د عبد السلام الفزازى المغرب
ما الذي يجعل الإنسان يغترب ويفضل الهروب صوب ارض هي ليست حتما أرضه وسماء ليست سماؤه؟ وما الذي يجعله يفضل أن ينتبذ مكانا قصيا يكفل له الكفاف من العيش مكرها لا بطلا؟ الغربة أصبحت تيمة زئبقية مهما كتبنا عنها لا يمكن القبض على أسرارها لأنها تختلف من إنسان إلى إنسان، ومن سيكولوجية إلى أخرى، ومن حالة إلى حالات شتى… ولعل أسباب الغربة والاغتراب ليست وليدة اليوم بل هي متأصلة في المجتمعات البشرية إلا أنها تختلف من مجتمع إلى مجتمع، والمحصلة في آخر المطاف تؤدي حتما إلى الاغتراب بمفهومه العميق ومواجهة إحدى أسبابها المتمثلة في الاغتراب السوسيو ثقافي، أو مواجهة أزمة هوية؟ أي إلى تحولات قطعية في بناء القيم والسلوكيات وأنماط العيش، بحيث تصبح الثقافة العامة لجل البلدان المصدرة للمغتربين وكأنها بدون أصول جغرافية ولا تاريخية ممتدة في التاريخ التي تعتقد أنها بنت صرحه لأنها أصبحت تنهل أسباب وجودها من ينابيع غير وطنية أصلا ما دامت قد أقصت جزءا من مكوناتها المتمثلة في المبعدين إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وأصبحت عالة على عالم غير عالمها والحال أنها وجدت نفسها تنهل من مصادر غربية تلك التي تعمل بثبات على تجيير المسار التاريخي لخدمة إيديولوجياتها، ومصالحها السياسية، ناهيك عن المصالح الاقتصادية التي اعتبرها بيت قصيد موضوعي هذا وهي ذات أوجه مقنعة سيما وان المغرب كنه كينونته وهو يستحضر عالما تحكمه سياسة النظام العالمي المتوحش والذي لا يعترف بإنسانية الإنسان، بل شيئه بشكل لا يوصف، فأصبح يعيش في دوامته ناسيا أن له انتماء بينما هو في الأصل مطوق ب” بشركة امبرياليةً ً تحمل شعار: التجارة بمصائر الشعوب واستغلال ثرواتها الاقتصادية والبشرية على حد سواء؛ نظام شغله الشاغل تسليع كل شيء، بعيدا عن أي رقابة دولية، وأخلاقية، وتوازن إنساني، وما همه اعتبار خصوصية هذا الإنسان المغترب، بل ما هم حتى خصوصيات الشعوب التي تلقي بأبنائها في أدغال داخلها مفقود والخارج منها مولود إن وجد طبعا هناك خارج ومخرج.. هنا يشعر المغترب أن حقوقه المقدسة في سبيل العيش الكريم أصبحت في خبر كان وبتواطؤ بين الدول المصدرة والدول المستقبلة، كما أن حاجاته لما يسمى بالعدالة، وحقوق الإنسان، والكرامة، والانتماء، والأمن، والحرية باتت مجرد أضغاث أحلام ليس إلا… ترى لماذا الغربة والتغريب لطاقاتنا ونحن نملك كل شيء وقد لا نملك شيئا؟ أليس من حق المواطن المغرب قهرا أن تشعره وفي وطنه أن بإمكانه أن يندمج تارة أخرى بعد طلاق مفتعل مع جوانية الإيمان والانتماء وصولا إلى نظام من المعتقدات، والقيم الاجتماعية، والأخلاقية التي جبل عليها دهرا من الزمن، والتي تدعم ذخيرة من الفضائل مثل الكرامة، والمروءة، والتآخي، والمجابرة والممالحة، والمصالحة، وبساطة العيش الكريم، والمصداقية، ومقاومة الذل والهوان هنا وهناك على حد سواء..؟ وبهذا نكون قد حاولنا أن نعيده إلى وضعه الطبيعي الذي هو ملك له ولا أشياء ممنوحة، فنكون بالتالي قد أعدنا إليه التوازن والتكامل والعافية إلى حياته المعاصرة القلقة، والحال أن القيم والأعراف الوطنية تعتبر من مقومات الشخصية السوية، أو بكل بساطة كل هذا يعتبر من مقومات الخصائص التمييزية للشخصية الوطنية التي تسعى إلى التكييف ما استطاعت إليه سبيلا مع أصالة الحياة الاجتماعية والإنسانية، فنكون بذلك قد أصبنا في خلق تسوية خياراتها الوطنية المفقودة مما يجعلها تستطيع تجاوز مشاكلها خارج منطق العنف بأشكاله المتعددة وكذا التعصب، التي غالبا وفي فقدانها سرعان ما تجنح بهم نحو ً التغريب ً… وفي إطار هذا التغريب لاحت لنا نخبة متعصرة تكاد تكون نتاج المجتمع الغربي كليا، لأنها لا تجعل من التعصر والتغرب، أو الالتفاف نحو الغرب أمرا واحدا. وهي لا ترفض في ذات الوقت التغرب، من الجهة الأخرى، رفضا كاملا. إنما التوكيد على التكيف: فيختار معشر المغتربون ما يناسب الحاجات الوطنية من المصادر المحلية والأجنبية. والاصطفاء في هذا الصدد بالضبط بل حتى الاختيار يعتبران علامة رئيسة للحياة الثقافية في بلدانهم؛ وهي في الآن نفسه تسبب الفوضى والاختبار المتسرع والقلق. فليست القضية قضية ما يجب قبوله وما يجب رفضه فحسب، بل هي أيضا مسالة ما لا بد من مصاحبته لعملية الاختيار هذه علما أنهم شغوفون بمجتمعاتهم التقليدية، لا رغبة لديهم بتقويتها حسب أشكالها القديمة؛ بل إنهم يخشون إمكان وجود طاقات في مجتمعهم التقليدي بوسعها أن تعمل ردة فعل ضد رسالتهم العصرية. ولذلك لا ينظرون إلى الماضي إلا لكي يحموا المستقبل… ولعل الغربة والتغريب معا يقودان مباشرة إلى معانقة تاريخ الأمس الذي كاناه، وارانا تناسيناه جملة وتفصيلا، وكلما استحضرناه كلما استحضرنا غصة في الحلق، ونحن ننظر إلى طاقاتنا في أوربا تتيه في معالمه، بينما نفس المعالم بنيت بسواعد الآباء والأجداد، وهذا بالضبط ما يجعلنا نتوقف قليلا عند إفريقيا التي أعطت كل شيء ولم تنل بالمقابل أي شيء، بل نالت بالمقابل التغريب، والعنصرية، ونكران الجميل، فبدأنا نتأمل مليا الذي كنا نعبر عنه بالفراغ القاري أو بالأحرى الإفريقي.. نملؤه كيف شئنا.. مضت سنون وسنون ونحن نحسب أنفسنا الأساتذة، نمدن العالم يوم كان مجرد قارات كم يلزمها من وقت كي تصير ما صارته اليوم، حيث بسطنا سواعدنا فوق أرضهم ما شاءوا، وصنعناهم في قلوبنا نحن، حيث كانوا بلا قاعدة تذكر، ولا رؤية، ولا عناء في سوقهم، سوقا لحضارتنا نحن وثقافتنا نحن… عشنا بينهم حينا، فإذا الشاشة تزدحم بالرؤى والفلسفات، تقهرك قهرا على احترام حكمتها ودوافع أعمالها المحيرة لنا نحن، الذين نمونا مع الأسف نموا آخر.. إفريقيا عامة والدول المغاربية خاصة ما كانت فقيرة في المادة، وما كانت فقيرة في العلم والفلسفة، حين أتت مراكب الاروبيين تحمل منها الذهب والزيوت والعاج، وقبل كل هذا الرقيق، توقف بهذا اللقاء التعيس تقدم القارة من داخلها وأعماقها، كما فعلت طوال عهدها في التاريخ. وهكذا عادت اليوم إلى حيث بدا انقضاض أوربا، وانتهى