الطريق
…وحين نأى هدأت الريح.
كان في العاصفة. مقتلَعاً مخلَّعاً مشلَّعاً. رأسه في مكان، يده في مكان، قلبه في مكان، وعبثاً حاول جمع أعضائه.
لم يكن له اسم. سمَّاه بعضهم “منحرفاً” لأن لا طريق له، وسمَّاه بعضهم “هابّاً” لأن لا مقعد له، وسمَّاه بعضهم “غباراً” لأنَّ كلَّ شظيَّة منه في مكان. كانت له أسماء كثيرة استحال جمعها في اسم. كانت له أسماء كثيرة، ولم يكن له اسم.
الذي بلا اسم كان في العاصفة وكانت ترتطم به طيور ميْتة تحملها الرياح وغصونٌ متكسّرة وجمعٌ مرتجف لا يعرفه.
سمع أصواتاً تصرخ: “أيها العالَم ! أيها العالَم !”.
ولمستْه جموع، لمسه العالَم، ولم تخرج منه أيَّة قوَّة.
لم يكن هو السيّد، لم يكن هو المصطفى. كان المرتجفَ مثلهم في الريح. وبالكاد خرج منه صوت: ” ما جئتُ لأُكمل ولا جئتُ لأنقض، بل أنا النقصان والأنقاض والنقيض”. وضيَّع صوته، ولم يبحث عنه، ولا بحث عنه أحد.
الذي لم يكن سيّداً، وبلا اسم ولا صوت، كان يتحدَّث فقط في قلبه.
قال أنا بلا اسم كي أكون كلَّ الأسماء، وبأعضاء متناثرة في كل مكان كي تكون كلُّ الأمكنة مكاني. إن نادى أحدٌ أحداً، أينما كان، أليس عليَّ أنا أيضاً أن أجيب؟ وإن كبا كائن في أي مكان، ألا يجب أن يكون مني شيء هناك كي أحنو عليه؟
قال أنا الكائن هناك، وأنا المنادي هناك، وأنا المجيب والحاني. والغصن المنكسر أمامي كان ضلعاً مني والطير الميْت المرتطم بي كان بعض حياتي. كل الغصون في الشجر هي ضلوعي أيضاً، والطيور على الأرض وفي الجوّ إخوتي. والأحجار، هنا وهناك، عظامٌ لي لم يكتمل نموُّها، فهل أتنكَّر لعظامي؟
هبَّ المنحرف حاملاً معه الشجر والطيور والعظام. لا إلى أرض، لا إلى مكان. هبَّ إلى الشساعة، إلى كل الأمكنة، محمولاً بالعاصفة، وحاملاً السكينة: سكينة الشجر إذ يمتلئ بالتراب. سكينة الطير إذ يمتلئ بالفضاء. سكينة العظْم إذ يفرغ من الجسد.
هبَّ عاصفاً، لكن أينما عصفت الريح به كانت السكينة في قلبه.
مثلهم، نعم، كان مرتجفاً، لكنَّه حوَّل الارتجاف إلى سكينة. ففي أمكنة هناك كان هدوء، وشظاياه التي هناك جلبت الهدوء إلى شظاياه التي هنا.
ثمة سلْكٌ لا يراه أحد، يجعل المقيمين هناك هنا، والمقيمين هنا هناك.
وهو كان هنا، ومقيماً هناك. وكان هناك، ومقيماً هنا.
لا تدعِ النبعَ يغفو. رُشَّ على وجهك من مائه قليلاً فيصحو. وتصحو معه الجبال والوديان التي أوصلته إليك.
خُذِ القطرة بيدك فيصحو الغيم وتصحو السماء.
وإنْ رأيتَ سحْلية لا تنهرْها، اتبعْها، فقد تأخذك إلى الكنز. كلُّ ما تبحث عنه هو لا شيء، سوى وكْر السكينة.
وَضَعَ يده في النبع ورشًّ ماء على وجهه. رشَّ غيماً، رشَّ سماء. وضاع وجهه في الفضاء وانتظر نقطة، كي تعيد وجهه إليه.
ثمة أكثر من وجه في الغيمة. ثمة أكثر من غيمة في الوجه.
وحاول أن يرى.
نظر إلى فوق، ولم يرَ. نظر إلى تحت، ولم يرَ. وحين أغمض عينيه رأى: سحْلية ميْتة.
كان ذلك في الماضي البعيد، حين كان نبع وشجر وغيم وسماء وأرض. كان ذلك في الماضي، حين كانت عيون.
