سيسيولوجيا الواقع بين النوستالجيا والعولمة دراسة منهجية تحليلية في رواية “الوقوف على عتبات الأمس”
للمبدع الكبير / أحمد طايل
د. نجلاء نصير
مقدمة
تأتي رواية “الوقوف على عتبات الأمس” للكاتب أحمد طايل كأحد النماذج الأدبية التي تجمع بين الحنين إلى الماضي (النوستالجيا) والتحديات التي تفرضها العولمة على الأفراد والمجتمعات. في الرواية، يواجه البطل عالمًا يتغير بسرعة بفعل التحولات التكنولوجية والاجتماعية، في حين يبقى مرتبطًا بماضيه الريفي وهويته التقليدية. تتناول الرواية صراعًا نفسيًا واجتماعيًا يعكس التناقض بين الرغبة في استعادة الماضي والاضطرار إلى التكيف مع عالم جديد تسوده قيم العولمة والتكنولوجيا.
أهداف الدراسة
تحليل البناء السردي للرواية من حيث الشخصيات، المكان، الزمان، الحبكة، والقفلة.
دراسة أثر انعكاس العولمة على المجتمع الريفي وتأثيرها على الهوية الفردية والجماعية.
دراسة دور النوستالجيا كآلية دفاع نفسي أمام التحولات المجتمعية.
تسليط الضوء على الأثر النفسي على الفرد والمجتمع نتيجة التحولات الثقافية والاقتصادية.
المنهجية
تعتمد هذه الدراسة على المنهج السيسيولوجي النقدي الذي يتناول الرواية من خلال تحليل العلاقة بين الواقع الاجتماعي والهوية الفردية. يُستخدم أيضًا المنهج البنيوي في تحليل الشخصيات والمكان والزمان داخل السرد، بالإضافة إلى الاستعانة بالتحليل النفسي لفهم دوافع الشخصيات وصراعاتهم بين الماضي والعولمة.
أولًا : البناء السردي للرواية
كان المكان حاضرا من1 الوهلة الأولى من العنوان “الوقوف على عتبات الأمس “وكأن الكاتب يأخذ المتلقي إلى زمن ماضٍ كان فيه كل من القيم والجذور والهوية هم المعادل الموضوعي للأصالة .
المكان كعنصر سردي يقول الكاتب ص : 221 مخاطبًا أبناءه “رسالة هامة وهامة جدًا تأملوا بكل تجرد ،كل بيت ، كل شارع سوف تبصرون حكايا وحكايا الأماكن تسكنها أرواح ساكنيها ، تحمل أنفاس من غادروها ، تأملوا وانتبهوا فإن الأمس هو أساس اليوم والغد لا تسمحوا بطمس التاريخ أو تشويهه ..”
يشكل المكان في رواية “الوقوف على عتبات الأمس” أكثر من مجرد خلفية للأحداث؛ إنه عنصر أساسي في بناء الذاكرة الفردية والجماعية. القرية تمثل بالنسبة للبطل موطن الذكريات والأحداث التي شكّلت شخصيته. بينما تكمن المفارقة في العودة إلى القرية بعد عقدين من الزمن من الغياب تكشف عن تناقضات كبيرة بين الماضي والحاضر. الأمكنة التي كانت تمثل الاستقرار والطمأنينة أصبحت تعكس الاغتراب، حيث طغت المباني على الحقول، وحلت التكنولوجيا مكان العلاقات الإنسانية الحميمة.
فالمكان هنا ليس ثابتًا، بل يتغير بتغير الزمن. في الرواية، يشكل التحول العمراني والتكنولوجي تهديدًا للهوية، إذ يُجبر البطل على مواجهة عالم جديد لم يعد يتماهي مع ذاته المغتربة ،ويؤكد ذلك فقدان الجذور نتيجة التغيرات الاجتماعية التي طرأت على القرية، مما يعزز الشعور بالغربة داخل المكان الذي كان في الماضي موطنًا.
