حاوره الشاعر
حسين بن حمزة
إضاءة الشاعر هادي ياسين
” هذه واحدة من أجمل و أصدق المقابلات الأدبية التي قرأتها . يقدم فيها الشاعر العراقي الفذ ” صلاح فائق ” نفسَه على حقيقتها ــ اجتماعياً و ثقافياً و إنسانياً ــ كما لو كان أمام المرآة . من لم يعرف ” صلاح فائق ” قبلاً ، أو لم يفهم مغزى أو ثراء أو رسالة شعره قبلاً ، سيجد في هذه المقابلة الممتعة بعض المفاتيح التي تفضي الى مغاراته البهيجة ، مغارات فيها الكثير من نور الشعر الذي لا يجيد كتابته إلا مَن هم مِن فصيلة ” صلاح فائق ” الشعرية . هذه المقابلة ــ التي نشكر الأستاذ ” حسين بن حمزة ” على إجرائها ــ تستنطق ” صلاح فائق ” عمّا لا يعرفه قارئـُـهُ عنه كثيراً . في هذه المقابلة لا يكشف ” صلاح ” أسراراً ــ لا أدبية و لا إجتماعية و لا سياسية ــ بل هو يدور بمصباحه الشخصي على بعض المنحنيات في حياته الأدبية و الشخصية ليضيء مساحة الغِنى التي ينطوي عليها ” صلاح فائق ” الحريصُ على قدسية خصوصياته الشخصية و الشعرية . في هذه المقابلة الأدبية يكشف الشاعر عن تصالحه العميق مع نفسه و نبذه للنفاق الفردي و الجماعي مع السطح الذي يلوث غبارُهُ النفوسَ الصافية ” .
مهاد
حسين بن حمزة
11 نوفمبر 2023
* “هو أحد أعضاء “جماعة كركوك” التي شكلت مُنعطفًا قويًا في الشعر العراقي، وصنعت حالة مختلفة داخل تجربة الستينيات بكاملها في العراق وفي العالم العربي. لا يزال ذلك الانتماء إلى جماعة يلاحق صلاح فائق، كما يلاحق بقية أعضائها الذين تقاسموا أفكارًا وطموحات شعرية وثقافية ونقدية قادتهم إلى كتابة سابقة لمجايليهم، أو على الأقل مبتعدة عن مناطقهم المأهولة. كتابة ميّالة أكثر إلى النثر، وإلى تجنّب الفصاحة الزائدة والموضوعات الكبرى والدراما الرومانسية الممزوجة بالوزن والإيقاع العالي. فكرة الجماعة، التي لا تزال مستمرة، أفردت لكل واحد منهم، في الوقت نفسه، مساحته الخاصة. هكذا صار في الإمكان أن يحلّق سركون بولص بجناحين مختلفين، وكذلك مؤيد الراوي، وفاضل العزاوي، وبقية الأسماء، وأن تظل صفة الجماعة ملتصقة بهم أيضًا، وأن يبدو كل واحد منهم على حدة ومع المجموعة في آنٍ واحد. مع مجموعته الشعرية الأولى “رهائن”، دخل صلاح فائق بقوة إلى المشهد الشعري، قبل أن يبدأ هجرته خارج العراق، في دمشق، وبيروت، ولندن، ثم قراره أن يعيش في الفليبين، حيث ضاعت أخباره هناك في البداية، ثم بدأت تصلنا مجموعاته وأشعاره التي يقول إنه يواظب على كتابتها يوميًا. مع الوقت، صارت قصائده أقصر. ثم صارت على شكل مقاطع قصيرة، وشذرات، تختلط فيها التفاصيل اليومية مع سريالية خفيفة وتأملات شخصية ومحاولات للوصول إلى جوهر الأشياء بأقل ما يمكن من الكلمات. هنا حوار حول تجربته”
(*) نشرتَ أول قصيدة لك سنة 1965. لنتحدث أولًا عن بداياتك الشعرية، ماذا كانت قراءتك وقتها، وأي تأثيرات ساهمت في تكوين تصوراتك الأولى عن الكتابة؟
