حاوره
هادي الحسيني / عمّان
الشاعر العراقي سركون بولص هو أحد الشعراء القلائل الذين أخلصوا للشعر ومبادئه بطريقة مغايرة مكنته لأن يكون في طليعة كتاب قصيدة النثر العربية ، ولد سركون بولص في مدينة الحبانية عام 1944 ومن ثم إنتقل في طفولته الى مدينته كركوك ، وكون مع مؤيد الراوي وجان دمو وفاضل العزاوي وصلاح فائق والأب يوسف سعيد وآخرين بما هو معروف بجماعة كركوك ، الذين اتخذوا الكتابة الجديدة في القصيدة العربية ومن خلال نصوص سركون الأولى استطاع ان يتسلل الى الأوساط العراقية والعربية ويسير بهدوء في غابة الشعر بعيدا عن النرجسيات والسياسة من خلال قوة نصه المغاير وإمكانياته العالية ، وإذا كان ثمة انفلاقاً شعرياً حدث في الشعر العراقي فكان من خلال نصوص سركون بكتابته لقصيدة النثر وحسب الشيخ جعفر بكتابته للقصيدة المدورة .إنتقل بولص من كركوك الى العاصمة العراقية بغداد ومنها غادر العراق الى دمشق في عام 1968 ثم الى بيروت وما لبث حتى انتقل الى سان فرانسسكو ليقيم هناك دهراً ، وقد أصدر المجموعات الشعرية التالية : الأول والتالي ، الوصول الى مدينة أين ، الحياة قرب الاكروبول ، حامل الفانوس في ليل الذئاب ، إذا كنت نائماً في مركب نوح .. وله مجموعة قصصية بعنوان ( غرفة مهجورة ) وشهود على الضفاف ، وهي سيرة ذاتية ،. إلتقيت بالشاعر سركون بولص في العاصمة الأردنية عمّان صيف عام 1998 حيث يشارك في مهرجان جرش قادماً من العاصمة البريطانية لندن والتي اصبحت له محطة منفى جديدة بعد رحلة طويلة أمتدت في عدد من بلدان اوروبا وامريكا ، وكان معه هذا الحوار الذي يسلط الأضواء على قصيدة النثر والتجربة والريادة والغربة. ..
ترتبط قصيدة النثر بالذائقة الأجنبية والشعر الأجنبي وانها ليست نابعة من التراث العربي ، وبوصفكم أحد كتابها فأنتم في موضع تساؤل ؟
– الشاعر الضعيف وحده هو من يتشبث بالنص المترجم ، عليه أن يقطع أشواطا طويلة الى أن يحس بالنفس العميق باللغة العربية ، باللهاث الكامل بالمفردة العربية ، الذي يستجير به ويدفعه الى التعبير بشكل حقيقي عن مضمرات ، هي أصلا كامنة في الشعر العربي وعلى هذا على الشاعر أن يكرس نفسه طويلا للبحث عن صوته . الغوص في ذاته ولتأسيس إرتباط حقيقي بين قصيدته وكوامل الشعر العربي بمطلقه ، إنها معادلة صعبة جداً طرفاها البحث عن ذاته الحقيقية وعن لغته المستقبلية . لكل شاعر طريق وجميع الطرق تؤدي الى القصيدة الجدية ، ولا يمكن لنا أن نفسر الاشياء بهذه السهولة إلا إذا كنا مغرضين كما هم نقاد قصيدة النثر الحاليون ..
ثمة مفارقة تاريخية تحجب وبشكل غير معقول الريادات الأولى لكتابة قصيدة النثر ،فالأشقاء من مصر ولبنان يتصورون ان البداية كانت في مجلة شعر الصادرة عام 1961 ، وقفزت عبر توفيق صايغ الى ادونيس ، ونحن نعلم أنك ومجموعة كركوك ، جان دمو ، جليل القيسي ،صلاح فائق ، الأب يوسف سعيد ، أنور الغساني ومؤيد الراوي وأخرين قد أبتدأتم كتابة قصيدة النثر منذ عام 1954- 1955 ، فما هو تعليقكم ؟
أعتقد إن تاريخ قصيدة النثر العربية حدث بشكل اعتباطي ، الأكاديميون لا يعول عليهم في تقصي أصول هذه القصيدة لسبب واحد بسيط وهو انهم مطيعون بشكل مفرط ومبالغ فيه للنظرة السائدة ، وهي أصلاً مستقاة من كتاب فرنسي هو قصيدة النثر من بودلير الى يومنا هذا ، لسوزان برناد . هنا يكمن الخطأ .. كتاب برناد .. هو أصلا عن قصيدة النثر الحقة ، أي القصيدة المكتوبة شكلاً كالمقال دون تقطيع ، ولا تأتي القصيدة إلا عندما يقطع الشاعر قصيدته مثل أي أبيات كما في قصيدة عادية .فاذا كان الكتاب عن القصائد التي كتبها بودلير وسماها حكايات وقصيدة نثر أو قصص صغيرة نسج فيها بودلير على منوال ( أدكار ألن بو ) قصائد أخرى مكتوبة دون وزن ومقطعة شعرياً كما في قصيدته ( مدينة في البحر ) وفي نفس الوقت كان والت ويتمان يكتب أوراق العشب وهي ملحمة الشعر المكتوب نثراً بامتياز .. إذاً ، بدءاً لا يكمن أصل قصيدة النثر في النماذج الفرنسية ، فهي بحد ذاتها تقليد للنموذج الأمريكي وخصوصاً عند بودلير وتأثره بأدكار ألن بو .