يمثل المكان في الرواية أيضًا نوعًا من الذاكرة الجماعية، حيث يستدعي البطل ذكرياته في القرية كلما واجه مظاهر التحديث، مما يعمق التوتر بين ما كان عليه المكان في الماضي وما أصبح عليه بفعل العولمة. يُلاحظ أن التحولات العمرانية والتكنولوجية تُقدم كمصدر لزعزعة الاستقرار النفسي والاجتماعي للشخصيات.
الأماكن في الرواية:
القرية:
المقابر “مقابر العائلة” حيث تمثل النوستالجيا والحنين للجذور
القرية هي المحور الأساسي في الرواية وتمثل المكان الذي يحتضن ذكريات البطل. تغيّرت ملامح القرية بفعل التحديث والعولمة، حيث أضيفت المباني الحديثة وأصبحت التكنولوجيا جزءًا من الحياة اليومية للفلاحين.
هذا التغير يجعل القرية تبدو للبطل غريبة وغير مألوفة، رغم أنها كانت المكان الذي قضى فيه أجمل سنوات حياته.
المكان في الرواية هو أكثر من مجرد خلفية، بل هو عنصر أساسي يعبّر عن فقدان الهوية والصراع بين القديم والجديد.
بيت العائلة
يشكل البيت رمزًا للانتماء والجذور، لكن البطل يشعر بفقدان هذه الجذور مع تغير البيئة المحيطة. البيت أصبح مكانًا يرمز إلى الماضي الذي لا يمكن استعادته.
الزمان في الرواية: بين الحاضر والماضي المتداخل
الزمن في الرواية لا يسير بشكل خطي، بل يتنقل بين الحاضر والماضي يستخدم الكاتب تقنية الاسترجاع بشكل متواصل. فتترتكز الرواية على استرجاع البطل لذكريات طفولته وشبابه “نوستالجيا”، حيث كانت القرية رمزًا للأصالة والتقاليد. مع تقدمه في السن وعودته للقرية، يجد أن الزمن قد غير كل شيء، مما يعكس الصراع الداخلي بين الرغبة في استعادة الماضي والتكيف مع الحاضر.
تستخدم الرواية الزمن كوسيلة لعرض الثنائيات الضدية والتأثيرات العميقة للعولمة على الهوية. كلما حاول البطل العودة إلى ماضيه، يجد أن العالم الذي كان يعرفه قد تغير، مما يعمق شعوره بالاغتراب.
الشخصيات: صراع بين القديم والجديد
تمثل شخصيات الرواية شريحة من المجتمع المصري الريفي الذي يعاني من التحولات الثقافية والاقتصادية. فشخصية البطل، (الرواي العليم رشدي أيوب صالح)على لسان محمد مرعي المحامي الذي كان يعمل بالشئون القانونية بديوان المحافظة ص 124 يقول ” يا ابن الرجل البركة الذي كان أوكسجينه العلم، وأظنه عندما غادر الحياة مات محتضنا العلم، أبوك كان صيته بكل القرى رجل أعطى بلا مقابل طالبا محبة الله والبشر، ومؤكد نالها كاملة الله يرحمه.”
فسيرة الأب والجد العطرة وأصالة هذه الأسرة واحترام الجميع لهم يعزز التمسك بالقيم الريفية وتقاليدها وأصولها
تعكس صراعًا داخليًا بين تمسكه بقيم الماضي وتقاليده وبين العولمة التي غزت قريته. في المقابل، نجد الشخصيات الشابة أكثر تكيفًا مع التكنولوجيا والحداثة، مما يعمق الفجوة بين الأجيال.
البطل: يعاني من حنين قوي إلى الماضي، حيث كان يشعر بالأمان والانتماء. عودته إلى قريته بعد غياب طويل تكشف عن حجم التغيرات التي طرأت على المجتمع، مما يجعله يعيش حالة من الاضطراب النفسي.