كانت مجموعة قصائد قصيرة في دفتر خصصته لتدوين كتاباتي، منها ذكريات مشاهد يومية في أزقة بغدادية قديمة، لقاءات مع أصدقاء، انطباعات عن كتب قرأتها، أشعار، أفلام، ومضات شعرية مفاجئة، وغيرها. كنت ألتقي صديقي من كركوك، الشاعر والرسام أنور الغساني، في دكان عملتُ فيه كبائع قمصان. دفتري الذي كان معي دائمًا أثار فضوله. أخبرته بأنه لتوثيق اهتماماتي وحياتي اليومية. رجاني أن أسمح له بتصفحه، وربما يختار بعضًا منها لنشرها في الملحق الثقافي لجريدة “الجمهورية”. فقد كان محرر ذلك الملحق. بعد أسابيع، أخبرني عدد من أصدقائي بنشر مجموعة من قصائدي في الملحق. فوجئت بالأمر، وسررت به أيضًا. في لقاء آخر شكرت صديقي، ورجوته إعادة دفتري. وعدني، لكني بعد فترة من غيابه علمت بسفره إلى ألمانيا. هل أخذ دفتري العزيز معه؟ لم أعرف. بعد ثلاثين سنة، وأثناء اتصالي به، هو في كوستاريكا، وأنا في الفليبين، سألته عن مصير دفتري ذاك، فأخبرني بأنه لم يعد يتذكر. هذه كانت بدايتي الشعرية، لكني قبلها كنت مهووسًا بكتابة قصص قصيرة جدًا، وأيضًا بالرسم خصوصًا بالحبر الصيني. تركت كل شيء في بيتي في كركوك، وهربت من العراق. زرت كركوك بعد حوالي ثلاثين سنة، في نهاية العام 2003، فلم أعثر على ما تركت. منذ بدايتي في الكتابة الشعرية، قررت التخلص من الأوزان والقوافي والمواضيع وغيرها. شجعني على ذلك اكتشافي أن القصيدة المترجمة إلى العربية من لغة أخرى تبدو بلا بحور، أو قواف. ورغم إصرار سركون بولص وقتها على أن أخوض تجربة تعلّم الشعر الموزون، إلا أنني قررت أن أتفادى ذلك، والاهتمام بشعر الحياة اليومية كشخص.
(*) في تلك الفترة التقيت الكاتب والمسرحي جليل القيسي، وعن طريقه تعرفتَ إلى سركون بولص، وجان دمو، ثم فاضل العزاوي، ومؤيد الراوي، وآخرين من “جماعة كركوك”، وصرت واحدًا منهم. إلى أي حدّ كان ذلك إشارة حاسمة إلى طموحك الشعري وهويتك الشعرية؟
كنا نسكن في زقاق واحد، أنا وجليل، أي كنا جيرانًا. عرفت باهتماماته الأدبية وسفره إلى أميركا، وتأييده للحزب الشيوعي. سركون وجان عرفتهما في المدرسة المتوسطة، من دون أن أعرف ميلهما إلى الأدب. فاضل العزاوي، ومؤيد الراوي، عرفتهما في شكل أفضل من خلال نشاطي كمؤيد للحزب، وقد ساعداني كثيرًا ونشرا قصائد وكتابات لي في جريدة “النصر”، وفي مجلة “ألف باء”، و”شعر 69”. مصادفة التقيت في تلك الآونة الكاتب جليل القيسي وأنا أحمل بعض الكتب، وهو أمر فاجأه، أي اهتمامي الأدبي. أخبرته بأني أكتب قصصًا قصيرة أيضًا، فطلب أن أسمح له بقراءتها، وهذا ما حصل. كان مسرورًا بقصصي، وأبدى آراء ايجابية حولها مع اقتراح بتخفيف الشعر عنها. أخبرني عن لقاء أدبي كل أسبوع في بيته مع عدد من الكتاب والشعراء، مرحّبًا بحضوري. حضرت اللقاء الأدبي، ولم أندهش بالحاضرين، فقد كنت أعرفهم جميعًا. بدأت الجلسة بقراءة كل واحد منهم عمله الجديد، سواء كان شعرًا، أو قصة قصيرة. قرأت أنا أيضًا إحدى قصصي. ثم بدأ النقاش وإبداء الآراء النقدية حولها. اتفق الجميع، خصوصًا جان وسركون، بأني شاعر، ولست كاتب قصص قصيرة. وتأكد هذا أيضًا مع الأب يوسف سعيد. هكذا قرروا مستقبلي. لم يكن هذا طموحي وقد تحقق، وإنما سررت جدًا بالعلاقات الجديدة التي ستغنيني بالطاقة الشعرية والإنسانية.