وحين كان للسحْلية وكْر.
كان ذلك حين كانت دروب، وحين كان يمكن أن ينحرف المنحرفُ عنها. وحين كانت غصون الأشجار ضلوعاً، والمنكسر منها، حتى في غابات الأمازون، عظامك.
كان ذلك في الماضي البعيد، الذي لم يكن.
هبَّ “الهابُّ” واصطدمت به جموع، ولم يلتفت إليه أحد. لم يسأله أحد سؤالاً، لا عن المحبة، لا عن الزواج، لا عن الأولاد…لم يكن المصطفى ولا السيّد، ولا سفينة له ولا هيكل ولا تلاميذ. ولو سألوه ما كان سيجيب. لم يكن يعرف جواباً. كان يعرف فقط أنَّ الهبوب يجرف كلَّ شيء، الأسئلةَ والأجوبة والكلام، ويصمت.
كان طفلاً في حقل حين هبَّت عليه أوَّل ريح، وسقطتْ ورقة من شجرة أمامه. انتظرَ، علَّ الريح تعود، وتعيد الورقة إلى الشجرة.
ثم رأى الشجرة كلَّها تهوي.
ثم لم يعد يرى أيَّ حقل.
وما بقي للبستانيّ أن يفعل غير جمْع الأوراق وكسور الشجر. ما بقي للبستانيّ أن يفعل غير إحراق بستانه.
وتيقَّن، حينذاك، أنَّ ما يراه في البعيد، أنَّ ما يسعى إليه، هو الدخان.
لكنْ، في ذاك الدخان ورق وشجر. في ذاك الدخان حقول. في ذاك الدخان هو حين كان طفلاً، وهو حين كبر… إنه، الآن، في ذاك الدخان.
إنه هناك، في الدخان الذي يراه في البعيد.
ولا شكَّ معه أيضاً ناسٌ هناك. فالناس ليسوا هنا وهو ليس هنا. فأين يكون وأين يكونون إنْ لم يكن هناك؟
ولكنْ، أين الهناك؟
صُبَّ الناسَ والحقول في كأسك واشربْهما. وصُبَّ نفسك أيضاً واشربْها.
صُبَّ الناس والحقول ونفسك في عينيك واغمضهما، وإلا يضيع الناس وتضيع الحقول وتضيع أنت.
صُبَّ الدخان.
وقلْ للسحْلية التي ماتت قبل أن تصل إلى وكرها: لا كنز في الوكر.
وافرشْ شريط أغانٍ على الغصون، فلعلَّ الأشجار تغنّي.
رأيتُ شجراً يفتح فمه. رأيتُ أوراقاً تصفّق، وغصوناً تطلع من الرماد، وترقص… هناك، في البعيد، حيث كان يستلقي قلبي.
أريد قدماً لهذا القلب. هذا القلب يريد أن يرقص مع الشجر.
صُبَّ الترابَ في شرايينك واخترعْ قدماً. صُبَّ تراباً واخترعْ شجراً ورقصاً.
صُبَّ تراباً. فإنْ ترمَّد الشجر، قد تبزغ نبتة من ترابك. قد تبزغ شجرة.
وإنْ خلوتَ من شريط غناء، قد يأتي عصفور يحطُّ عليها، ويغنّي.
بعضهم سمَّاه “المنحرف”. بعضهم سمَّاه “الغبار”. وبعضهم سمَّاه “الماحي”…
محا “الماحي” قدمه ومضى بلا قدم.
لم تكن هناك طريق. استنسخَ من حذائه طريقاً.
لم يكن هناك شجر. استنسخَ من ضلوعه جذوعاً وأغصاناً. ومن أنفاسه استنسخ ريحاً عائدة، كي تعيد الورقة إلى الشجرة.
حين رأى الريح تُسقط الورقة أمامه انتظر وبكى، لأنَّ الريح لم تَعُد ولم تُعِد الورقة إلى غصنها… ويحزن الآن لأنَّ دموعه لم تكن حينذاك مطراً، فلعلَّ الورقة كانت شربت قبل أن تموت.
صُبَّ دمعاً في كأسك صُبَّ مطراً على ورقٍ ميْت.
صُبَّ شجراً، من ضلوعك.
استنسخَ طريقاً من حذائه.
وطوى الطريق، طيَّة طيَّة، ووضعها في جيبه.
وصار، عوض أن يمشي على الطريق، يمشي في ثنايا ردائه.