الشخصيات الثانوية: تعكس تأثير العولمة والمادية على المجتمع. الفلاحون الذين أصبحوا يستخدمون الهواتف المحمولة ويرتدون الملابس العصرية يمثلون التحول التدريجي للمجتمع الريفي نحو عالم رقمي حديث
وخير مثل على مساوئ العولمة محمد مرعي وانصياعه لزميله باهر الفاسد الذي أغراه بالعمل مع السعدني باشا وتصوير الكاتب لحالة الشيزوفرنيا التي كانت تخلل سهرات هذا الرجل الذي ينتمي لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين وفراره إلى لندن واصطحابه لمحمد مرعي ولقائهم بإبراهيم رشدي المؤول الأول لتنظيم الإخوان الدولي والمسؤول عن تدبير التمويلات دائمة التدفق للجماعة ص/ 128و132
كما عرض لدور جماعة الإخوان في ثورة 25 يناير ودور محمد مرعي ورفضه للانصياع لأوامرهم وغدرهم به
ثانيا : سيسيولوجيا الواقع بين النوستالجيا والعولمة
النوستالجيا:
تعتمد رواية “الوقوف على عتبات الأمس” بشكل كبير على مشاعر النوستالجيا. البطل في الرواية، رجل متقدم في العمر، يعود إلى قريته بعد سنوات من الغياب ليواجه التغيرات الجذرية التي طرأت عليها. يعكس الكاتب من خلال زمن الاسترجاع حالة البطل ويرسم بمشهدية حنينه و اشتياقه لأيام الطفولة والشباب، حيث كانت الحياة في القرية بسيطة وهادئة. فالنوستالجيا ليست مجرد حنين سطحي، بل تعكس حالة عاطفية معقدة يتداخل فيها الحزن على الزمن المفقود مع القلق من الحاضر.
من خلال وصف الأماكن التي تغيرت بفعل العولمة، مثل الطرق والمباني التي غطت الحقول، وأجهزة المحمول التي أصبحت في أيدي الفلاحينكما يُظهر الكاتب تأثير التقدم التكنولوجي على الهوية الفردية والجماعية. حيث يتجلى الحنين إلى الماضي في التفاصيل الصغيرة مثل الألعاب الطفولية التي كان البطل يلعبها مع أصدقائه في “الجرن والأنشطة الاجتماعية التي اندثرت مع ظهور الحداثة.
فالنوستالجيا في الرواية تعكس رغبة البطل في الهروب من الحاضر الذي يشعر فيه بالغربة والاضطراب. يمثل الحنين إلى الماضي آلية نفسية يستخدمها البطل للتعامل مع العالم المتغير من حوله. كلما ازداد توغل العولمة في قريته، ازداد تعلقه بالماضي، وكأن الزمن المثالي الذي يحن إليه هو الملاذ الوحيد أمام الفوضى التي أحدثتها التكنولوجيا
أثر العولمة في الهوية الريفية
يسرد الكاتب بتقنية المونتاج السينمائي كيف غيرت العولمة من طبيعة المجتمع الريفي؟ مما أدى إلى انهيار العديد من القيم الأصيلة . فالتكنولوجيا، مثل الهواتف المحمولة والملابس العصرية، لم تعد مجرد وسائل حديثة، بل أصبحت قوة تغيير تعزل وتغيب الأفراد عن هويتهم الثقافية والاجتماعية. هذا التغير أثر على العلاقات الاجتماعية داخل القرية، حيث أصبحت المصالح الشخصية تطغى على الروابط الاجتماعية التي كانت تحكم المجتمع في الماضي.