(*) كيف تنظر اليوم إلى جماعة كركوك، وإلى منجزها الشعري داخل الشعرية العراقية والعربية أيضًا؟
تمت محاربتنا حتى نهاية حكم صدام من قبل فئات ثقافية موالية للسلطة. لم يكن بيننا نحن “جماعة كركوك” حتى بعثي واحد، أو سلطوي. لقد عانى وتعذب من بقي منا، قبل أن يهرب الجميع الى جهات مختلفة في أميركا وأوروبا. أطلقنا على جليل القيسي لقب “حارس المدينة”. استمر يكتب بتصميم بطولي حتى نهايته المحزنة. توالت علينا الاتهامات بلا توقف، عن كوننا شعوبيين، معارضين للثورة وقيادتها. لم ينشروا كتاباتنا ومجموعاتنا الشعرية والقصصية والمسرحية، عدا كتب قليلة كافكاوية لجليل. “رغم إصرار سركون بولص على أن أخوض تجربة تعلّم الشعر الموزون، إلا أنني قررت أن أتفادى ذلك، والاهتمام بشعر الحياة اليومية” ورغم هذا الإنكار والتجاهل استطعنا نشر أعمالنا في الخارج. هذه مأثرة من مآثر الجماعة. منذ سنوات قليلة يجري الاهتمام النقدي بأعمالنا التي تبلغ أكثر من مئة كتاب في الشعر والقصة والمسرح والترجمات. يتم تناولنا دائمًا في الأبحاث النقدية كمجموعة، لكننا متفردون في أساليبنا، ونتميز في إنجازاتنا من دون أن نتكرر. هذه الحقيقة مؤكدة ليس في العراق وحده وإنما هناك اعتراف عربي وعالمي أيضًا بدور هذه الجماعة في إغناء الشعر والأدب بأصوات جديدة.
(*) هل صحيح أن معرفة أغلب أعضاء الجماعة باللغة الإنكليزية، وانتماءهم إلى الأقليّات، ساهمت في المساحة المختلفة التي ارتادتها نصوصهم، وكانت سببًا في التخفّف من العقائدية والإيقاعات العالية والفصاحة الجاهزة، وسببًا في التجريب الذي حدث في تجارب أغلب هؤلاء؟
كركوك كانت مدينة قوميات ولغات وثقافات أيضًا، بسبب تركيبتها السكانية من كرد وتركمان وعرب وآشوريين وأرمن. وكانت المدينة تعج بحشد من الإنكليز بسبب وجود شركة النفط البريطانية. كان المولود في هذه المدينة يتعلم معظم هذه اللغات في البيت والمدرسة والشارع. نحن كمجموعة كنا نعرف هذه اللغات، واغتنينا بثقافاتها، ومن بينها الإنكليزية. ما جعلنا نتخفف من العقائدية والإيقاعات العالية والفصاحة الجاهزة، حسب تعبيرك، هو أننا كنا مناضلين ماركسيين قبل أن ننتهي أدباء وشعراء وكتابًا. استطعنا، بشكل مدهش، أن نجمع هذا كله في كلّ واحد منا. لقد تجدّدنا في الغربة والمنافي من دون أن يغرينا الحنين إلى الماضي، أو عزلة الراهن.