نأتي الى قصيدة النثر العربية ، الى جبران والريحاني اللذين تاثرا بويتمان ، بل وقلداه ، ثم جاءت مجلة شعر وقدمت الماغوط وتوفيق صايغ وأنسي الحاج وثلاثتهم يكتبون قصيدة النثر . محمد الماغوط رومانسي في رؤياه وفي لغته وهو يكتب حقاً ما يمكن ان نسميه نثراً . أنسي الحاج ايضاً في بداياته كان رومانسياً ، كتاباته متأثرة في الدرجة الأولى بالفرنسية ، وخصوصاً قصائد هنري ميشو ، أما توفيق صايغ فهو تجربة حادة الزوايا وغريبة على ما كان يكتب آنذاك ، أي في أواسط الخمسينيات الى ما قبل النهايات الستينية بين هؤلاء الثلاثة ، يمثل توفيق صايغ نموذج الشاعر الذي أدرك مبكراً ان قصيدة النثر الحقيقية ينبغي أن تكون لها لغتها الخاصة ونسيجها المتفرد وعالمها الغريب ..
ما المقصود بعالمها الغريب ؟
– الغريب هنا بمعنى التصوف المسيحي الذي كان توفيق صايغ أول من أدخله الى الشعر العربي ، لذلك كان عليه أن يعود الى التورات والإنجيل والقرآن والكتب الدينية الأخرى . أنه متدين بشكل خاص وملحد بهذا المعنى ، وهنا ديالكتيك شعره ، أنه أحد المؤسسين الكبار بهذا المعنى ، وهذا يقودنا الى المنطق الحقيقي الى قصيدة النثر الحديثة ، فاختلافها لا يكون في اختلافها عن القصيدة المكتوبة وزناً ، وإنما في تركيبتها الجديدة . هذه التركيبة هي الحداثة بعينها ، فالشاعر الذي اختار أن ينبذ التفاعيل الخليلية لم يفعل ذلك بحثاً او لمجرد انه لا يتقن أصول اللعبة الوزنية ، وفي هذا صفعة موجهة الى وجوه النقاد الأكاديميون الذين يتناولون موضوعة قصيدة النثر ويحاولون قدر طاقاتهم أن يحبسوها في هذه الخانة الضيقة ، أي كونها معارضة للمنحى الوزني .في العراق كان هناك شخص يحمل في ذاته كل التناقضات التي تحدثنا عنها ومجمل المعارك الذاتية مع تاريخ الشعر العربي بالإضافة الى شخصية شرسة وهجومية وبوهيمية وثائرة أسمه ( حسين مردان ) . وفي كتابات حسين مردان تكمن بذرة قصيدة النثر المستقبلية كحالة فلسفية تستقطب المواجهة الكاملة لعصرنا هذا ، ولعله يشارك شعراء آخرين في العالم وخصوصاً في عقد الستينيات بثورته تلك وتأكده على التدمير الذاتي ، أي الثورة ضد المجتمع كسلوك حياتي ينعكس على الكتابة وكأنما في مرآة محدبة ..
وهل ثمة مقارنة ما بين حسين مردان ومحمد الماغوط ؟
– إذا قارنا حسين مردان بالماغوط لرأينا قطبين مختلفين تماماً ، الماغوط يحاول أن يضحكنا فهو طريف ، أما حسين مردان فيحاول أن ينزل بنا الى الهاوية ، هاويته التي هي في النهاية ، تراثنا المشترك من هذه القاعدة التي بناها حسين مردان إنطلقت أصوات أخرى . أصواتنا نحن الستينيين التي لا تكتفي بأن تقدم مجرد قصيدة يتملاها القارىء ، وإنما نطمح الى أن يصطدم ذلك القارىء بفاجعية الأمر الواقع ، أي أن نكتب قصيدة في عالم مشحون بالتناقضات والجنون والرعب والاحتقار والتدمير ، هذه هي بيضة العنقاء التي أفرخها الغضب في العراق ! والبقية تاريخ موجود مكتوب بشكل سيء لأن من هيمن على تقديم هذا التاريخ كانوا بضعة أشخاص لهم انتماءات ضيقة وأدوات نرجسية متضخمة لا تصلح لأن تبوءهم تلك المكانة .. سامي مهدي أولهم وثانيهم فاضل العزاوي هذا الثنائي الذي ينبغي تزويجه في زفة صاخبة والتخلص منهما ! ليتفرغ شعراء آخرون جديرون بهذه المهمة لتسجيل وقائع هذا التاريخ بشكل صادق ..
