” التخييل ، الدلالات ، وتقنيات السرد” قراءة نقدية في رواية إنتحار تكتيكي*  للكاتبة تهاني محمد

شارك مع أصدقائك

Loading

عادل السرحان

الدلالات : سأبدأ بالدلالات لارتباطها بأول عتبات النص .

العتبة الأولى : دلالات العنوان

إنتحار تكتيكي : عنوان مؤلف من كلمتين تتكئُ إحداهما على الأخرى

لتمنحان التركيب دلالة مقصودة من قبل الكاتبة ، تعجز كل واحدة منهما عن بلوغها منفردة .

فهذا الإنتحار جاء برغبة نفسية جوهرها الإستسلام في نفس البطل “حسين” والتوق لحياة آخرى أكثر عدلاً ورحمة ،ولم يأخذ إعداداً مسبقاً وعادة يكون التكتيك اجراءات سلوكية سابقة من أجل بلوغ هدف ما .

من هذا المعنى يمكن إستنباط لماذا

كان ذلك الحدث إنتحاراً تكتيكياً وليس إنتحاراً كما نفهمه بمعناه المألوف .

و”إنتحار تكتيكي”تحيل الى مفهوم غرائبي عند طرح سؤال كيف يكون الإنتحار تكتيكياً؟ ، وبوجود لفظ يدل على ماهو غير حقيقي ، يمكن إعتباره واحداً من العلامات التي حددها الناقد الفرنسي ” جيرار جينت ” في معرض تصنيفه لعلامات التخييل في النص الأدبي .

ومن كل ذلك يمكنني القول أن الكاتبة كانت موفقة في عتبتها الأولى غرابة وجاذبية .

العتبة الثانية : دلالات صورة الغلاف

بعد العنوان ستقع عين القارئ لامحالة على صورة الغلاف التي ستحدث في داخله تفاعلاً من نوعٍ ما وباعتقادي أن صورة غلاف هذه الرواية حيث هذا الشخص الذي يفرد ذراعيه وعلى صدره دائرة الزائد من جهة القلب والتي لها دلالة أن الرصاصة سُدِّدَتْ للقلب في حين أن في المتن كانت الرصاصة تخترق رأس حسين من جهة الخلف ، وهذا يحيلنا الى أنّ البطل مات بجرح في قلبه ( حب ندى وضياعها وأحلامه منه ) وإن كانت الرصاصة إصابته بالرأس ، فحسين شاعر وممتلئ بمشاعر الحب الصادق والذي كان من بين أسباب إطلاقه الرصاصة الأولى على ساقه ، وانتهى من أجله كذلك برصاصة في رأسه عند الجسر ، ولماذا عند الجسر الرابط بين ضفتي بغداد ،سأجيب على ذلك في مكان آخر .

وفي الصورة إيحاء بأن البطل وهو يفرد ذراعيه ويرفع رأسه نحو السماء ينتظر شيئاً من السماء ينهي عذابات كل تلك السنين وهو ماسيرتبط دلالياً بالعتبة الثالثة ( الإستهلال ) قبل ولوج المبنى الحكائي .

العتبة الثالثة : دلالات الإستهلال

لتستحم روحي بنهر النسيان ( ليثي) ..

عندها سأنسى من أنا وأعود إليك في جسد آخر وروح غير معذبة ، وسأحبك من جديد .

تقول الكاتبة : نهر ليثي هو من أنهار العالم السفلي في الحضارة الأغريقية ، ويعتقد الإغريق أن من اغتسل بنهر ليثي ، يخرج فاقداً للذاكرة .

وهذا الإستهلال المستند الى الأسطورة يحيلنا الى العلامة الثانية حسب “جيرارد جينت “من علامات التخييل في النص الأدبي .

كان بالإمكان أن تبدأ الكاتبة روايتها بالمقطع الأول (رسالة )

لكنها لم تفعل ، وماكان لأحد أن يعترض على ذلك لو فعلت .

وحسناً فعلت إذ لم تفعل وسبقت ذلك باستهلال استوحته من الأساطير الإغريقية ، استهلال يحمل قوة جذب في معانيه ومفرداته ودلالته ويختزل الحكاية كلّها ، فماكان لأي تقديم سواه أن يلامس كوامن شخصية “حسين ” بطل الرواية وقطب رحاها .

