كاترينا أنجيلاكي روك
ترجمة عن الإنكليزية: يوسف سامي مصري
أيّها الجَمال، رغمَ أنّك لم تعطِ نفسك أبداً لا زلتُ أناور لأحوزَ على شيءٍ منك. “أوديسو إليتيس”
أيّها الجَمال الصَّامت، لماذا لا يمكن أن تغرينا مرة أخرى. “يانيس ريتسوس”
ظهر عام 1991 كتابان للشّعر من تأليف شاعرين يونانيين رئيسيّين، لهما تأثير على المشهد الشّعري اليوناني: العمل الّذي ظهر بعد وفاة يانيس ريتسوس عام 1990 عن عمر يناهز 81 عاماً، بعنوان “متأخر جدًا في وقتٍ متأخّر من الّليل” ومجموعة من 14 قصيدة تحت عنوان: مرثيّات أوكسوبيترا The) Elegies of Oxopetra) من تأليف أوديسو إليتيس (Odysseus Elytis ) (توفي بعد 3 سنوات). اشتكى إليتيس في إحدى مقابلاته النّادرة جدّاً من أنّ كتابه استُقبل كنوع من الوداع: “ستظنّ أنّهم كانوا في حداد”، على حدّ قوله “إنهم يعزلون سطراً واحداً” يتم إعطاء الحقيقة فقط مقابل الموت” ويستنتجون أنّه بهذه القصائد أحاول أن أتعامل مع موتي، كما لو أنّني لم أتعامل مع الموت في كل شعري! “. أيّاً كان الأمر، لا يمكن للمرء أن يساعد في ملاحظة نقاط مرجعيّة مشتركة في هذين الكتابين كتبها شاعرين لم يكن من الممكن أن يكونا مختلفين. من الواضح أنّ هذه الأرضيّة المشتركة يتم تقديمها بالقرب من الموت: “لكن كيف، بأي طريقة يمكن الكشف عن المخفيين؟” يسأل إليتيس، في حين أنّ ريتسوس “لم يعد لديه أيّ شكّ سوى اليقين/ أنّه يتّجه/ من أجله إلى عمق الّلامكان، نحو الليل المطلق/ تاركاً للعالم مناظر طبيعيّة مليئة بالضّوء/ بأشجارها والطيور والملائكة الصّغيرة”. ترك “ريتسوس” وراءه حوالي 45 مجموعة غير منشورة وأكثر من 100 مجموعة من القصائد – بالإضافة لعدّة مجلّدات من النّثر والمسرح – في حين اعتاد “إليتيس” أنْ يترك أحياناً سنوات من الصَّمت تفصل بين الكتاب والكتاب الذي سيليه. كان ريتسوس مشتركاً بشكل كلّي في القضيّة الاجتماعيّة وعانى سنوات من النفي والاضطهاد بسبب معتقداته الشيوعيّة. بالكاد ظهر إليتيس بشكلٍ علنيّ، وعاش في شقّته الصّغيرة في قلب أثينا وتواصلَ مع القليل جدّاً من الناس. يمجّد ريتسوس في شعره التّفاصيل اليوميّة الهامشيّة، والسّيدة العجوز التي تقشر البازلّاء والأشياء البسيطة في الغرفة، وحياة النّاس الهامشيين الّذين لا يعرفون سوى النضال والموت. “هذا كل ما أردت قوله حتّى لو لم يصدّقني أحد!”. يريد ريتسوس أنْ يتحدّث عن “الزنابق ليس كرمزٍ للبراءة، بل كنباتاتٍ عطريّة،/ أو لشجرة الزّيتون ليس كرمزٍ للنّصر أو السّلام، ولكنْ كرمزٍ مثمرٍ، لشرط الأمومة/ …ليس لي” أسطورة على الإطلاق، بطلاً أو إلهاً، ولكن عاملاً بسيطاً/ …يكتب بلا انقطاع عن الجميع وكلّ شيء/ واسمه مُختصر ويسهُل نطقه: يانيس ريتسوس”. قال إليتيس ذاتَ مرّة: “أنا أكتب، حتّى لا يكون للسّواد الكلمة الأخيرة”. وأما ريتسوس: “وهو يرفض أن ينطق بالكلمة الفريدة والنهائية: الأسود”. ريتسوس يقول نعم للحياة. “نعم” مليئة بالمعاناة والفرح والحقائق والأكاذيب. “إذا أخبرتك