(*) ديوانك الأول “رهائن” (1975) أدخلك بقوة إلى المشهد الشعري، ولا يزال يُنظر إليه كشعر راهن وحيوي رغم مرور عقود على كتابته ونشره. حدثنا عن زمن كتابته، وكيف بدأ مسارك الشعري به، ولماذا أحدثَ ذلك الأثر المستمر حتى اليوم؟
كانت أسابيع من الغضب واليأس انعكسا كتابة هذيانية أحيانًا، وصار مخيالي ضحية ذاكرتي التي كانت تحتشد بمشاهد من سجن كنت فيه لشهور، ولم أكن متيقنًا من نجاتي، وبمشاهد أخرى من فقداني أصدقاء لي أثناء الحرب التي شاركتُ فيها في مواجهة سلطة شوفينية غاشمة ضد الشعب الكردي وخيرة المناضلين العراقيين من مختلف القوميات. كان ذلك في عام 1963، بعد وصول البعثيين إلى السلطة في قطار أميركي، حسب تعبير علي صالح السعدي، سكرتير ذلك الحزب المشؤوم. بقيت شيوعيًا، حزبيًا حتى عام 1970، حين قررتُ إنهاء هذا الانتماء بعد اكتشافي غباء وتخلف قيادة الحزب. من الغريب أن كارل ماركس هو الذي أنقذني من شيوعية عربية وسلطوية. حاولتُ الحصول على جواز سفر بعد هذا الوضع الكابوسي، فلم أنجح لوجود قرار قضائي يمنعني من السفر لأسباب أمنية، حسب التعبير الحكومي التافه. أيضًا، لم أستطع الحصول على أية وظيفة أو عمل، للأسباب ذاتها. هكذا، إذًا، كنت محاصرًا من كل جهة، مهددًا، ولم يكن لي أمل في الخلاص من هذا الوضع. قررت الانتحار، ووجدت أن من الضروري توثيق حالتي في كتابة قبل الإقدام على تنفيذ قراري. جاءت لحظة الاكتشاف الرهيبة حين أدركت أني في الحقيقة رهينة، ومع استمراري في الكتابة والتأمل، عرفت أني لست وحدي في هذه الحال، وإنما الشعب كله كان رهينة الوضع السياسي والثقافي، وغيرهما. هكذا وصلت إلى قناعة بأن عنوان “رهائن” هو العنوان الصحيح لهذا التوثيق الشامل. الأثر المستمر لهذه المجموعة سببه إدراك الجميع كونهم رهائن الآن، منذ زمن طويل، ومن خلال سلطات قمعية وغاشمة.
(*) بعد “رهائن”، خرجتَ من العراق. كان ذلك إشارة مجازية ـ كما قلت ـ إلى وجود الذات كرهينة بطريقة ما داخل مساحة محددة ولغة وأجواء محددة. ماذا كان تأثير هذا الخروج؟
بعد مساعدة نبيلة من الشاعر عبد الوهاب البياتي، استطعتُ الحصول على جواز سفر، ووافقت على شرطه ألا أعود إلى العراق. ادّعيت أني مسافر إلى الكويت للاهتمام بأبي الذي كان يحتضر في أحد المستشفيات هناك. لكنني بعد أيام وصلت إلى دمشق، وكان يومًا عظيمًا لي، من ناحية الأمان والبيئة المختلفة، طبيعيًا وثقافيًا. بعد أيام عرفت أن مجموعتي “رهائن” في المطبعة. التقيت أصدقاء قدامى من العراق ومن سورية ولبنان. قضيت شهورًا في بيروت، ونشرت فيها بعض قصائدي في مجلة “مواقف”، وجريدة “السفير”، مع الاستمرار في نشر أعمال لي في مجلة “المعرفة” السورية، وفي الصفحات الثقافية لبعض الصحف. لكن الأمور بدأت تسوء في دمشق مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية. كانت رغبتي زيارة لندن لفترة قصيرة ريثما تهدأ الاوضاع الخطيرة في البلدين، لكنها لم تهدأ، فبدأت أجهّز حالي للخروج والسفر. لم أر نفسي منفيًّا أبدًا
(*) وهكذا بدأت تغريبتك في لندن… هناك كتبت وأصدرت مجموعات شعرية مميزة مثل: “تلك البلاد”، و”مقاطعات وأحلام”، و”رحيل”. ماذا أعطاك المنفى؟
