“ملامح الشخصية اللبنانية” لكريم مروة.. فاطمة المحسن

شارك مع أصدقائك

Loading

 

الذات الوطنية في مرايا ثقافتها

فاطمة المحسن

May be an image of 1 person
عندما كتب علي الوردي أول مرة عن الشخصية العراقية مطلع الخمسينات من القرن المنصرم، ثار الجدال ببغداد حول قدرة أي باحث على الإلمام بملامح شعب من الشعوب، وهوجم كتابه شأن كتبه الأخرى المثيرة للاهتمام، ولكن هذا الإصدار بقي مرجعاً لا يُستغني عنه إلى اليوم. الراحل كريم مروة الكاتب والشخصية السياسية المرموقة في لبنان، يضع عنواناً مكملاً لكتابه ” ملامح الشخصية اللبنانية” لنتعرف على النموذج المرصود للبنان “من خلال سير وإبداعات المثقفين”. وعلى خلاف الوردي الذي ينقّب في عيوب الشخصية العراقية، يحاول مروة أن يجد محطات مضيئة تجمع ما يخاله ناظم التمايز في هذا الكاركتر الذي يحدد تضاريسه باعتباره نتاج الوعي المتقدم في المجتمع. ومن هنا يمكن أن نجد في اختلاف الكتابين ما يرشدنا إلى نمطين من الرؤية للذات الوطنية، يتوفر في النمط الأول الدرس الأكاديمي السوسيولوجي والثاني الثقافي الانطباعي، ولكن اختلافهما الجوهري يكمن في جواب لسؤال ظل يشغل العرب منذ عصر النهضة وهو كيف ننظر إلى أنفسنا؟ علي الوردي يجيب على السؤال في مرآة النقد التي حاول أن يضعها أمام العراقي كي يدرك عطوبه، في حين حاول مروة أن يستنهض مكامن القوة والرفعة في مواطنه. ولن يكون الأول على خطأ كما الثاني، فمروة وهو يذهب في مقدمته الى أن وظيفة كتابه العامة تتحدد بتأكيد وحدة مكونات وسمات الشخصية اللبنانية في تنوّعها وتعددها، ويصارح القارىء بأن للكتاب أيضا وظائف أخرى بينها ما يتصل ” بالمتعة التي أمارسها في الكتابة وفي إصدار الكتب في هذه المرحلة المتقدمة من العمر قبل الرحيل” .لعل من تعوّد قراءة التاريخ الثقافي يجد في ما كتبه مروة فائدة تتحدد في هوامشه ولا تقتصر على متونه، فانطباعات الكاتب وذكرياته وزوايا تناوله لسيرة من يراهم الأكثر أهمية في التاريخ السياسي والثقافي للبنان، تعني فيما تعني، عرض الأنساق التي يتحرك داخلها الكاتب والتي انتجت قراءاته لتلك التجارب، فهو يضع الذاكرة التاريخية في اطار وظيفتها الاجتماعية باعتبارها مستثمرة في حقل الفكرة الجامعة للهوية، هوية الوطن التي تنتظمها التجارب الفردية لمثقفيه. لعل الجانبين الماركسي ونقيضه يتحققان هنا، فكريم مروة أحد قادة اليسار ، وأبرز المنتقدين للفكر الشيوعي العربي، يجمع المتناقضات لتتولد عنها أيديولوجيا الوطن على اختلاف مكوناته، وهي أدلوجة تنحّي فكرة على حساب أخرى، فهو لا يتطرق إلى العلاقة بين المثقف والناس أو بين المثقف الماركسي والآخر ” البرجوازي” النخبوي، أو الليبرالي الذي يطرحه كنموذج في كتابه، لأن المنطلق الماركسي لا يشغله في هذا الحيز، بيد أن المثقفين أنفسهم في المنحى التطوري لنظرية ماركس هم خارج الطبقات الاجتماعية. ربما هي وحدة متغيرة تبرز في نموذج اليسار اللبناني، فلبنان لم يعش تلك الصراعات بين الطبقات والعقائد قدر ما عاش احتراباته الطائفية.
التعريف بالشخصية اللبنانية هو المدخل في كتاب مروة، وهذا التعريف تحدده خمس سمات كما يقول، تظهر الأولى في التعدد الديني والاثني، حيث ينتج تعدداً ثقافياً وحضارياً حتى داخل الأديان والاثنيات ذاتها، الأمر الذي مكّن لبنان من أن يكون في مراحل تاريخه القديم والحديث مركز تواصل وتفاعل عميق بينه وبين العرب وبينه وبين العالم. أما السمة الثانية كما يستطرد، فهي ” تتمثل في طموح اللبنانيين إلى المعرفة ، وفي قدرتهم على امتلاكها واستيعابها والإبداع فيها، وفي تمكنهم من تبوأ مراكز عالمية كبيرة مشهود لها ” . السمة الثالثة يراها في ميل اللبنانيين للهجرة إلى الخارج، وفي قدرتهم على التكيف مع المجتمعات التي يعيشون فيها. أما الرابعة فتتمثل في تعلّقهم بالحرية الفردية والعامة، ثم الخامسة في تمسكهم بأرضهم والتصدي لكل أنواع المشاريع التي تهدد استقلالهم.
