رسمية زاير
ها قد بدأ الشهر الذي رحلتَ فيه: 29/12/2006، اليوم الأخير من كانون الأول. ولم نكن نعلم أن الأوان قد حان، وأنها الساعة الأخيرة، ولا عودة للباب الذي أقفلته بيديك. لكنّ المفاجأة كانت فوق التوقعات. ولو كنتُ أعلم أنّه الشهر الذي سترحل فيه، لأحكمتُ إغلاق الأبواب والشبابيك، وفرّقت حاجاتي من كتب وأمتعة، واستأجرت بيتًا لي على سواحل القمر، بيتًا لا يصيبه الهجران، ولا تذبل زهوره، ولا تتكسّر قناديله، ولا يطمع فيه الغرباء. كنتَ مستمعًة جيدًة لحكاياتك، وقصصك الغريبة عن الأصدقاء وسفرك وخصوماتك ومشاكَساتك. أنت لا تجيد الكذب، لذلك تكون قصصك كالقنابل، تنفجر كالمناطيد حولي، وليس عليَّ سوى تصديقها. أنت تجيد اختراع الدهشة، وتدمع عيناك لعقيل علي، وصباح العزاوي، ولطيف راشد، ولكل صعاليك العالم ومشرّديه. يصيب مستمعك الذهول وأنت تسرد أحداثًا هائلة، ويحسّ معك أن الوقت قصير، وأن الليل مدهون بالغربة. تقول: “أكره الشعر!” وأنت تعيشه ليل نهار. “أصلاً أنا مو شاعر! ومن هو الشاعر؟” “المتنبي!” “بس؟ طبعًا!” ثم تردف قائلًا: “أنا أفضل شاعر، والما يعجبه يرمي نفسه من فوق الجسر المعلق!” أقولها نكاية بالآخرين! وما سرّ النعناع في قصيدتك الأخيرة؟ (ما زالت باسلة وتدور على الآفاقين رائحة النعناع). وما سر قلبك الذي ينفجر حين تتذكر الأصحاب والحبيبات ومن قاتلتهم من الرجال؟ حدثتني عن الثعالب والكلاب حين تمر آخر الليل بلا مأوى، بعد جلسة صاخبة في منتديات بغداد والديوانية،بعيدة وقد تفرّق شمل الأصدقاء. والوقت متأخر، والفنادق أغلقت أبوابها. لم يستقبلك سوى طفل وحيد، تشردتما معًا معظم الليل. وحين رآك تغفو تحت شجرة قرب ساحة الأندلس، دثّرك وأشعل لك النار، وأضاء ليل بغداد ليبعث الدفء في أوصالك. “إنني أدين له بحياتي، ذلك الصعلوك الصغير.” هكذا تضيف قوائم جديدة لأحبابك الصعاليك، ثم تنساه، وتعدّ العدّة لغزو جديد، لكن الوقت لا يمهلك. شاعر غماس، وقيصر الصعاليك، والأمير الفقير، وبطريرك العاصفة، وإسكافي عفك، وأسعد إنسان في العالم. عشرات الألقاب التي أطلقتها على نفسك أو أطلقها الآخرون. ويقول عنك الدكتور حسين سرمك: “كزار شاعر عالمي.” ويقول عنك الشاعر والناقد فاضل عزيز فرمان: “كزار حنتوش مغنّية الحي التي تطرب.” لا أتذكّر كلّ ما قيل فيك، أيها الأمير الفقير، ولكن أقول: يبقى شاعر غماس يملأ العالم بصريره الذي يطرب له الجميع. تبقى إشكالية لوحدك، وظاهرة لافتة للنظر. تقول: “أبلى أخفاف عفك سعيًا بين مناكبها، ومضى بين الريح، وبين الريح، وبين الريح، مثقوبًا كالناي.” أو تقول: “إنشاه الله على عجل من سبخ الدغارة، ورماه إلى وطن من كحل ونجوم ومشانق.” هل أنت من عفك، أم غماس، أم الدغارة، أم الحي العصري، أم من الجديدة؟ المهم، أنت ديواني أولًا، وعراقي من قمّة رأسك إلى أخمص قدميك، كما وصفك الشاعر حميد سعيد.