كما ترصد الرواية الفجوة بين الأجيال
من خلال رصد المتغيرات الدينية التي طرأت على القرية ص 139
“أخذني التفكير بدرجة شديدة حول المتغيرات الدينية التي طرأت على قريتي، خاصة بعدما سمعت حكاية محمد حرفوش ، مؤكد أن التطرف بأي اتجاه من اتجاهات الحياة يصنع فجواتٍ وشروخًا عميقةً للغاية، بالتحديد التطرف الديني هو قمة المعضلات، نحن مع التمسك بكتاب الله وسنه رسوله ـ صلي الله علىه وسلم ـ وفهم صحيح الدين”
تعكس الرواية صراعًا بين الأجيال، حيث نجد أن الشباب يتكيفون بسهولة مع العالم الرقمي، بينما يعاني الجيل الأكبر من الاغتراب. هذا التباين يظهر بشكل واضح في العلاقة بين البطل والشخصيات الأخرى في القرية، حيث يشعر البطل أن الجيل الجديد قد انفصل عن الجذور الأصلية التي كانت تشكل هوية المجتمع.
الحبكة:
أ-الحبكة تدور حول عودة البطل إلى قريته بعد غياب طويل ومواجهة التحولات التي طرأت عليها. يتداخل الماضي والحاضر في سرد الرواية، حيث يتذكر البطل حياته القديمة في القرية، وفي الوقت نفسه يحاول التأقلم مع الوضع الجديد ومحاولاته الحثيثة لاسترجاع قريته بنقائها وصورتها البكر مرة أخرى ونجاحه في ذلك بعدما تعاون هو وأسرته وأحفاده وأصدقائه في ذلك وهذا دور المثقف الواعي تجاه مسقط رأسه وجذوره الضاربة في الأرض التي تمثل أصالة مصر ونهرها العظيم
اللغة
تشكل اللغة في رواية “الوقوف على عتبات الأمس” عنصرًا محوريًا في بناء النص ونقل مشاعر الشخصيات. من خلال تحليل الأسلوب السردي، اللغة التعبيرية، والحوار، يتضح أن الكاتب يعتمد على لغة بسيطة لكنها قوية في إيصال التوترات النفسية والاجتماعية التي تعاني منها الشخصيات. تجمع الرواية بين نوستالجيا الماضي وتحديات الحاضر، مما يجعل اللغة أداة فعالة في استكشاف الهوية والتحولات الاجتماعية.
القفلة أو النهاية
تعزز الشعور بالاغتراب والحنين الذي يعيشه البطل، حيث يبقى السؤال معلقًا: هل يمكن للإنسان التكيف مع عالم يتغير بسرعة دون فقدان هويته؟ تعكس رواية “الوقوف على عتبات الأمس” لأحمد طايل التوتر العميق بين بين ماضٍ مليء بالقيم والتقاليد، وحاضر سريع التغير بفعل التكنولوجيا والعولمة. من خلال دراسة البناء السردي للرواية، نجد أن الكاتب يعبر عن حالة من الاضطراب النفسي والاجتماعي التي يمر بها الفرد في مواجهة التحولات الثقافية. النوستالجيا تمثل في الرواية محاولة للهروب من الحاضر، بينما تعكس العولمة قوة تفرض نفسها على الهوية والمجتمع.
القفلة تمثل المصالحة مع الحاضر
في عتبة الوقوف على عتبات الأمس ص 220 “تحولت القرية إلى خلية عمل ، بكل القطاعات بإزالة التعديات …نحن جئنا ردَا لمعروف أباك وجدك ..”
وفي ص 221 رسالته ووصيته لأبنائه ” لا تسمحوا بطمس التاريخ أو تشويهه..من لا يملك تاريخًا لا يملك يومًا أو غدًا لذا وجب علينا الوقوف على عتبات الأمس ”
وختم الرواية بخطابه لوالده الغائب الحاضر “أبي، ها أنا عدت وسرت على دربك ”
فعودة القرية لجمالها البكر كان الحلم الذي تحقق بجهد وإصرار البطل وبمعاونة الأصدقاء وأهل القرية ،فالقفلة مفتوحة لأنه حمل أمانة الحفاظ عليها لأولاده لأنها المعادل الموضوعي للتاريخ والجذور التي يحاول صناع المؤامرة طمس معالمها .