صراع الوجود المعلّق على جدار الفصل
مثلما أثار الفيلم الفلسطيني “الجنة الآن” اهتمام الجماعتين المؤيدة والمعارضة لخطابه، كذلك يحظى فيلم “عمر” للمخرج نفسه هاني أبو أسعد بقدر متشابه من المواقف، ما بين إعجاب أوصله إلى القائمة الأخيرة لجائزة الأوسكار وفوز كاسح في مهرجاني دبي وقرطاج، وبين استنكار ظهر في بعض الصحف الفلسطينية التي رأت فيه رسالة استشراقية لمخرج يقيم في الغرب. فيلم هاني أبو أسعد ” عمر” يعيد إلى الذاكرة نجاحات المخرج الذي سبقه في الحظوة العالمية، ميشيل خليفة عند تناوله القضية الفلسطينية على نحو لا يخلو من الجرأة، من دون تنازل عن ما يمكن أن نسميه المنحى الإنساني والواقعي في المعالجة.
سيكون بمقدورنا نحن المشاهدين العرب الإقرار بأن كاميرا مخرج “عمر” كانت تتحرك في أكثر من اتجاه، وفي مقدمة تلك الاتجاهات بوصلة المشاهد الغربي، وهي صعبة الإرضاء في الجانب الذي يخص القضايا العربية في هذا الظرف، ولكنه استطاع كسب الجولة الأولى عندما التقط فضاءه الخاص، فحوّل الحياة السرية التي يمارس فيها البطل الفلسطيني “النضال” ومحاولة قطف المسرات الشخصية، إلى مسار تراجيدي صادم يصبح فيه متعاوناً مع جهاز المخابرات الإسرائيلي. يقول أندريه فايدا أصعب جزء في فكرة الفيلم، الفكرة نفسها، لأنها تحتاج في النهاية رؤية مزدوجة. وفكرة المتعاون مع المخابرات، وهي مستنكرة، أو مضادة للبطولة، استطاعت أن تصبح الحمولة الأكثر ثقلا في معاينة القضية الفلسطينية على نحو مزدوج، فهي لا تدين المتعاون، رغم إدانة مجتمعه له، قدر ما تفضح قسوة العنف ووحشية جهاز الأمن الإسرائيلي، وهو بيت القصيد هنا الذي اختبر فيه المخرج فكرة القبول والرفض. المخرج الذي صور الفيلم في نابلس والناصرة وبيسان، يبدأ من جدار الفصل العنصري وهو يضمر دلالة رمزية في طريقة استخدامه من قبل البطل الشاب الذي يمارس شقاوته الخاصة في تسلق ذلك الجدار كي يصل حبيبته في العمل أو المدرسة. ولا نعرف لماذا وقع المخرج في ما يبدو خطأ الاقناع، فالفتاة العاشقة والمعشوقة تظهر مرة طالبة في مدرسة تناسب عمرها، واخرى عاملة في معمل خياطة، كما هو الحال مع البطل الذي يظهره يدير فرن خبز لوحده، في حين يعيش بين عائلة تبدو على قدر من اليسر، فالام والأب وحديقة البيت لا توحي بأنه خباز أو على قدر ضئيل من التعليم. ولكن المكان الفقير وطبيعة أحيائه المتراكبة كانا على قدر عال من التناسب بين ثقلين لا يلتقيان: حياة الناس اليومية وسطوة الغارات البوليسية التي يشنها الإسرائيليون كي ينتزعوا الشباب من حياتهم الطبيعية.
