منذر فالح الغزالي
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يطرح فيها هذا السؤال، فكثيراً ما تطرّق المهتمون بالأدب والفكر لمثل هذه التساؤلات. وأنا أرى أنه لا مبرر لهذا السؤال ولا داعي لهذه المخاوف.
لو راجعنا تاريخ الكتابة منذ بدايتها، بداية الكتابة، وبداية الفكر البشري المتأمل المفكر، لرأينا أن الادب كان ملازماً للإنسان في كلّ مراحل تطوره الفكري
منذ وعى الانسان ذاته وجد نفسه محاطاً بأسئلةٍ وجودية كثيرة، كان الفن هو الوسيلة الأقرب للتعبير عن ذاته وعن تلك الملامح الوجودية التي بدأ يتحسسها في ذاته وفي الطبيعة والكون.
مع تقدم الوعي واكتشاف الأبجديات صارت الكتابة هي أحد الممكنات الفنية الكبرى في التعبير عن فكرالإنسان وأحاسيسه، فأبدع الأسطورة لتكون الشكل الكتابي الذي يحتوي هواجسه الوجودية، وردود فعله الروحية بلغة أدبية متميزة. ومع التطور الحضاري وتمايز العلوم والفلسفة عن الأدب والفنون، تطورت الكتابة الأدبية جنباً إلى جنب مع تطور الفلسفة والعلوم المختلفة، بل إن بعض الفلاسفة كانوا علماء وبعضهم كانوا أدباء، وأرسطو الفيلسوف هو من وضع قواعد الشعر في كتابه الشهير فن الشعر.
وحين حاء عصر النهضة الاوربية في القرن السادس عشر وقفزت العلوم قفزات كبيرة وظهرت الكتابات الأدبية الأشهر والحركة الإنسانية في الأدب وظهرت أجناس أدبية وأصبح لكل جنس أدبي قواعده ونظرياته، بمعنى آخر شهد الأدب نهضته كما شهدها العلم ومجالات الحياة الأخرى.
لكن تبقى القفزة العلمية والتكنولوجية في العصر الحاضر هي أوسع وأعمق القفزات العلمية في التاريخ، ودخل الذكاء الاصطناعي في مجالات كثيرة وبدأت تنتاب المهتمين بالادب، ككثيرين غيرهم، مخاوف من تأثير هذا التطور التكنولوجي الهائل على الادب والابداع، ولعلنا نستطيع ان نستعرض هنا بعض جوانب تأثير العلم والتكنولوجيا على الادب بالنقاط التالية:
تغيير الموضوعات والأسلوب، وقد يتم تجاهل قضايا مهمة لصيقة بالإنسان.
تأثير السرعة والتشتت، العصر الرقمي يشهد تسارعاً في نشر المعلومات، مما يؤثر على التركيز والتأمل العميق في الأدب
فقدان الأصالة، قد يودي التكنولوجيا الى فقدان الأصالة والتجربة الإنسانية العميقة في الكتابة
لكن، وعلى الرغم من ذلك، يمكن للأدب ان يستفيد من التكنولوجيا في توسيع حدود الإبداع وتحقيق إمكانيات جديدة، وابتداع أجناس أدبية، وأساليب كتابية تتناسب مع عصر التكنولوجيا، وكذلك في تسهيل الحصول على المعلومة، بالإضافة إلى عملية الكتابة ذاتها على برامج الكمبيوتر، واختيار الشكل الجمالي للتنضيد والخطوط المتنوعة التي تتلاءم مع طبيعة المضمون
باختصار نقول: إن التقدم العلمي والتكنولوجي يؤثرعلى الأدب والفنون تأثيراً إيجابياً أو سلبياً يحدده الكاتب نفسه والمشتغل بالأدب، فالادب هو عملية إبداعية فردية بالأساس، إضافة إلى كونها عملية إنسانية شاملة تمثل التعبير الروحي عن إنسانية الانسان، والحياة الروحية والشعورية ترتقي بارتقاء الحضارة، وكلما ارتقى الإنسان على سلم الحضارة ترتقي حالته الشعورية وردود أفعاله الجمالية والأخلاقية على العالم المحيط به
والأديب الحقيقي هو نبي الإنسانية، وممثلها الروحي والمعبر عن إنسانيتها ومرآة عصرها؛ وإذا كان العلم التجريبي يعبر عن العقل في حالته الفكرية، فإن الأدب يعبر عن العقل في حالته الوجدانية، وتزاوج الأدب والعلم كتزاوج الروح بالجسد. العلم هو جسد الحضارة وتشكلها المادي، الذي يضع الأدب فيها المشاعر، ويسمو بوجدانها.
بون، ألمانيا الاتحادية
٣١/٨/٢٠٢٤.