تطورها المستقبل؛ عادت تبدؤه من حيث وقف على ضوء الذي وقع في أوربا من تقدم آلي ووجداني، وهي خدرة ناعسة في هجيع الاستعمار، تتلوى تحت عصاته.. ولنعد للإنسان المغربي، وكيف غدت مكانته في هذه النهضة التي كانت لأجداده وآبائه أيادي بيضاء في صناعتها، لكن بقدرة قادر تنكر للخلف الأصل والفرع على حد سواء، فغدا يشبه أرجوحة ميناء قديم، تتقاذفه الرياح الهوجاء، ليرى واليد على القلب صنيع السلف بعيون الخلف، ويرى كدحهم، ونضالهم، وعلومهم، وفلسفاتهم، وفنونهم، وكأنها وجدت من فراغ…هنا بالضبط يكمن التغريب.. من له اليوم القدرة ليبعثها من جديد حضارة حية في إطار حداثي عبرها يشهد العقل المعاصر كيف يمكن للإنسان أن يتنكر لتاريخ ساهم فيه الآخر وببصمة كبيرة؟ ترى من سيقابل في الصورة الإفريقية الآن، رجال النهضة الأولى أيام تمردت القارة الأوربية على العصر الوسيط؟ أيام ترجمت أوربا هذا التمرد الفكري، أعمالا باليد؟ أكيد أنها حيرة ما بعدها حيرة، والحال أن أوربا التي تعيش شيخوختها المبكرة، ترغل فيما طرزته أياد السلف والخلف معا، وها هي الآن ضاقت ذرعا بمن صنعوا مجدها، وهذا ما جعلنا ونحن نتقصى حياة المغاربة من أبنائنا وأبناء العالم المهاجرين انه أضح لزاما علينا أن لا نخلط كما تريده الحكومات الأوربية اليوم بين الديمقراطية، والمؤسسات والإجراءات المعينة التي تبناها الغرب دونما التفاتة واعية لتاريخ امة كانت بالأمس المساند والمعين على البناء والتأسيس.. فالشامل والدائم في الديمقراطية، هو قيمها المبنية على احترام الشخصية الإنسانية؛ أما المؤسسات التي تصون هذه القيم فهي قابلة للتنوع ومرنة، ولكل بلد أن يختار الأشكال التي تناسبه؛ وهذا بالضبط ما نلاحظه بعد ذهاب حكومات ومجيء أخرى بديلة، حيث تبقى أبدا وضعية المغترب والمهاجر بين المطرقة والسندان، بل بين المد والجزر انطلاقا من توجهات كل حكومة على حدا.. أما البلد المصدر للاغتراب فلا هو يعيش عنعنة ولا هو يترنح في غرغرته، ليصبح وجوده كعدمه.. وبما إني مللت من خرجات السياسيين الجوفاء، وثقة المهاجر المغترب بها إما بلادة أو عن حسن نية، فلا ازعم أنني سأقدم في هذا الشأن بأي اقتراح سياسي يخص المغتربين من بني جلدتي، اقصد المغاربة أولا وأخيرا. ولكن، لست احسب أنني اتجرا على الحقيقة حين أؤكد بملء الثقة أن تطور العلاقات في المستقبل بين المغرب باعتبار انتمائه للقارة الإفريقية والعالم سيؤدي إما إلى كارثة شاملة أو إلى التناغم في بناء حضارة عالمية، والأمر إنما يعتمد على ما إذا كان هذا التطور سيتحقق بروح من الاحترام المتبادل أو بروح من التسلط والازدراء الذي بدأت معالمه جلية إبان الأزمة الحالية التي فجرت المسكوت عنه وبجلاء.. وعلى العالم الأصم أن يدرك أن المهاجر عندهم ليس بالإنسان المعوق ولا هو بالدودة الزائدة التي يجب اتصالها من جذورها كما تدعي بعض المنظمات المتطرفة بل هم خيرة ما أنجبه هذا الوطن، له من المميزات ما تفتقده شخصيات بلدان الغرب المتبجح، واعني مميزات