لم تكن هناك طريق، ولا حذاء له ولا ثوب. لكن قال ذلك كي يكون له مشي.
لم يكن له شيء. كان له القول فقط. كان له القول، والمشي في القول.
وقطعَ الدروب كلَّها مشياً على الكلام.
لا تلفظِ الكلمة الأخيرة، لا تقلْ الكلمة التي في آخر الطريق. قد يسمعها أحد في أوَّل الطريق ولا يعود يمشي.
وإذ تطوي الطريق وتضعها في جيبك، تيقَّنْ أنْ لا أحد ماشٍ عليها. هكذا يخفُّ حمْلك.
وهكذا لا تزعج الماشين.
وإنْ أردتَ رفيقاً، فأيُّ رفيق أعزُّ من وحدتك؟
امشِ على الكلام. امشِ على اللهاث الذي يخرج من فمك.
وسترى في لهاثك طريقاً، وشجراً أيضاً.
امشِ في ثنايا ردائك. امشِ على الطريق المطويَّة في جيبك.
بين لهاثك وثوبك طريق، ويمكنك أن تمشي عليها العمر كلَّه.
المَقعد
مشى ناظراً إلى فوق، إلى الغيم الذي يعبر، وقال في قلبه: إنهم يعبرون أيضاً هناك.
هناك أيضاً فوق من يمشي، ولا مقعد له.
ولكن من هم هؤلاء الذين طلعوا من ماء ويمشون فوق؟ لا شكَّ بينهم أنفاسُ غرقى.
مُدَّ نظرةً إليهم، مُدَّ كرسيّاً، فلعلَّهم متعبون.
مشى خافضاً رأسه. لا يريد أن يرى أنفاس غرقى في الفضاء. مشى خافضاً رأسه، وانتابه حُبٌّ هائل للتراب.
ما في قلبي على الأرجح هو تراب إذاً وليس دماً، قال، ومشى.
ابحثْ في التراب حبَّةً حبَّة، قد تجد نفسك، أو على الأقلّ قطعةً منك.
قد تجد قطعة من أجدادك، ومن أحفادك الذين لم يولدوا بعد.
ابحثْ في التراب قد ترى أصدقاء، وقد تتعرًّف إلى ناسٍ لا تعرفهم.
انبشْ التراب الذي في قلبك، ستجد كثيرين مدفونين هناك، ينتظرون أن يصل مِعْولك إليهم كي يحيوا.
تعبَ وأراد أن يجلس.
على الطريق أحجار. حجرٌ مستطيل يريد أن يمشي. حجر مكوَّر يندب نفسه. حجر ذو ثغرة كفمٍ يريد أن يقول شيئاً. حجر مائل يستنجد بحجر آخر…
أحجار في جوفها شرايين، في جوفها دم… هل يجلس على دم؟!
ابسطْ نظرتك على الأرض واجلسْ عليها.
استرحْ في عينيك.
في العيون مقاعد. اسحبْ كرسيّاً من عينك واقعدْ عليه.
قديماً، مرَّ متعبون كثيرون وقعدوا في عينه. استراحوا قليلاً من سفر طويل، ثم تابعوا المشي على نظرته.
في ذاك الوقت كان يمكن أن تخرج العينُ من محجرها وتصير طريقاً. وحين يتعب الماشون، كان يمكن أن تعود إلى محجرها وتصير بيتاً.
كان يمكن تلك العين أن تؤوي آلاف المتعبين، وآلاف الضالّين، في محجرها الصغير، وأن تقدّم لهم طعاماً وشراباً من شرايينها التي لا تُرى.
الأحجار ليست مقاعد، وعلى حوافي العين رمل، قد يكون من الدموع. من دموع المتعبين الذين يمشون كلًّ حياتهم ولا يجدون مقعداً.
هيَّا، تابعِ المشي. لا تجلسْ على رمل. لا تجلسْ على دمع.
وافترضْ أخذتَ كرسيّاً من عينك وجلست. أليس كلُّ الذين تنظر إليهم يجلسون عليه؟ فهل تجلس على جالسين؟!
هم أخذوا المقعد قبلك. فبمجرًّد أن نظرتَ إليهم صار المقعد في عينك لهم. امشِ، لا مقعد لك في عينك ولا مقعد لك على الطريق.
امشِ.
وانتظرْ أن تنظر إليك عينُ عابرٍ آخر، فلعلَّك تقعد وتستريح فيها.