إن ماجاء من أحداث في الرواية كان بمثابة ارتدادات لزلزال كان مركزه ( حسين) وأمواج انبثقت من موجة أولى هي ( هو ) تتابعت حتى استقرت على ساحله .

إن الصراع الداخلي والذي كان قد تفلّتَ من زمامه في شخصية حسين ، وتحول الى صراع مع الخارج ، رموز -القهر والتسلط والإنحطاط في المجتمع – والذي بدأ خلال دراسته الجامعية ومن ثمَّ أثناء سوقه الى حرب الثمانينات ضابط إحتياط برتبة ملازم ورفضه لتلك الحرب التي كان على يقين من عبثيتها وبشاعتها

وانتهى به جثة نازفة على أحد جسور بغداد هو صراع الإنسان الحر النبيل مع كل ماهو غير إنساني ولايليق بكرامة الإنسان ، فكان حسين مرآة كاشفة لكوامن الشخصية العراقية بخيرها وشرّها من خلال هذا السرد بغض النظر عن سؤال هل نجح أم خسر في هذا الصراع ؟.

أجمل النصوص من يثير الأسئلة

جاءت الأسئلة لتحرك ذهن القارئ نحو مرابع المتعة والفائدة ولرفع مستوى الجمال والوعي عنده ، وهذه الرواية ملأى بالأسئلة التي تفعل مثل ذلك ، وشكّلت عنصراً فنياً استخدمته الكاتبة مرة بالطرح المباشر

هل كنتُ جباناً حقاً ؟

أم مجنوناً يطلب الحرية في زمن العبيد ؟ ص ١٢

ومرة بالإيحاء ودون أن تجيب هي بل تركت الإجابة لكل قارئ.

ومثال على ذلك سؤال

هل كان سلوك البطل حسين نجاحاً أم فشلاً ؟

هل مافعلته ندى بالزواج من ابن خالتها العقيد سلام دون معرفة مصير حسين سلوكاً عاطفياً أم عقلانياً ؟

هل الطائفية أصل في تفكيرنا أم ردة فعل ؟

ماهي دلالات سلوك الرفيق “شاكر “بين زمنين ؟

مادلالة تصرف المرأة صاحبة الأيتام والتي تعمل مع عصابة الخطف وإطلاقها سراح علي من بين أيديهم ؟

وغيرها الكثير من الأسئلة أتركها للقارئ

ليستكشفها بنفسه .

بعض تقنيات السرد المستخدمة في الرواية :

تعدد الأصوات :

من يقرأ الرواية وبرغم طولها النسبي الذي تسبب به الإسهاب في الوصف وطول الحوارات الداخلية سيسمع أصوات كثيرة -سوى صوت الكاتبة – تدفع عنه الملل مثل صوت حسين ، ندى ، علي ، سارة ، خالة ندى ، والدتها ، رجال التحقيق ، المسعفين ،

السيدة التي ساعدته علي على الهرب من الإختطاف ، وغيرها مما جعل القارئ يتنقل بين صوت وصوت مستمتعاً بهذا التنوع الصوتي ودلالاته .

الحوارات :

كذلك استخدمت الكاتبة الحوارات بلغة تتناسب مع مستوى ثقافة الشخصيات ، ودورها في الرواية فكان بعضها يتصف بالرومانسية والشاعرية مثل قول حسين ( الجسر خالٍ الا مني ، يقبع الجسر في وحشته مرتين في اليوم ، حين يهجره الجميع … ص ١١

، وبعضها بالغطرسة والتعالي والظلم والوحشية والتفاهة ، مثل ( لن يفيدك الإنكار أيها الكلب الجبان…. قذر وابن زنى ) المحقق يصرخ بوجه حسين ص ٦٣ .

بهذه اللغة الحوارية قرّبت الكاتبة العلاقة بين القارئ والشخصيات من جهة ، وكسرت أحادية الصوت من خلال مشاهد متتابعة .