تطور الفيلم دراماتيكيا من خلال بحث في المسافة بين الجلاد والضحية، كيف تستوي العلاقة كي تصل إلى منتهاها، حين يطلق الفلسطيني الطلقة الأخيرة على ضابط المخابرات الإسرائيلي. ولكن المخرج لم يعزل هذه الثيمة بين جدران السجن، بل أطلقها في فضاء المكان، في بيوت الأصدقاء والمقاهي وبين الأحراش والخلاءات المفتوحة التي يتدرب فيها الشباب على المقاومة. هناك دور مؤثر للمكان في هذا الفيلم، حين تمر الكاميرا بأزقة المدن مروراً سريعاً، في لقطات مطاردة عمر، ولكن الجدران بتقاربها ولولبية حركتها، تشكل ما يشبه الحماية التي توفر له فرصة النجاة. تعوّد البطل تسلق السطوح للوصول إلى مبتغاه، وتصبح محاولاته الناجحة لاجتياز جدار العزل الاسرائيلي بحبل، مثل ألعاب طفولية، فهو يدرك خطورة تلك الخطوة، ولكنه يمارسها يوميا لا لغاية نضالية ولكن للوصول إلى مكان حبيبته، وعندما يكسر السجّان شوكة عمر يبدو غير قادر على تسلق هذا الجدار. المكان في عمقه المحمي بجدران متقابلة للمدن العتيقة يبدو عصياً على مطاردة القوة العسكرية، ولكنه شأنه شأن الفضاءات المفتوحة للمقاومة، كلها تبدو مرصودة من آلة القمع، ولن يكون وسيلة الإسرائيليين للوصول إلى عمق المكان، إلا عبر تجنيد الفلسطينيين أنفسهم كمخبرين أو متعاونين. فكرة نزع الثقة من السجين كي تنتابه الشكوك بأقرب الناس إليه، هو الهدف الذي يبغيه المحتل كي ينفذ الى جلد الضحية، وعبرها الى تفكيك سطوة التلاحم في الوجود الراسخ للأماكن وأناسها.
تمر رحلة المواقف المتغيرة لعمر من فلتر الخديعة، حين يرتبط بعلاقة حب مع ناديا أخت صديقه المناضل طارق، الذي يشكل معه ومع صديق ثالث “ماجد ” خلية مقاومة صغيرة، وهي في حقيقها لم تكن سوى استئناف لصحبة الطفولة والجيرة. وفي تسلسل الأحداث يكتشف عمر طعم المذلة من قبل جنود الاحتلال لا لسبب، بل للاسباب كلها التي دعتهم كي يكونوا محتلين. الخلية الصغيرة تقوم برصد مخيم للجيش الإسرائيلي وقتل أحد جنوده، فتطارد الشرطة عمر وتعتقله. يخضع إلى تعذيب ويمر بمكائد في استراحات السجن ويكتشف معرفة الإسرائيلين واقعة القتل بتفاصيلها وحتى حواره مع حبيبته الحميمي يخبروه عنه. حينها تبدأ ثقته تنهار تدريجيا بمحيط الرفاق وناديا التي وحدها تعرف طبيعة الحوار، ولكنه يبقى يحمل أملاً ضعيفاً بالخروج إلى الحياة، ويعرف ان ثمن هذا الخروج يرتهن بتعاون مع الضابط رامي الذي ظنه من الفلسطينيين لاتقانه اللغة ومحاولاته استمالته وكسب صداقته.
لا تكمن دراما القصة في ثيمة التعاون مع الاحتلال، بل في اكتشاف الخديعة، حيث يخبره صديقه ماجد بعلاقته مع حبيبته ناديا وهي حامل منه، وبهذا يكسب ابتعاده عنها، فيشجعه عمر على خطبتها خشية الفضيحة ويمنحه المال الذي ادخره لزواجه منها. ماجد هذا كان قد سبقه اإلى التعاون مع المحتل، وهو الذي أخبر عنه جهاز المخابرات. يتجسد البعد الدرامي هنا في فكرة الخيانة التي لا تبدأ من السجن والتعاون مع الاحتلال، بل مع الأصدقاء الطيبين، فهذا الصديق المؤتمن يفيض حديثه بالود والفكاهة، وهو الجدار الأخير الذي ينهار بعد ان مات طارق في معركة بينه وبين ماجد، حول اخته ناديا. يشيّع طارق كشهيد في المدينة بعد أن ينقله الاسرائيليون الى السجن ويموت فيه.
تألق وليد زعيتر في دور الضابط الإسرائيلي في أداء لافت طغى على كل الممثلين، وهو ممثل أميركي محترف من أصول فلسطينية، وكان منتج الفيلم أيضا. دور “عمر” أداه آدم بكري ابن محمد بكري الممثل الفلسطيني المتميز، وكان الفتى بملامحه التعبيرية ورشاقة حركته على تناسب مع ما تزخر به شخصيته من انفعالات. ولعل حوار الشخصيات الذي تضمن الكثير من التباسط والفكاهة، ساعد الممثلين على الاقتراب من سرد يوميات الواقع الفلسطيني.
عرض الفيلم بين تجمع لليسار الاسرائيلي، ومنهم من رحب به، ومنهم من استنكره، لأنه كما يقولون لا يمنح الأمل بالتعايش. وهذا صحيح على نحو ما لو أخذنا بالاعتبار مهمة الفيلم التي تفضح طبيعة العلاقة بين الجانبين، حيث يرقبها جهاز الموساد ويحرسها بطش بوليسه