سأحاول تلخيصها في ما يالي: – مغتربينا ما أحوجنا إليهم والى خبراتهم لو أن الوطن عرف قدرهم خارج كل النوايا التي تبرر بالاكراهات المجانية التي اعتبرها مخدرا ليس إلا.. لان مهاجرينا لهم إرادة لا تنثني لان تكون، بتمام حريتها، هي نفسها كاملة في كل مضمار. – إرادة راسخة لإعادة القيم الثقافية المغربية والمغاربية والعربية والإفريقية إلى مكانتها الحقيقية. – التصميم على إثراء حضارتها بان تدخل فيها من الحضارات الأخرى تلك المميزات التي تبدو لها قمينة بالمساهمة في خلق حضارة عالمية. – قابلية هائلة للتكيف تبدو واضحة من خلال تاريخ إفريقيا كله. – حس شديد الرهافة للعدل في العلاقات البشرية. – روح صادقة وعظيمة من التضامن الأخوي يشمل شعوب الأرض كلها. – عزم فخور على المساهمة كليا في التبادل العالمي. ما أقسى أن يقذف بك عنوة إلى الغربة وكأنك صرت دودة زائدة في وطنك، إحساس لا يمكن أن يشعر به من لم يتغرب بمفهومه العميق والسحيق.. كم كنت أحاور مرات ومرات نفسي، سموه إن شئتم هذيانا سيما بعد حوارات مطولة مع مهاجرين تقاسمت معهم التفاصيل التي لا يعلم جوانيتها إلا من انخرط في سيرهم الغرائبية؛ فكنت اردد في شرود مطلق: باستطاعتي أن ارجع بعد إنهاء دراستي إلى بلادي حيث كانت وظيفة مفترضة تنتظرني..فلماذا بدلا من هذا الحلم أصبحت أروم الهروب من مجتمعي..لماذا؟ لأني لا أحسن مثل أقراني من المغتربين الانخراط في المجتمع، على ما أظن..؟ وكيف ورب الكعبة يمكن إخفاء هذا الخجل المرضي وراء قناع القسوة..؟ أنني أخاف..طبعا أخاف.. هل أنا مخلوق عجيب؟ والحال أنني اشعر دائما بإحساس غريب من الهياج غير الاعتيادي، والفرح الوحشي كلما صورت حادثا مميتا. وان الجراح الرهيبة والدمار الفظيع يجعلانني اشعر شعورا غامضا بالثار.. والثار بمن يا ترى في آخر المطاف؟ انه شيء مخيف حقا، وكل مرة كان يحدث لي ذلك، كنت اغرق هذه الأزمة بفيض من الكحول.. في نفسي مستتر هامد يدوس بجزمته المغترب في، وكنت في الآن نفسه أتساءل: وماذا عمن كتب عليه أن يعيش طوال حياته في عالم الاغتراب..؟ حقا كنت مفردا أو بالأحرى تقمصت شخصية مفرد بصيغة الجمع ما دام أمل العودة عندي واردا بينما يبقى للمغترب المحترف غير وارد على الإطلاق… كان كل هذا بالنسبة لي يشبه غرفة سوداء، ولا ادري أين بابها.. فكانت لي أوربا بمثابة سجن كبير، وأنا فيها سجان لنفسي.. عزائي الوحيد أنني كنت امني النفس على أنني واحد من المغتربين، أو بالأحرى من الذين جربوا معنى الاغتراب في أقصى حدوده، ولهذا حين أروم الكتابة عن المغتربين كنت أخشى ولا زلت لا تطاوعني هذه الكتابة العصية على نقل بشاعة ما يعيشونه؛ ولهذا أتعمد الكتابة بلغة عادية ربما يستطيع قارئي التوغل معي في جوانية من أحاول نقل تفاصيلهم، استقصي ما استطعت إليه سبيلا لغة همومهم، لغة همها تحطيم ما يسمى بالقوة المادية لهذه القارة الممسوخة التي سرعان ما تغير جلدها تماما مثل الحرباء كلما قضت من المغترب وطرها.. أكيد أنني اكتب بأسلوب مشحون بنور كشاف