بالكذب ، فلم أكن أرغب في خداعك/ كان لحمايتك/ من ظلّك”. يتلمَّس إليتيس طريق الخيط السّحريّ الّذي سيقوده إلى قلب الغموض، سرّ الحياة ، سرّ إليوسيس (عبارة عن مراسم للبدء تقام في كل عام لعبادة ديميتر وبروسفون في مدينة إلفسينا في اليونان القديمة). “ننتهي جميعاً بالتّساوي الأخير/ يبقى الّلعاب المرّ على وجهك غير المهزوز/ بعض الحروف اليونانيّة تكافح من أجل العثور على انسجام فيما بينها بحيث تكون/ كلمة حياتك هي الوحيدة إذا …”. ويقول ريتسوس عن الشّاعر: “بصرف النّظر عن عمق غمس يده في الظّلام/ يده ليست سوداء أبداً. هذه اليد لا تنفذ/ إلى الّليل. وعندما سيرحل (لأنّنا جميعاً سنرحل يوماً ما)/ أعتقد أنّ أحلى ابتسامة سوف تغادر هذا العالم/ والتي ستقول ‘نعم’ بلا كللٍ ونعم مرّةً أخرى لكلّ آمالنا الأبديّة المنهارة”. إذا كنت قد انغمستُ في لعبة كرة الطّاولة هذه بين ريتسوس وإليتيس، فليس ذلك فقط لأنّني أريد أنْ أظهِر أنّه عندما يُلقي الموت بظلاله، يبدو أن ثمّة أنواعٌ مختلفة من الشّعر ستتلاقى، الأمر ليس كذلك لأن كلا الكتابين -كلّ منهما بطريقته الخاصّة- هما لحظات سعيدة للغاية في الشّعر اليوناني اليوم. أشعر بشكل أساسي أنّه مع هذين الشاعرين العظيمين نقول وداعاً لعنصر معيَّن من الشّعر اليونانيّ، والّذي ربّما لم يعد موجوداً. أودُّ أن أشير إلى علاقةٍ خاصّة بين الشّاعر اليوناني ووعيه باليونانيّة. بالنّظر إلى الطّبيعة المعقّدة والمضنية للتّاريخ اليونانيّ الحديث والمشاكل غير القابلة للذوبان، للهويّة اليونانيّة تجاه العالم الغربيّ، كان الشّاعر (غالباً ما يستفاد من رسالته) هو الشّخص الّذي يعجبه العرَّاف أو مثل المؤرِّخ أو المحلّل النّفسيّ، الثّوريّ أو المحافظ، ودائماً هو الشّخص الّذي كان يحاول، من خلال شعره، تحديد موقع الرّوح اليونانيّة في العالم الحديث. قام جميع الشّعراء اليونانيّين الرئيسيّين في وقتٍ ما بالتّحقيق في هذه المنطقة نفسها من زوايا وأساليب وشعراء مختلفين بالفعل في عشرينيّات القرن العشرين، عندما كان الشّاعر القوميّ لليونان، والشّاعر الحديث الّذي لا نظير له (ديونيسيسي سولوموس) يشهد نضال الإغريق ضدّ الإمبراطوريّة العثمانيّة، كان يحاول، من خلال رؤيته الشّعريّة، نرى بوضوح هذا الوعي اليونانيّ المولود حديثاً والّذي كان يجب أنْ يكون ناضجاً بالفعل حتّى يكافح من أجل وجوده، كان نهجه أخلاقيّاً، وكان مفهوم الخير والشر المُتصوَّر في شكله النقيّ (سولوموس في جوهره رمزيّ) هو الذي من شأنه أنْ يساعد اليونانيّين في نضالهم من أجل التّحرر من الأتراك وضدّ الإغراء. ما كان الإغراء؟ ماذا بعد سوى الجَمال الجسديّ لليونان الّذي كان هناك في كلّ روعة الرّبيع لإغراء المقاتل بعيدًا عن الموت وفي أحضان حياةٍ حلوة. بعد مئة عام، في العشرينيّات من القرن العشرين، قام كوستيس بالاماس (Kostis Palamas) وهو منارة أخرى من الشّعر اليونانيّ، بتأثيرٍ أدبيٍّ هائل- حتى أنه نجح في إبقاء كافافي (Cavafy) (قسطنطين كفافيس أو “كونستانتينوس بترو كفافيس) هو واحد من أعظم شعراء اليونان المعاصرين، وهو مصريّ يونانيّ غير نمطيّ، انتقد المسيحيّة والقوميّة الشوفينية والميول الجنسية المستقيمة) بعيداً عن شواطئ الأدباء الأثينيين لفترة طويلة جدًاً- حاول في قصائده الشّاقّة الطّويلة تأسيس الغبطة النفسية للرجل اليونانيّ الحديث المدعوم من تاريخه الماضي (القديم، البيزنطيّ، الشعبيّ) والحاضر. أعرب أنجيلوس سيكيليانوس (Angelos Sikelianos) (توفي عام 1951) في شعره البصريّ عن هذا الشّعور “بالوحدة”، وربط اليونانيّ اليوم بجميع العناصر الأوّليّة الّتي كانت تغذيه على أرضه، وآلهته ورجاله على حدٍّ سواء، أرض “حيث الذّاكرة لا نهاية لها و لا بداية”. في نوعٍ من تمجيد وحدة الوجود، حيث يشارك الإله ديونيسوس والمسيح في نفس الطّقوس، يحتفل سيكيليانوس بالحياة وبموت إعطاء الحياة. لقد سعى جورج سيفريس (George Seferis) الشّاهد الذي لا يطاق لكارثة آسيا الصّغرى عام 1922 ، إلى إيجاد “حياة أخرى” في بلد يشبه “ورقة طائرة كبيرة /جُرفت على طول سيل الشّمس/ مع الآثار القديمة والحزن المعاصر (ملك أسيني) The King of Assini. قام بتتبُّع مسار الرّجل اليونانيّ، الّذي مثّل أرغونوت الجديد، لم ينطلق للعثور على الصوف الذهبي بل هويّته اليونانيّة، والمصالحة بين التّماثيل القديمة والحزن المعاصر. حتى كافافي، الّذي ابتعد جغرافيّاً ونفسيّاً عن البرّ الرّئيسي لليونان، خلق عالماً أصليّاً تماماً حيث تمّ إلباس المواقف النفسيّة الحديثة عباءة وسحر الأبطال المنسيين في لحظةٍ غامضةٍ للغاية في التّاريخ، أي: الأوقات الهلنستيّة، أيام أيقونات الاسكندر الأكبر. من ناحيةٍ أخرى، رأى أوديسوس إليتيس (Odysseus Elytis) من خلال غموض بحر إيجة “المتلألئ”، قيمةً طبيعيّةً وأبديّةً، كانت موجودة للحفاظ على الرّوح اليونانيّة: كلّ هذا الضوء يتم إلقاؤه في المسار المظلم لعالمنا المعاصر! رأى ريتسوس أنّ هذا الدّعم يأتي من مزيج من المواهب الطبيعيّة للأرض اليونانيّة والأيديولوجية الشيوعيّة. تمّ تداول تيار الشّعر اليونانيّ حول هؤلاء الشّخصيّات الرئيسيّة. شعرٌ غنيٌّ في تنوّعه، ويستقبل ويستوعب التّأثيرات الأجنبيّة، من فرنسا بشكلٍ أساسيّ ولكنْ أيضاً مؤخراً من أمريكا. وجدت السرياليّة الفرنسيّة على سبيل المثال، تربةً خصبةً في النّفس اليونانيّة، والّتي كانت تشعر دائماً بالرّاحة مع كلٍّ من الواقعيّة وغير الحقيقيّة، وغالبًا ما تكون مؤلمة جدّاً بحيث لا يمكن تجاهلها. كانت الحرب العالميّة الثّانية -والحرب الأهليّة التي تلت ذلك- نقطة تحوُّلٍ مثيرة في الحياة والشّعر اليونانيّ، وكانت النّتيجة جيلاً من الشّعراء الّذين عانوا، بالطّبع، من خيبة الأمل والهزيمة. ويقول أحد الشّعراء الأقلّ شهرةً ولكنْ الأكثر مرارةً: فيرون ليونداريس (أعثر عليّ شكلاً من أشكال الكفاح/ ينقذ بدون قتل/ انظر إلى الدّخان والغبار/ انظر إلى الكارثة بداخلنا”. هدفي، رغم ذلك، ليس تتبّع تاريخ الشّعر اليونانيّ الحديث هنا، بل محاولة القبض على نبض الشّعر في اليونان اليوم. الشّعر،مثل الكائن الحيّ الحسَّاس، لا يمكن أنْ يظلّ بمنأى عن الانقلاب التّامّ للعالم الغربيّ، وخاصّة في منطقة البلقان. وفي حين أنّ كل هذه التّطورات حديثة جدّاً- وليست نهائيّةً بأيّة حال- يمكن للمرء أن يميّز بالفعل في شعر النّصف الثّاني من الثمانينيّات، ما يمكن للمرء أن يسمّيه ميلاً نحو رؤيةٍ خاصّة. من المؤكّد أنّ الاهتمام بتحديد الشّعريّة اليونانيّة ليس هو القاعدة بين الشّعراء اليونانيّين. ومع ذلك، حتّى في أولئك الّذين ابتكروا صورهم الشّخصيّة بشكلٍ حصريّ، يمكن للمرء أن يتتبَّع نوعاً من المشاركة في المجموعة المشتركة. (على سبيل المثال: الكرنفال، لـ ميلتوس ساهتوريس (Miltos Sahtouris) حيث يعطي في تعبيره الشّعريّ السّرياليّ، في الواقع، وصفاً قويّاً للغاية لجوّ أثينا في كابوس أثناء الاحتلال الألمانيّ). هواءٌ مختلف جدّاً يهبّ في الثمانينيّات والتسعينيّات. كتبَ جورج بلاماس (George Blamas) وهو شاعرٌ شابّ ، (كما لو كانت روحي شيئاً شخصيّاً تماماً/ وكلماتي الصّامتة/ الّتي أظهرت شغفاً/ دائماً ما تنطق بكلّ بساطةٍ ودائماً/ غبيّةً بلطف) أدّى تحطيم جميع الأيديولوجيّات والحدود، واستيقاظ الأصوات القديمة المنسيّة من الغضب والتعصُّب والرّهبة أمام الألفيّة الجديدة إلى مزيد من الانغلاق على أنفسهم أكثر ممّا هو طبيعيّ للشّعراء. يبدو أنّ “الحلم” حقّق انتصاراً ساحقاً على السّاحة الشّعريّة اليونانيّة. الحلم، مع ذلك، ليس كرمزٍ للمشاعر ولكنْ كوسيلةٍ لواقعٍ “آخر” يحاول الشّاعر الحالِم اختراقه. مؤخّراً، كان للكتاب الّذي ترك انطباعاً كبيراً بعنوان “في الميزان” من تأليف ديونيسيس كابساليس (Dionysis Kapsalis) قصائد تتعامل مع يعقوب، عندما غلبه النّعاس على العُشب. على شاشةِ أحلامِه، فإنّ الصّور الّتي تظهر “ربما تشبه المَشاهد الّتي يراها المرء، عندما، عند الموت، أحداث ووجوه من حياته الماضية، تُعرض أمامه بسرعةٍ مذهلة”. بالمناسبة، من المثير للاهتمام أنْ نلاحظ النّشر الأخير لألبوم يحتوي على أحلامٍ حقيقيّة لثلاثين من الشّعراء والكتّاب اليونانيّين، كلّ واحد منهم يوضّحه رسّام يونانيّ. العنصر الثّاني الّذي يميّز، في رأيي، الشّعر اليونانيّ اليوم هو الاهتمام بالبنية. يتمّ التّعبير عن هذا الاتّجاه إمّا في البحث عن شكل شعريّ صارم في النطاق يتكون من ثلاثين سلسلة مكوّنة من أحدَ عشر مقطعاً مصاغة البحر العنبريّ (Iambic Meter) يكون فيه غرض ووظيفة الشّعر بأكملها إعادة تقييم. يكتب هاريز فلافيانوس، أحد الشّعراء البارزين في الثمانينيّات، (عندما تصبح الحياة أكثر فظاعةً/ لا يمكن الاعتماد على الشّعر/ على المفاهيم الفورية للعقل/ أو بعد علاج/ اخترعه المعاقون بوضوح). وكتب في أماكن أخرى: (كل واحد منا يصرِف في نهايته/ بالكلمات التي تنتشر حوله/ في الشعر ليس هناك ما هو حقيقي/ باستثناء مبالغة الذات) ويعلن أيضًاً: (أولئك الذين لا يتفقون مع