وما أثره على شعرك… وعلى فهمك للشعر؟ لم أر نفسي منفيًا أبدًا. انتقلت من بلد إلى بلدان أخرى، وبقي العراق وطني. لا يمكن أن تضيف أمًا ثانية إلى الأم الأولى، الحقيقية. مجموعة تلك البلاد كانت ما بقي من تصفية حساب صارم مع ماضيّ، إذ القصيدة الأساسية فيها، وهي “تلك البلاد” كتبتها في بيروت في ليلة حتى الصباح عند البحر، ونشرها أدونيس بعد أيام في مجلة “مواقف” في العدد ثلاثين أو واحد ثلاثين. القصائد الباقية في المجموعة كتبتها في لندن خلال سنة، وهي تختلف من حيث تأثير البيئة الجديدة والمزاج الشخصي، من تنوع الصور والمقاطع كقصائد مستقلة. يمكن ملاحظة ذلك من عناوين المجموعات الجديدة، مثل “مقاطعات وأحلام”، أو “طريق إلى البحر”، وغيرهما. “رحيل” كان تنبؤًا لما سيحصل بعد سنوات في قرار التوجه إلى الفليبين. إنه كتاب ممتع جدًا، وضعت فيه كل ما كان عندي في تلك السنوات من حياة يومية، ذكريات، هيمنة المخيال، أشياء البيت والمدينة: قصيدة في أكثر من مئة صفحة مع مجموعة كولاجات لي لأول مرة. اغتنت حياتي من خلال علاقاتي مع السرياليين، ومع الأناركيين، والتجول اليومي تقريبًا في المدينة الكبيرة. كما درست الموسيقى لسنتين، واستطعت قراءة النوتة الموسيقية من دون أن أنجح كعازف للكلارنيت. حققت أيضًا طبع كتابين لي لمختارات مترجمة إلى الإنكليزية، وشاركت بكولاجاتي في معرضين. في عام 1993، قررت مغادرة لندن بشكل نهائي، وكان هذا الحل الوحيد للتخلص من العمل في الصحافة العربية في المملكة المتحدة. كنت قد زرت الفليبين قبل ذلك، بطلب من المجلة التي كنت أعمل معها، للكتابة عن الوضع الجديد في الفليبين بعد الإطاحة بماركوس وأسرته. كتبت مجموعة مقالات حول الموضوع، لكنني قررت أيضًا اختيار الفليبين للإقامة الدائمة في حال قررت الهجرة من بريطانيا. وهذا ما حصل.
(*) لماذا الفليبين؟ هل منحكَ هذا المكان غير الاعتيادي شيئًا خاصًا؟ كيف تقضي أيامك فيه؟
بقيت في تركيا لمدة سنة قبل الانتقال إلى الفليبين. لم يوافقوا على إقامتي الطويلة في تركيا بسبب كوني بريطانيًا، من كركوك، ولأني كنت أعمل في الصحافة العربية، وبسبب الأجواء الأمنية بعد حرب الخليج الأولى، والشكوك كثيرة حول العراقيين الذين يحملون جوازات سفر أوروبية. انتقلت إلى الفليبين، وعانيت من مصاعب التأقلم في بلد مكون من أكثر من سبعة آلاف جزيرة، يتكلم شعبها تسع لغات ومئة لهجة، بلد براكين وزلازل، أعاصير المحيط والملايين التي تنتظر الهجرة إلى أميركا. عانيت أيضًا بسبب المناخ والرطوبة العالية. اخترت جزيرة سيبو الجميلة للإقامة، وكان عندي المال الضروري لترتيب أموري في البلد الجديد، بعد بيع شقتي في لندن. بقيت لأكثر من عشرين سنة. تعلمت اللغة. بدأت أتلاءم مع المناخ. التقيت شعراء وعثرت على عمل من خلال لقائي بأحد الشيوعيين القدامى الذي ورث مالًا كثيرًا من والده، وبقي يحنّ إلى ماضيه النضالي. عملت معه لأعوام في شركته للبناء. وخلال سنوات، صرت صديقًا لكثيرين، ولم أصارح أحدًا حول الشّعر. البيئة من جديد سحرتني، بدأت أكتب لنفسي. لم أنشر لأكثر من عشرين سنة في أية مجلة، أو صحيفة عربية. لم أحضر مهرجانًا، أو معرضًا للكتب، ولا أجريت مقابلات. قمت بأعمال أخرى، منها جلب قطع ذهب من تايلاند إلى تركيا، وملابس رخيصة منهما إلى الفليبين. خلال عشر سنوات كتبت آلاف الصفحات، وكانت مبعثرة في المطبخ، تحت سريري، وخلف التلفزيون. قمت بتحويل تلك الصفحات إلى كتب بواسطة الكومبيوتر والإسكانر. وهكذا رتبت عشر مجموعات شعرية لم يقرأها ويتمتع بها غيري. قرأت هناك مراثيَ حول موتي، أو ضياعي في الفليبين، أو اختطافي، مراثيَ محزنة جدًا، من قبل أصدقاء. أضحكني ذلك كثيرًا.