الخلاصة والقطع : من أجل تنويع الإيقاع الزمني الدافع للرتابة والملل أيضاً لجأت الكاتبة الى تقنية “الخلاصة والقطع ” فسرعت من إيقاع زمن السرد حين انتقلت من العام ١٩٨٥ الى العام ٢٠١٥رغم أن مابين العامين زمن طويل نسبياً وأحداث كثيرة لم تتعرض لتفاصيلها كذلك حدث في أماكن أخرى من الرواية .

الوصف : واحدة من أجمل تقنيات السرد سخرته الكاتبة وأسهبت فيه ،وهذه التقنية تسهم في إيقاف مسار السرد الذي قد يسبب الملل للقارئ كما أنه يؤدي الى سحب القارئ الى داخل النص بعد أن كان خارجه فسيسمع الأصوات ويشم الروائح ويرى الأشخاص يتحركون بتفاصيلهم والأماكن ويعيش إحساس كل لحظة في الرواية .

من الملفت في الرواية هذه الإحاطة الدقيقة من قبل الكاتبة بتفاصيل كانت أقرب لحياة الرجال في العراق من النساء ، مثل تفاصيل أجواء المعارك

ولحظات عاشها الرجال دون النساء

، كذلك تفاصيل الإعتقال والتعذيب

وسايكولوجية رجال الأمن وكيف يتعاملون مع ضحاياهم .

من العام ١٩٨٥ الى العام ٢٠١٥ كان زمن تصاعد الأحداث في الرواية قبله كانت أحداث وبعده ستبقى الأحداث ، وهذه الفترة شهدت تطورات كبرى في العراق كانت كفيلة بتحطيم آمال العراقيين وأحلامهم بدولة يعيشون فيها بسلام ويتنعمون بخيراتها ، فحياة حسين وندى ، كانت رمزاً لحياة شعب كامل ، سُلبت حقوقه

ومنحت لغيره أمام ناظريه ،وقُهرَ في السجون والمعتقلات وضاع عمره وخسر أحبابه ، يحاول أن يغيّر من واقعه لكنه يواجه دائماً قوىً قاهرة تفوق قدرته على إحداث تغيير لصالحه لكن الأمل بغد أجمل لم ينقطع فولادة التوأم “حسين وندى ” لعلي وسارة كانت بشارة أطلت من بين ركام الموت (” مقتل عمر زوج عمة علي ” ومقتل “حسين ” ) فوق الجسر الذي هو رمز التواصل والوحدة بين ضفتي بغداد في نهاية الرواية وبذلك إشارة ضمنية لوحدة العراق بشعبه وأرضه كما كانت إشارة التعالي على الطائفية ورفضها واضحة بوجود حسين وندى وعلي وسارّة .

وبما أنَّ الرواية هي فعل تواصل يحمل رسائل وإشارات يمكن حصرها في نوعين

مباشرة عن طريق استخدام اللغة العادية .

وغير مباشرة ، وهي من فعل التخييل بواسطة شفرات تحملها اللغة المجازية ،

فإنّ هذه الرواية هيمنت عليها مسحة التخييل على حساب المباشرة ، وهذا هو مايرفع من قيمة العمل الأدبي ، ويجعله أكثر قبولاً لدى المتلقي فلغة الأدب تدور في هذا الفضاء الرحب ، بل اقتربت الرواية في معظم صفحاتها من اللغة الشعرية ” فنقرأ وصفاً للقمر

” يبدو ضخماً مثل كرة نحاسية ، يهرب عارياً من ستر غيماته ، ويشق بصدره المكور السماء “ص ١٦

وبعد العلامتين التي سبق التطرق إليها آنفاً من علامات التخييل في النص الأدبي نعود لبسط العلامة الثالثة المتحققة في هذا النص الروائي ألا وهي : وجود إشارة دالة على جنس العمل الأدبي ( رواية ، ) وتعتبر هذه العلامة من أولى العلامات التي يواجهها القارئ فحين يجد ( رواية ، قصة ) سيعني ذلك

أنه أمام نص تخييلي .

ثم جاءت العلامة الرابعة المتحققة أيضاً في هذه الرواية وهي : الإحالات الرمزية لأسماء الشخوص .