فضاح، ولكن مع الأسف أخاف ألا اعثر رغم كل شيء على أسلوب يمكن لي استصحاب المغترب ذاته في رحلة ازعم أنني أهل لها لأنني اعتبر نفسي حال لسان هذا المغترب الذي اقتربت منه ما استطعت إليه سبيلا ذات سنين عددا.. فماذا يا ترى لو كنت مصورا! لربما التصوير بإمكانه أن يقوم مقام ما أريده.. ! لكن ما هم إذا لم استطع بلوغ الحقيقة المطلقة فعلى الأقل يحق لي أن ادعي أنني استطعت الحصول بطريقة أو بأخرى على صورة طبق الأصل لهذه الحياة البشعة التي نختزلها اليوم تعبر اختراق حيا المغترب في فضاء زنزانته المتمثلة في عالم الاغتراب، فضاؤها طبعا أوربا أو الشرق على حد سواء.. وعلى إيقاع هذه الصور البشعة والماكرة كثيرا ما كانت تحضرني الأكداس من الناس الذين سقطوا منذ أمد غير بعيد في الآبار، والأنفاق، والقناطر، وكثبان الثلوج، ناهيك عن أجدادهم الذين تركوا هناك عراة في ملكوت الله تماما مثل طابة مطاط في حروب لم تكن حروبهم والتي خاضوها جنبا إلى جنب مع فرنسا يوم حصحصت حقيقة الحرب، واختلت الموازين لولا أرواح المغاربة الذين طبق عليهم وعلى ذويهم بعد أن تحررت فرنسا مقولة اليهود الدالة: مالنا أكثر عملا واقل نفعا.. ! إنها حقا بانوراما عامة عن مآسي السابق واللاحق على حد سواء ولا زال امتدادها تعاني منه اسر لم تذق طعم الديمقراطية والحال حتى معاشات آبائنا وأجدادنا لم تنل من الديمقراطية التي تتبجح بها أوربا أسوة بمن خاضوا نفس الحرب لكن عزاؤهم أنهم كانوا أصحاب الأرض ولأنهم لم يكونوا مغتربين، هذا ما جعل من ديمقراطية أوربا ديمقراطية مساحيق شعارها: من ليس من بني جلدتنا فهو مواطن من الدرجة الدنيا حتى ولو سالت دماؤه من اجلنا.. ! لكن ما الغرابة في كل هذا؟ الم يستعمل الأوربيون هذه السياسة عندنا؟ في عقر دارنا حين حلوا مستعمرين غزاة؟ فهم لا يصورون إلا الأفارقة المرتدين اطمارا، الأفارقة الملطخين المكشرين، وتبين أنهم تعتبرهم أصلح وأجمل شريحة للتصوير على ما يظهر سيما حين يتعلق الأمر بتشويه صورة المغترب، ولا أريد أن اسميه مهاجرا احتراما لمصطلح المهاجر وإيحاءاته الدينية العظيمة.. هنا يتبين لي بوضوح المثل الأعلى عندهم للحصول على صورة مركبة لهذا العالم الذي بات يتخبط في أوج الفساد، والحال أن الفساد الذي نتكلم عنه في أوطاننا اقل ضررا من فساد أخلاقياتهم وعنصريتهم وازدواجيتهم.. والمغترب عندنا لا يغامر فقط من اجل المغامرة لان حياته كل حياته ليست له وحده بل هي قاسم مشترك بينه وبين أسرته أفرادا وجماعات، ولأجل هذا كله يكبر همه إلى أن يصير بحجم المستحيل حين يقترب من تجربة الاغتراب هذه وكأنك تقتلعه من جذوره اقتلاعا، وتطفئ شمعته الأخيرة والأنام يعيشون في عالم يختلف تماما عن عالمه، مما يجعله يطرح على نفسه ألف سؤال وسؤال، وليتحول عنده ذات السؤال إلى نزيف يومي لا يمكن التنصل منه قطعا، لأن الحياة عنده في حقيقة الأمر لم تكن أبدا مجرد أهداف تتحقق وتستقر عندها النفوس وإنما هي تتمثل في المحاولة الدائبة لتحقيق الذات والتي ليس لها قرار.. فالحياة عنده تتجدد كل وقت وحين إن سلبا أو إيجابا ولهذا نجده عندما تعتريه غضبة ما سرعان ما يردد: أحب وطني لكن وطني لا يحبني، كلما زاد عمري نقص صبري و زاد عذابي أسف أعشق أوروبا لسنا أفضل لكن نطمح كي نكون كذلك… قمة ما يمكن أن يتلفظ به مغترب وهو يلفظ سموما لست ادري ضد من، ولا أقول لماذا لأن الحق أنطقه واسكن كل من به صمم وإعاقة كره مجاني، واختلال في عالم المحبة والغيرة؟ فالإنسان لا يمكن أن يحقق لنفسه سعادة غير تلك السعادة الكامنة في حقيقة ذلك التغير الدائم الذي يجعل الإنسان في سعي دائب؛ ويستوي بعد هذا ما يلاقيه الإنسان نتيجة هذا السعي.. فكل شيء يستحق السعي وراءه وكل تجربة تستحق المغامرة، بغض النظر عن نوعية هذا الشيء وهذه التجربة.. الحياة وكما يبدو لي عند المغترب صيرورة ودورانا لا يكف، ويتعاقب عليه فيهما كل عوامل الشقاء والرضاء؛ وهذه العوامل هي التي تصهره وتنقي جوهره من الكره المفتعل الذي لا يعتبر كرها بقدر ما يعتبر دونية في حق يمتلكه واغتصب منه اغتصاب، والحال أن المغتصب من بني جلدته، وهذا ما يجعل منه حقيقة لا يمكن قبولها إنسانيا ولا ديمقراطيا، والسؤال المطروح في هذا الإطار يبقى أبدا؛ كيف يمكن إخماد عاطفته الثائرة ضد كل شيء ولا شيء، تلك المضطربة في أعماق بحر من التيه، وكأننا به يريد أن يهمس في آذاننا قائلا: أريد بدوري أن اشرب من الكأس التي يشرب منها سائر الناس، وانعم بهواء وطني مثل باقي المواطنين، واشعر بسماء تغطيني هي نفس سمائكم، وارض تاويني هي نفس أرضكم، وان أرقى إلى أسمى غاية ثم اهبط إلى أعمق هوة لكن في وطني..اجل في وطني.. حتى يمتلئ صدري بما يعانيه الناس من سعادة وشقاء، لكن أيضا في وطني.. لان نفسي بني أمي لا تزال تكبر في وتعظم حتى تحتوي نفوس الناس جميعا… هكذا أصبح في اعتقادي المغترب يلوك الفجيعة مرة بصمت ومرات بالجهر بها في كل مكان أملا منه أن تصل إلى من كانوا سببا مباشرا أو غير مباشر في تغريبه وبدون موجب حق.. ترى ما الذي جعله يقيس نفسه إلى الأشياء الأخرى وهو موقف قمة في العدمية، لأنه لم يكن في يوم من الأيام أن يشك في نفسه وفي وجوده إلى أن صارت هذه الأشياء تسكنه ولا تفارقه البتة؟ أكيد كان في كل مغامراته التغريبية هو الإنسان أولا، ثم تحقق له مع توالي الأيام مغامرات عدة لا تعد ولا تحصى رغم توصيفنا لها.. أما في هذا الموقف الأخير فلم يعد الإنسان المغترب يقيس نفسه إلى الأشياء فقط، بل صار عليه أولا أن يثبت من إنسانية في عالم غرائبي. وان يثبت حقيقة هذه الإنسانية إن كان ثم سبيل إلى إثباتها. وهكذا إلى أن غدا موقفه العدمي هذا طبيعيا كما صار من الطبيعي أيضا أن يكون الصراع هذه المرة بين الإنسان والمجتمع؛ لأنه تبين أن المجتمع هو المناوئ الجديد له، وهو الذي يزحزحه عن عرشه شيئا فشيئا ليحتل مكانه.. عجيب حين نكتشف أن إنسانية الإنسان قابلة للتلاشي والانقراض في مدارات درامية خطيرة حيث بقدرة قادر يستطيع أن يجد نفسه واقعا على أم رأسه والحال انه لا يصدق كيف هبط من أعلى درجة السلم الإنساني ليقع على الأرض مغشيا عليه في غياب شريعة إنسانية الإنسان المعاصر التي لا يمكن أن تصدق أنها خرجت عن قضية الحرية المسئولة.. وهذا بالضبط ما يجعل المغترب يقاضي في صمت ثمة شرائع مدسوسة وهي ليست بالجديدة في حياة الإنسان حيث واجهها الفلاسفة والمفكرون منذ أمد بعيد..