(*) رغم حضورك الراسخ في المشهد الشعري العربي والعراقي، إلا أنك بطريقة ما غائب أو مغيّب وبعيد عن الأنشطة والمهرجانات ومعارض الكتب العربية. ربما لعبت إقامتك في الفليبين دورًا في ذلك. كتب أمجد ناصر ذات مرة مقالًا بعنوان: “من يتذكر صلاح فائق؟”. كيف تنظر إلى ذلك؟
لبيّت دعوات قليلة لحضور مهرجانات شعرية، وبعضها كان احتفاء بي وبمنجزي الشعري، لكني في شكل عام لا أتحمل هذه الأنشطة التي تُموّل في معظمها من قبل أنظمة ومؤسسات إعلامية أكرهها، والأسباب معروفة، ومنها قمعية هذه الأجهزة وتخلفها ومتاجرتها باللغة الدينية وتبجّحها القومي المزيف. لا علاقة لهذه التركيبات السياسية والاعلامية بالثقافة والشعر، كما لا أتحمل ضجيج هذه النشاطات والتلويح بالقبضات من خلف المنابر، ثم هناك الرشوة المالية الممنوحة لهذه الأبواق الصاخبة، والتي تساوي آلاف البراميل من البترول. ليس هذا الموقف بسبب بقائي في الفليبين، وإنما هو موقف مبدئي ضد تسويق الأدب والشعر في بازار الإعلام والسياسة التافهة.
(*) كُتب كثير عن جيلكم، جيل الستينيات العراقي، وضمنه “جماعة كركوك”… ما الذي ميّز جيلكم شعريًا من وجهة نظرك؟
وماذا كان تأثيره في شعر الأجيال التالية في العراق؟ جماعة كركوك، في رأيي، هي أفضل مجموعة أدبية ظهرت في تاريخ العراق الأدبي والشعري. ذلك لأنها ضمت أفرادًا من كافة القوميات العراقية، وفي مدينة واحدة، قبل أن تعمّ كل الأرض العراقية، ثم تجاوزت ذلك إلى الأقطار العربية، وحتى العالمية. هنالك أكثر من مئة كتاب مطبوع لهذه المجموعة، من قصص قصيرة، إلى مسرحيات، دواوين شعر، روايات، تراجم وغيرها. المهم في هذه المجموعة دورها النضالي في السياسة، وراديكاليتها في الثقافة والكتابة. وقد دفعوا أغلى ما كانوا يملكون وعانوا السجون، التشرد والمنافي البعيدة. “درست الموسيقى لسنتين، واستطعت قراءة النوتة الموسيقية من دون أن أنجح كعازف للكلارنيت” لكن، رغم كل المآسي التي عاشوها، استمروا في خطهم الثوري على كل المستويات. ويسعدني أن أذكر هنا رفضهم كل المغريات والضغوط للتواطؤ مع الأوضاع الجديدة، الاحتلال الإمبريالي، والطائفية المقيتة، حتى رحيلهم في المغتربات. ظهرت في السنوات الأخيرة، في العراق وغيره، أبحاث كثيرة حول هذه المجموعة، وحول نتاجها ودورها في صياغة الاتجاه المستقل في الكتابة الأدبية، وتوثيق ما كانت تدعو إليه: الحداثة. أنا تلميذ هذه المجموعة.