واذا أهملنا المنزع الرغائبي في جمع تلك الخصال، فسنجد هذا الاجتهاد في الطرح يشكل جانباً من خطاب التكريس، حيث يرى بطولة الإنجاز تتمثل في شخصيات استبطن حضورها صيغة الهوية الجامعة، حين تدرج فكرة خلود الأعمال الأدبية والفنية في حيز الإنجاز لشعب من الشعوب، وهي فكرة طالما راودت الباحثين على قدمها، فالكثير من الشعوب صُنفت سماتها وفق نتاجات وأعمال مشاهيرها.
ندرك من خلال اختيار المؤلف سبعة وعشرين أسماً، ان الشخصيات وما تمثله في التاريخ اللبناني هي على نحو ما، تستطيع رسم ملامحها ” الوطنية” في خطاها الحثيثة نحو الانسلاخ عن الطائفة أو المجموعة الاثنية التي تنتمي إليها، وسيخرج في النهاية باستنتاج يؤكد على أن الفكرة الجامعة في لبنان الحديث دخلت مع انتشار النزوع إلى الفكر المساواتي، فأكثر الأسماء الواردة في الكتاب من الجيل الذي شكلت المساواتية ناظم خطاباته، في حين يؤجل الحديث عن الفكر القومي العروبي الذي كان لبنان المسيحي أول من حمله في وجه السلطنة العثمانية وسياساتها الإقصائية، وكان رواده من المبشرين بالفكرة العروبية التي تتجاوز الاختلافات والخنادق الدينية.
يستذكر مروة في سيرة المثقفين المسيحيين وفي مقدمتهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وإلياس أبو شبكة الكيفية التي تصدوا فيها للكنيسة، وبقي انتمائهم اللبناني يبز مسيحيتهم ، ولكنه يهمل المفارقة في ما تعنيه ” السورية” في خطابهم، فهم يسمون أنفسهم شأن كل مثقفي لبنان مطلع العشرين، ب”السوريين” أو ” الشاميين”، وهي تسمية لا تحدث التباسا في زمن قولها، قدر ما تحدثه الآن، ولكن الدراسات تمر عليها على نحو عابر. كما ان الانتماء إلى المسيحية على مستوى الصيغة النصية في شعرهم ونثرهم، يدفع إلى الاعتقاد بضرورة الوقوف عندها كلحظة تاريخية طبعت الأدب اللبناني بطابعها إلى وقت متأخر، وهي في النهاية هوية فرعية وتكاد تكون هوية وطنية على نحو ما.
لعل أهم شخصية يسلط مروة الضوء عليها في هذا الكتاب هو ميشال شيحا، السياسي ورجل الأعمال والمساهم الأول في وضع دستور لبنان الطائفي حيث تحددت بموجبه سيرة لبنان منذ تأسيسه حتى اليوم. وشيحا كلداني من عائلة عراقية نازحة إلى لبنان، وقد أولاه عدد من المؤرخين بمن فيهم فواز طرابلسي، اهتماماً مضاعفاً وأفردوا له الدراسات المختلفة. إنه كما يقول مروة شخصية مثيرة للجدل، فهو مفكر ليبرالي، وبقيت ملامح شخصيته تشكّل ما يشبه القاسم المشترك للبنان ما بعد الاستقلال، وقد كان مهدي عامل منظّر الحزب الشيوعي قد توجه بسهام النقد إلى شيحا في كتابه ” مدخل الى نقض الطائفية”. ولكن من يضعه في مقام نقيض، يرى في دعوة الاعتراف بالطوائف كمكونات تتقاسم السلطة، محض محاولة لتخطي الزيف في التعامل مع الأمر الواقع. في كتاب مروة يساير الذاتي الموضوعي في الطرح، فما يقوله عن جبران خليل جبران وحياته الخاصة والعامة يمكن أن يشكل الوجه الآخر لسيرة عائلة الرحابنة أو ميخائيل نعيمة أو إلياس أبو شبكة، ولكن لا يمكن تصوّر تلك الحيوات المنوعة للثقافة من دون أن تجمعها الشراكة اللبنانية، فالرحابنة ربما قبل غيرهم استطاعوا العبور الى كل الثقافات العربية، الشعبية منها والعالمة، ليضعوا تضاريس لبنان الحلم، لبنان الجمال والرقة والعذوبة. عند هذه النقطة تبدو الثقافة قادرة على رسم معالم الشخصية الوطنية، سواء كانت حقيقة أو متخيلة، فكل الجماعات كما يقول بندكت أندرسن من صنع المخيلات الجمعية والفردية.
شارك مع أصدقائك