناقد على ” أن وظيفة نقد النقد والتي حددتها إلى حد كبير البادئة (ميتا) تشير إلى حالة انعكاسية نحو الذات ، أي نحو النقد نفسه ” وهذا يتعارض مع مجمل دراسته ، التي تؤكد أن نقد النقد بوصفه خطابا فلسفيا لمحاكمة النظرية النقدية ، وهذا يتعارض أيضا مع النفي في مقولته و الإثبات في استنتاجاته واطروحته الرئيسية .
الحقيقة أن آراء الناقد فاضل ثامر صادمة وغير معقولة حينما يشدد على أن نقد النقد مرادف للفلسفة ، وهذه المقولة تسقط وتقوض أمام سمات وخصائص طروحات منظري حركة نقد النقد ، لتكشف لنا لا معقولية اعتبار بارت وتودوروف وكولدمان فلاسفة.
لم يتحدث فاضل ثامر عن الخصائص المشتركة و التضادية بين النقد من جهة ونقد النقد من جهة أخرى ولذا نتساءل : هل هناك خصائص تجعل المصطلحين مفترقين بدلالات مختلفة وما هي ؟ إذ لم يوضحها الناقد ولم يشر لها .
من هذه الرؤية يذهب الناقد إلى مصطلح ( metahistory ) ” ما وراء التاريخ ” على ما ذهب إليه نورثروب فراي ، ويقر أنه مرادف لمصطلح ( فلسفة التاريخ) وهنا نقول :
إن هذا الربط يعد محاولة قسرية لجعل نقد النقد محكوما بالفلسفة ، وهذا منطق بعيد عن علاقة نقد النقد بالفضاء النقدي للأدب والأنواع الأدبية ، التي يشتغل عليها النقد ، حيث تعتبر مادته الأساس ، والتي تقوم طروحات النقد بمجملها عليه.
في هذه المقالة نجد الطروحات تتقنع بأوجه متعددة فمرة نراها تتخطى التاريح ومفاهيم ماركس للصراع الطبقي ، ومرة أخرى تذهب إلى التاريخ و لأفلاطون وأرسطو في الماهيات ، ومن هنا نقول :
من الصعب تصور هذه المفارقة في الاتكاء على منهجين متضادين من جهة المادية التاريخية ، وما يقابلها من المثالية الأفلاطونية ، كون التعارض قائما بين الصراع الطبقي و الميتا تاريخ ، لذا من غير المنطق أن يذهب الناقد إلى القول :
( إن أصول نقد النقد ترجع إلى الفكر اليوناني القديم) ، ومن هذا الاستنتاج نقول :
كيف لنا أن نفهم أن أصول نقد النقد تعود إلى الفكر اليوناني القديم ، إذا لم يقدم لنا الناقد شاهدا واحدا على صحة هذه المقولة ، التي تحتاج إلى التدليل والبراهين.
من جانب آخر أرى صحة وصواب الاعتماد على تعريف موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة ( كون نقد النقد هو خطاب نظري عن طبيعة وغايات النقد الأدبي ، وان مهمته هي الفحص النقدي للنقد) ،
وأجد أن ذلك دقيق جدا ، وصائب بامتياز ولكن ما علاقة نقد النقد بالفلسفة ، مادام النقد الأدبي ليس فلسفة؟
أخيرا أود التأكيد على أن ، الهرمنيو طيقا متعلقة بالنقد وليس بنقد النقد كونها تفكيك رموز العمل الأدبي ، وهي أقرب للتأويل ، باعتبارها مجالا يشير إلى تطور دراسة نظريات التفسير ، وفن دراسة وفهم النصوص في فقه اللغة واللاهوت والنقد الأدبي ، ولهذا يستخدم مصطلح الهرمنيوطيقا في الدراسات الدينية للدلالة على دراسة وتفسير النصوص الدينية ، وبذلك يكون المنطق الهرمنيوطيقي لنقد النقد كشف تعدد التفسيرات بالنسبة للمفسرين بحسب بري Wilson وهنا نسأل : هل هذا يحتوي على ما هو جديد أو إضافة فلسفية أم هو من المتداول النقدي ؟
الغرابة أن فاضل ثامر يقول: إن نقد النقد فلسفي شامل ، ومرة أخرى يقول إنه خطاب معني بطبيعة وغاية النقد الأدبي .
كيف نفسر ذلك ؟
أخيرا أرى أن دراسته ما هي إلا وصف عابر لطروحات الغربيين حيث مفهوم نقد النقد ولا جديد فيها ، سوى الاحتجاج بالأسماء اللامعة في النقد العالمي ، والتي يجفل القارئ
من علميتها النظرية العالية ، غير أن هؤلاء يقدمون أفكارهم و مفاهيمهم بشكل بسيط وبمجملها تتعلق بثلاثة أنواع أدبية تتعالق مع بعضها أو عدمه ، وهي العمل الأدبي ، والنقد ، ونقد النقد.،
———————————–
All reactions:
حسب الله يحيى and 67 others