من خلال إجاباتكم استاذ سركون تريدون تغيير الذائقة العربية التي تكونت خلال عشرات القرون ، فهل أنكم لم تمنحوا الفرصة الكافية والزمن الكافي لشيوع قصيدة النثر أم لأن هذه القصيدة غير قادرة على تغيير الذائقة العربية المعاصرة ؟
– أنا أريد أن أضرب في أعماق الوعي العربي بصوت لم يعهده قارىء هذا الشعر الذي نسميه الشعر العربي ، ومع ذلك أعتقد أنني ألبي دعوة مضمرة في قصائد أعظم شعراء التراث العربي وهم برأييّ إمرؤ القيس ، عمر بن أبي ربيعة ، أبو تمام ، المتنبي ، أبو نؤاس ، المعري ، وأبن الرومي .. إذا قرأنا هؤلاء الشعراء وتخلينا في نفس الوقت عن النظرة السائدة لهم لوجدنا أنهم كانا يطمحون الى تغيير الوعي بمعنى الشعر وبجداوه ، كل في طريقته ، صحيح كان شعراً موزوناً ولكن جميع الشعراء الذين ذكرتهم عندهم الوزن ما هو إلا قواعد معينة ، حدث أنها أصبحت طريقتهم في التعبير في زمانهم المعين ولحظتهم التاريخية ، نحن ايضاً لنا زماننا المعين ولحظتنا التاريخية وإذا قرأنا هؤلاء الشعراء بأذن جديدة لوجدنا أن جوهر اهتمامهم كان نثرياً ، أي ان فلسفتهم كانت أصلا تعتمد على المنطق النثري في الأشياء .
لنأخذ الفرزدق ، هذا الشاعر العتيق الذي يقول :
( فكنت كفاقىء عينيه عمدا
فاصبح لا يضىء له النهار)
طيب ما الفرق بين هذا الكلام وأي كلام نثري عادي ، صحيح أنه موزون ولكن أرجوك أن لا تتجاهل الوزن وتنظر إليه كمحض تعبير ، إذاً الشاعر الحديث لا ينخدع بهذه الفروقات الآلية ونحن ننتظر من القارىء العربي أن يكيف أذنه الموسيقية بحيث تتقبل الكلام الجديد بوعي آخر ، لا يهتم كثيراً بالقيود والتصنيع الهندسي ، نريد قارئاً جديداً ووعياً آخر ..
ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين كيف ينظر سركون بولص الى مستقبل الشعر العربي والشعر في العالم ؟
أنظر الى الأخبار في التلفزيون او الأذاعة أو الصحف ، ستجد أن اللاجئين أو الفقراء والمشردين يملأون الشاشة وتحتل أصواتهم ذلك الصندوق الذي نسميه الراديو وتلك الخربة السيئة التي نسميها الصحيفة ، ماذا يفعل الشاعر وكيف يتعامل مع الوضع البشري ، ما هو التاريخ بالنسبة له ، هل يمكن له أن يرى كل هذا ويسمع جميع هذه الأصوات المسحوقة ولا يستجيب ، ولكن كيف سيستجيب ، هناك شاعر هو الذي يتشبث بأديولوجية معينة تسمح له بأن ينفث بضعة أبيات تعبر عن موقف مسبق يتكفل به الحزب الذي ينتمي إليه ، وهناك الشاعر الذي له قضية سياسية ينظر من خلال تعاليمها الى هذا المشهد الانساني المريع ، ولكن هناك في الطرف الأقصى الشاعر الذي لا ينتمي الى حزب ولا يعتنق أية قضية سياسية يواجه العصر بكامله من خلال إنتمائه الأنساني المحض ، هذا هو الشاعر الوحيد الذي يستطيع أن يعطينا شهادة حقيقة عن نفسه وعصره ومستقبل العالم وفاجعته ، هذا المستقبل دون أية ضمانات ودون وعود مزيفة ..
بعد سنوات طويلة من الغربة عن الوطن ( العراق ) أرى في مجموعتك التي صدرت عام 1996 والتي هي بعنوان ( حامل الفانوس في ليل الذئاب ) ميول قوية الى أماكنك الأولى الحبانية ، حيث ولادة سركون بولص ، وكركوك وبغداد ومناطق أخرى ، هل تشعر بالحنين الذي يشدك الى اماكنك الاولى ؟
– نعم لقد رأيت الضرورة موجودة وتدفعني لتقصي ذلك التراب الذي مشيت عليه حافياً ، ففي النهاية ماذا يمكنك أن تتشبث فيه وتسميه ملاذك الروحي والحقيقي إن لم تكن تلك الأماكن التي تجلت فيها روحك الحقيقة وتكونت فيها ذاتك الكاملة ، كما في أماكن الطفولة والحدائق والأزقة والروائح والأشخاص والنخلات المغبرة والوجوه العراقية الكئيبة والفرحة في نفس الوقت ، هذا هو أصلي وتلك جذوري وأنا أحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى ، وما هو الشعر في النهاية إن لم يكن فعل إستعادة والإحياء والقبض على الزمن الهارب ..