صلاح فائق: السؤال عن مصادر المخيلة !..باسم المرعبي

شارك مع أصدقائك

Loading

صلاح فائق: السؤال عن مصادر المخيلة !

خمسون عاماً في كتابة الشعر

باسم المرعبي

*
بالشغف ذاته الذي أبداه بكتابة القصيدة، قبل حوالي خمسين عاماً، يواصل الشاعر صلاح فائق تجربته مكرّساً حياته لها، معلّقاً مصيره عليها. وحتى المحطات الظاهرة في حياته من هجرات أو اعتزال أو نأي تبدو مكمّلة لمسار أو خيارشعري، حتى لو من ناحية تكييفه لها فيما بعد كما في مثال إقامته الفلبينية (للقارئ أو الناقد أن يفسرها كذلك). ويبيّن انهماك الشاعر في الكتابة، خصوصاً في سنواته الأخيرة، بعد عدوله عن “الاعتكاف” ومقاطعة النشر لسنوات، انه بات يتنفس شعراً وعلامته هذه الغزارة في النتاج والتواصل والحضور في النشر والتفاعل، لأن الكتابة لديه صارت أبعد من مجرد عادة يومية، أو دفعاً لضجر أو فراغ.
إن اليومي بهذا المعنى هو ترجمة للمصيري:
هذه الورقة هي وطني
ما أكتبهُ عليها وفيها هو حياتي اليومية
مستقبلي وقبري ـ مجموعة: مقاطع يومية 2014
يستثمر الشاعر توالي السنوات وتراكم التجربة الكتابية على النحو الأمثل، فإذا ما عرفنا أن غالبية التجارب الشعرية تشحب مع تقدم أصحابها عمراً وتنحو منحى اجترارياً أو عادياً من القول، بحكم عوامل شتى، فإن صلاح فائق يقف على النقيض من ذلك، بل العكس ربما هو الذي يصحّ، فمع تقدم هذه التجربة، زمنياً، نجدها قادرة على الإدهاش أكثر.
إن قارئ صلاح فائق يجد نفسه أمام شاشة بانورامية متدفقة بالعجيب وكل ما هو غير متوقع. واستعارة الشاشة هنا ليس مجازاً، بل هو ما تُمليه قراءة نص الشاعر ذاته. فكتابته ــ والمصطلح يحبّذه الشاعر نفسه ويقدمه على أية صفة أخرى لنتاجه، وهو ما نجده مناسباً أيضاً لأسباب سنأتي عليها ــ قائمة على تتالي الصور بغرائبيتها وحلميتها، بعيداً عن أي تصنيف أو اتجاه مدرسي نعلّب فيه الشاعر وننتهي منه كما في “شبهة” السريالية التي أُلحقت به، فإذا ما استجاب شيء من نتاجه وفي فترة ما لمواصفات هذا الاتجاه أو ذاك، فهذا لا يعني أن نشنقه بحبله إلى الأبد.
ان كتابته، خصوصاً في نماذجها الأخيرة بملامحها السردية كصفة أساسية من صفاتهاـ وهذا واحد من أهم دواعي إطلاق تسمية الكتابةـ تنأى عن أي توصيف يريد ربطها بعناوين معينة، عناوين فحسب، إذ عند فحص المتن نجده لا يستجيب للتصور المسبق، الشائع ولا يلبي كل شروطه.
إن كتابة صلاح فائق مدينة لمخيّلة حرة جامحة، حدّ الإفراط، تستجيب لنظامها الخاص. يكفي هنا أن نتبيّن حداثة هذا النص، لننبذ كل تسمية أخرى، خصوصاً إذا ما تبنينا مقولة هابرماس من أن ما بعد الحداثة هي الحداثة نفسها، وهو ما نعنيه هنا فإن نص الشاعر الموسوم بعلامة فارقة هي السخرية، والتي هي واحدة من الصفات الأبرز في اتجاه ما بعد الحداثة .
في أفق اللاتوقع
كثيراً ما “يصدم” الشاعر قارئه لناحية مفاجأته بصور وتشبيهات لم تكن في أفق انتظاره. لكأنّ مهمة الشاعر هي استفزاز خيال القارئ وتهيئته ليكون شريكاً في تذوق الدهشة والمتعة، حتى ليضحى القارئ منتجاً آخر بقدرته على التخيّل المستحَث:
ليس من عادتي تشبيه المرأة بالريحِ أو بزورق ـ أراها هواء أوديةٍ تحيطُ بملعقةٍ من خشب ـ مجموعة: مقاطع يومية
فالقارئ ازاء هذا المقطع لم يكن ينتظر أن تكون المرأة، في موضع كهذا، “هواء أودية تحيط بملعقة من خشب” من بين كل الاستعارات أو التشبيهات.
ولو أتى الشاعر بـ “هواء أودية” لوحدها لما شكّل ذلك صدمة للقارئ لأنها الى حد ما ضمن النسق المألوف الذي يستجلبه فضاء المرأة، لكن باستحضار ملعقة من خشب، يكسر الشاعر رتابة العبارة وعاديتها ورومانسيتها بالانتقال إلى ما ينسفها ليستكمل صورة مغرقة في غرابتها وخصوصيتها بداوفعها النفسية والشخصية.ويمكن للمثال التالي أن يشي باتجاه الشاعر أو يجسده. طبعاً ما من أنموذج مهما كان أن يختصر تجربة كاتب ما بالمطلق، لكنه يمكن أن يكون دالاً على أهم قسماتها:
في إحدى سفراتي، قبل سنوات/ فقدت حقيبتي الكبيرة/ اليوم صباحاً، وجدتها أمام بيتي/ اندفعت اليها، شاهدتها بلا قفل/ ففتحتها بلهفة، فإذا بثعلب يستيقظ، مستاءً/ من نوم عميق/ اعتذرتُ له، وحين ابتعد، دون أن يقول شكراً أو وداعاً/ عثرت على مائة قصيدة كان نائماً عليها/ كلها باسمي: أنا لم أكتبها، أقولها بكل ثقة/ ولا أدري ما أفعل بها ـ مجموعة: أكتب لأتسلى 2014.
الصفة الأولى والأبرز هنا هي السرد، الذي يحقّق شروطه والصفة الثانية فيه وعلى قصره تكشف عن نزعة الشاعر إلى المفارقة وحس الدعابة وصفات أخرى مكملة كاعتماد المفاجأة. لكن في الوقت ذاته، اذا كانت مثل هذه الدعابة تبدو مجانية في بعض النصوص، إلا انها في نصوص أخرى تُعتمد كمبدأ نقدي حين تستحيل، في أحيان كثيرة، إلى سخرية جارحة، فثمة ما ينمّ عن الألم، اليأس، إذ ليس كل كتابة الشاعر مرتعاً للهو وصداقة حيوانات بريئة، هذه التي اتخذت معادلاً مضاداً لدنس العالم، معلّلاً في الوق تذاته، لماذا الكتابة:
لسبب واحد أكتب:/ أروي لحيواناتي/ أساطير هذا الكوكب المدنّس ـ مجموعة: أعوام
أما حين يلامس القول شجن البلاد، فالنبرة تتغيّر كليةً ليشوبها الغضب حدّ الوقوع فيما هو تقريري من القول، لكأنّ الشاعر يكتب بيد أخرى ومخيلة غير التي عهدها القارىء، متخلياً عن اليد التي نسجت الغرابة من الحروف ذاتها. لكن ما تجب الإشارة إليه أن الحضور الكمي لهذه النصوص أو المقاطع لا يشكّل شيئاً يذكر قياساً إلى نتاج الشاعر ككل.
نمور تتطلع إلى لوحات
هو نص لافت على صعيد الشكل في مجموعة”مقاطع يومية”، يتكون من خمسة وستين سطراً كتبت كجملة واحدة، بنفَس واحد من دون أية فاصلة أو نقطة حتى الحرف الأخير. شيء شبيه بالقصيدة المدوّرة بفارق الوزن طبعاً لناحية التتابع والاسترسال. لا أعرف لماذا يمنح النص الشعور بأنه نص “غنائي” أهو بسبب “الإيقاع” الذي خلقه التتابع ـ وإن لم يكن الايقاع وحده سببا للغنائية ـ نعم لهذا النص موسيقاه وبدا أن لا غاية له سوى الاندفاع مع زخم الموسيقى والصور والانثيال البلاغي. وإن بدا سردياً في تشكيله البصري ـ الطباعي إلا أن ما من حكاية للنص على خلاف “سرديات” الشاعر الأخرى، وكأن الشاعر يستجيب لتعريف الكتابة بهذه التقنية، فهي”تمارس حضوراً دلالياً، يكشف عن تأزم الحالة وتوترها أو انفراجها في أحيان أخرى” ـ” آليات السرد في الشعر العربي المعاصر، عبد الناصر هلال”.
الكتابة بتقنية الكولاج
عرف عن الشاعر صلاح فائق ممارسته لفن الكولاج لسنوات طويلة، وقد أنجز فيها نماذج ناجحة، متميزة وبقدر ما في كولاجه من الشعر، نجد أيضاً في شعره قدراً من الكولاج، لأنّ الرؤية التي تحكمهما واحدة. فكم من النصوص يتبادر فيها الشاعر لقارئه كولاجياً، كما في هذا المقطع:
أتذكر، في قصائد، ضبعاً يساعد حاملاً في شقة
نسراً يخطف قنينة حليب من بقال هندي
يحملها إلى من يقف فوق سطح بيت
وسنجاباً يضطجع فوق كتاب لبروتون ـ مجموعة: مقاطع يومية.
هكذا تنتهي نصوص صلاح فائق إلى اقتراح عالم متفرد تسكنه روح الطفولة والأحلام والظرف والمسالمة بحيواناته وسكانه الآخرين، وإن شابهُ شيءٌ من الحزن واليأس أيضاً إما بسبب ذاتي أو موضوعي متأتٍ من وعي الشاعر بقصور الكلمة عن تحقيق المعجزات: “ما فائدة كتابتي كل يوم، لي ولغيري؟/ لا أظنني أؤثر على مدّ وجزر هذه المياه/ هل تسرّ قصائدي مريضاً/ تلهمُ عاشق الضواحي، تشجع أي يائس؟”. لكن حسب كتابة كهذه أن تمنح شيئاً من الفرح والدهشة لقارئها، وهذا في حد ذاته ليس بالقليل في زمن كزمننا هذا، وللقارىء أيضاً أن يتساءل عن مصادر المخيّلة الجيّاشة التي تجعل من مجرد ورقة بيضاء بحجم قدم مربع شاشة بوسع العالم تمورُ بكل ماهواستثنائي ومدهش.
* شاعر وكاتب مقيم في السويد
شارك مع أصدقائك