حسب الدكتور إبراهيم حجاج والتي ينقلها (عن جيرار جينت) ،

فكيف تحققت في هذه الرواية ؟

الجواب يأتي باختيار الاسماء فمثلاً (حسين ) غالباً مايشير الى

طائفة محددة من المسلمين (عمر ) كذلك وقد استخدمتهما الكاتبة لتعبّر بدلالتها عن البعد الطائفي ،

كذلك لقب الأجدع للإيحاء ببشاعة ذلك الشخص الذي يعذب المعتقلين بشراسة كونه إنسان مسخ لا يستحق مسمى يمكن ان يشير الى كونه إنسان مما جعله رمز لوسائل القمع والوحشية زمن النظام السابق .

وأخيراً تأتي العلامة الخامسة : أسلوب الإستهلال .

استهلت الكاتبة روايتها “بأسطورة نهر النسيان ليثي ” في الحضارة الإغريقية ، ص ٥

وهذا دلالة على أن هذا النص السردي نص تخييلي وكل تلك العلامات التي حققتها الرواية تفصح عن استراتيجية اتبعتها الكاتبة لجذب المتلقي نحو عوالم مغايرة ليستمتع ويتفاعل معها

على مدى صفحات الرواية .

مظاهر التخييل في الرواية :

من مظاهر التخييل التي حققتها الرواية ،

أولاً : التلاعب بالزمن السردي في المبنى الحكائي حيث ابتدأت الرواية من الماضي ( رسالة حسين الى ندى سنة ١٩٨٥) ثم انتقلت الى الحاضر حيث حسين على أحد جسور بغداد وحيداً حزيناً سنة ١٩١٥ ،ثم العودة الى عام ١٩٨٥ ومابعده في حركة إرتدادية من أجل شد إنتباه القارئ ونقله من زمن الى زمن حتى لايشعر بالملل ولتتسع أمامهُ مساحةُ الرؤية .

ثانياً : أنسنة المكان من أجل خلق معادل نفسي بين المكان وإحساس الإنسان فيه ، فحين نقرأ في الرواية ” تلال متحركة ، رمال على مدِّ البصر تتلوى ، ساعات النهار تزحف مثقلة مثل سلحفاة معمِّرةٍ مصابة باللامبالاة .” ص ٩

فهذا الوصف لساعات النهار تزحف مثقلة بالحزن في مكانه بالجبهة ماهو الا انعكاس للحالة النفسية المتعبة للبطل ( حسين ) وهو يئن تحت وطأة احساسه بعبثية الحرب ، وبعده عن ندى .

لم تكن الكاتبة بحاجة لنهاية غير متوقعة لأنها الرواية على مدى صفحاتها مترعة بالدهشة والأحداث لكنها لجأت للمفارقة والصدف حيث ( توفي عمر وحسين ) وولد ( حسين وندى ) انتهت قصة

وابتدأت قصة أخرى ، فهل مقتل حسين وعمر وإن بظروف غير متشابهة له دلالة الخسارة للجميع ؟ رُبما

هل ولادة حسين وندى الأحفاد هي إمتداد لمعاناة حسين وندى الأجداد أم أنها ولادة تحمل بشائر التغيير ؟ ربما هذا وربما ذاك .

لكن هناك إيحاء رمزي يمكن أن يفك لنا شيفرة هذا السؤال الحائر الا وهو ماجاء في نهاية القصّة ص ٢٧١:

” من النافذة المفتوحة لغرفة النوم بدأت خيوط الشمس الأولى تتسلل وتشق العتمة مشكلة شلال من نور تسبح فيه كائنات صغيرة غير مبالية بضجيج الكون ثم تراقصت في الشلاّل فراشتان تسبحُ أجنحتهما الصفراء الذهبية ببقعها السوداء في عالم ضبابي سحري يأتي من بعيد من الجانب الآخر حيث تسكنُ الحقيقة خلف أسوار الإنتظار “.

فالصباح ونور الشمس وأجنحة الفراشات كلها دوال على الأمل والتجدد وتبدل الأحوال .

*صدرت

عن دار أبجد – العراق

٢٠٢٤ – ط ٢-

شارك مع أصدقائك