(*) ما الذي تغير في شعرك أثناء هذه المسيرة الطويلة من الكتابة، وأكثر من عشرين مجموعة شعرية، عن ماذا تخليت في قصيدتك، وما الذي تعمّدت أن يبقى ويتطور فيها؟
تغيرت في كل مجال، بالسفر والإقامة في بيئات متنوعة، واغتنيت بهذا التغير. غنى الحياة وتجاربها أساس الكتابة الجيدة، وليس القراءة والتأثر. أنجزت ثلاثين مجموعة شعرية، وعشر مجموعات هي مختارات، مترجمة إلى لغات أخرى. استطعت التخلص من هيمنة الذاكرة في الكتابة الشعرية، تخلصت من سلطة المواضيع، وتدربت طويلًا، لسنوات، على التقاط الصورة الشعرية من البيئة. أدخلت القصة القصيرة جدًا في قصيدتي. أنا أحب الكتابة، وأحاول أن أتفادى المصطلحات وتحديد أسلوبي بقصيدة النثر، أو القصيدة الحرة، أو السوريالية. ما أصبو إليه هو الحرية التامة في الانشغال الشعري وتوثيق حياتي شعرًا. أعتقد أن هذه طموحات كبيرة. آمل أنني حققت منها ما يفرحني. (*) يُلاحظ في قصائدك التي تنشرها في السنوات الأخيرة غلبة الكتابة المقطعية والقصائد القصيرة جدًا التي تقترب أحيانًا من بنية الشّذرة الشعرية… لماذا حدث هذا وكيف؟ يلائمني هذا الخط الآن في الكتابة الشعرية، إذ أنني لا أسرد حدثًا، أو أروي موضوعًا، وإنما أحاول انتزاع الشعري من مشهد ما بالقليل من الكلمات. التشظي والتنوع سبيلي إلى تحقيق رغبتي في الكتابة المختلفة. سبق لي أن نشرت مجموعة شعرية، قبل عشر سنوات عنوانها “ومضات”، وما زالت تغريني شعريًا. (*) هنالك أيضًا غزارة واضحة في نتاجك الأخير. ألا تخشى تكرار نوعية الكتابة؟ أنا مكرّس تمامًا، منذ عشرات السنوات، للشعر. قبل تلك السنوات كانت كتابتي موسمية، إن صح التعبير، أي كنت أكتب بين فترة وأخرى، حسب ضرورات نفسية، أو مزاجية. اكتشفت في ما بعد أن أفضل اختيار هو في الكتابة اليومية لحمايتي، فتحصّنت بها. هذه الحالة ندركها في العزلة، بعيدًا عن الأسرة، الوطن، والعيش في اللغة الأولى. حين تصير الكتابة الشعرية ضرورة بهذا المعنى فإنك لا تكرر نفسك. ينبغي على الشاعر دراسة كتاب الشعرية لتفادي التكرار، إن حصل. (*) أخيرًا… ما الذي تريده من القارئ وهو يقرأ شعرك؟ ماذا تريد أن يجد فيه؟ أن يجد نفسه في شعري، أو أن يجد بعضها. بذا أقتنع بصحة تجربتي، وأهمية استمرارها وتنوعها. هذا التواصل والفهم والقبول، هذا كله يعنيني، ويؤكد لي أهمية الشعر لحياتي وغناها، وأيضًا بديلًا من هذا العالم البائس صلاح فائق.
أخيراً:
“احب أن اعبر عن شكري وتقديري لصديقي العزيز هادي ياسين على قراءته الغنية ، كما في مقدمته الجميلة ، لهذه المقابلة آلتي حاولت فيها توثيق بعض ماضينا ، مجموعة كركوك ، مساهمتي المتواضعة وتعلمي من وفي تلك المدرسة من المبدعين الاوائل . مع شكري ايضا للشاعر على مجهوده في انجاز هذه المقابلة .”