الطريقة التي أكتب بها / لم يخاطروا أبدًاً بأي شيء) وكتب إليتيس لهؤلاء : (يُعتبر الجَمال اليوم شيئاً مبسّطاً ويتفاعلون بطريقةٍ سلبيةٍ مع ما أقوله، إنهم يعتقدون أن هذه هي كلماتُ رجلٍ مطمئن … إنهم لا يدركون كم هي الحواس مقدسة!) ربما يفعلون ذلك، ولكنْ من زاويةٍ أخرى. في الواقع، لا يزال هناك اتجاه آخر واضح في الشعر اليوناني اليوم، إنها رغبة في استعادة الحالة الجنينية للكائن، يعيد الشاعر بناء العالم من جديد ويعود بذلك عن طريق المعنى الأصلي لكلمة الشاعر: بمعنى “إنشاء”، باللغة اليونانية (ποιώ). يكتب ثاناسيس هاتزوبولوس، أحد أروع الشّعراء الشّباب الّذين يكتبون اليوم: “بدون صوت وفي الصّدى تتعلّم كيف تتنهّد الطّيور، وكيف يتمّ تحريك الأمعاء”. تعطي لغته انطباعًاً بأنّها جاءت من مِرجل الكلمةِ الإنسانيّة. “سأعود إلى جسدي عندما يستوعب ذلك أنفاس الأرض تماماً، حتّى أستطيع أن أسافر، من كلّ مكان، إلى سواد العالم، الّذي تكتشفه نجوم الغبار”. لقد تركت شعر المرأة أخيرًا ليس لأنّه لا يكاد يُذكر، بل العكس هو الصّحيح، وقد أكّده النّقّاد مراراً وتكراراً لدرجة أنّني لستُ مضطراً للدّفاع عنه هنا. والسّبب هو أنّني أراه يتحرّك في اتّجاهٍ مختلف تماماً. يبدو أنّ شعراء النّساء يهتمّون بشكلٍ متزايدٍ بفحصِ وتحليلِ أداة الشّاعر، الّلغة. يمكن للمرء أن يؤكّد أنّ هذه ظاهرة عامّة، والفرق هو أنّ المرأة تفعل ذلك من الدّاخل. تضع النّساء أنفسهنّ في صلبِ هذه الآليّة المعقّدة ويسألنَ أنفسهنَّ أسئلة التّعبير النموذجيّة. ما هي العلاقة بين الّلغة والشّعور، أو الفكر والعاطفة؟ من أين تبدأ التّجربة في صياغة نفسها من حيث الّلغة؟ في البداية كان الصّمت: “أنا أحترمُ الصّمت، يقول أثينا باباداكي: (إنّه يأتي من الكون). وكتبت ماريا كيرتزاكي: “أريادن موجودة بالفعل/ ظهرت لأوّل مرّة هذه الكرة من الكلمات. لا شيء آخر موجود مسبقًا. الكلمات الضّعيفة مجتمعةً/ تظهر وكأنّها رديئة ومتخلّى عنها/ كلمات العبيد تتدحرج وتجرّ خلفها/ خيوطها/ مخلّفاتها من الأحجار الّتي ذات يوم/ كانت ثمينة/ متداولة وتدفع عربات المعنى”. يمكن اعتبار هذا البحث عن أصل التّعبير بمثابة عملية للتّشكيك في بنية العالم كإنشاء من صنع الإنسان. ترى ماريا كيرتزاكي بعد إعادة صياغة سفر التّكوين، أنّ الإنسان هو تابوت للوحدة.عند موته عليه أنْ يعيد إلى الله الوحدة التي صُنع منها. لهذا السّبب، يتّجه دائمًا بعمقٍ داخله نحوَ العدم الّذي خلق منه. تتحوّل المرأة إلى رجلٍ تنبعث منه، مثل ملامح تبحث في اتّجاهين متعاكسين. يصبح هذا التّواصل مجرَّد تجريد. تكتب أثينا باباداكي: “أنا في رهبةٍ أمامَ المحطّة الكاملة”/ “الكلمة التّالية الغامضة/ أريد روحي الأكثر حزنًا / لدرجة أنّني أتابع الهزيمة”، وتضيف: “لا يهمّني سوى حياة أشعاري الطّويلة! يكفي أنّي نجوت “. قد يدين اليونانيّون ببقائهم على أنّهم هوية، وعِرق، ولُغةً للشّعر. “يُضيء بداخلي ما أتجاهله، ومع ذلك فهو يضيء” (إليتيس).