إلا أن الأمر استفحل في عصرنا الحاضر إلى أن صارت ذات القضية أكثر حدة وظاهرة للعيان نتيجة التكورات التي خضع لها الفرد والجماعة والعالم والعلاقة المتشابكة الرابطة بين كل هذه المكونات الإنسانية.. وهذا ما يقودنا حتما إلى التساؤل المريب: متى يكون الإنسان إنسانا بحق؟ وما معنى أن يكون إنسانا أصلا؟ أكيد يبقى الاغتراب بلا طعم ولا مذاق ولا حتى صياغة معينة لأنه احتواء اضطراري، وتحمل لأشياء دخيلة لا يمكن توصيفها لأنها تختلف من إنسان إلى آخر، ولهذا فان المغترب ما عاد يطيق أكثر والأجيال التي تعيش هذا الاغتراب لها إرادة ترفض أصلا هذا النهج في الحياة؛ والعقلية الناتجة عنه، والنظام الذي يغلفه بشتى الملابسات الدخيلة.. أجيال من حقها أن ترنو إلى البديل، والتجدد، إلى إرادة ترفض أن تنهض، تعلن عن ذاتها وتفرض نفسها إن على المستوى الداخلي أو الخارجي، ومن حقها أن تنشد التحول من درجة الصفر في العيش مهما كلف الأمر..لان الغد لها هي المساهمة في اقتصاد البلاد بسخاء وطواعية.. الغد لها بدمائها إن اقتضى الحال وجهودها.. جيل الاغتراب هذا يريد الوضوح، الإشراق، وإزالة الأقنعة عن الوجوه التي تعيش على إيقاعات صمتها الذي طال واستطال، تريد أيضا للحكومات أن تكشف عن لعبتها المتنكرة تجاهها لأنها طالما تستمر في الكذب فإنهم يقتنعون أكثر فأكثر أن بقاء دار لقمان على حالها هو طريق إلى الكارثة…. حقيقة لم تعد تحتمل لدى المغترب بل أصبح يرددها بعفوية لأنه إذا استفاد شيئا من الغرب فاستفادته أساسا مبنية على الوضوح والمكاشفة، يريدون أن يسيروا على درب النور والخروج من العتمات، ويريدون التحول الكامل لان تاريخهم الكارثي علمهم الكثير، أحداثا وظروفا، والتاريخ عندهم أصبح « إرادة»، إرادة التحول والتغيير والخلق والإبداع… بالطبع لان هذا الشعور أملته عليهم محبة الوطن الساكن في صدورهم، والتضحيات الماضية والحاضرة والمستقبلية للأجداد والآباء والأولاد أن الوطن لا تحده حدودهم أصلا ليسوا خارج الحدود كما يعتقد هواة المقامرة عصائر الغائب جسدا وليس روحا.. ولا يقبلون وطنا سليبا فيهم، وطنا مصلوبا فيهم دون أن يدرون ودون أن يعون.. الاغتراب علمهم أنهم عبارة عن دودة زائدة ولهذا يرفضون كل نظام قديم لا يبرر وجودهم، هذا ما يجب أن يزول لأنه في حد ذاته لا يستحق البقاء، لا لشيء إلا انه ماتت فيه طاقات الخير، والنور، والأمل، والعطاء إلا من جهة واحدة، ومات فيه التقدم وهو مسعى كل مهاجر هاجر كي يعود يوما منتصرا على القهر والحرمان والنكران.. أكيد لا بد أن يموت كل هذا، والمغترب يعترف أن لو كانت هناك سياسة بديلة جاهزة لما كانوا في دوامة خطيرة يعيشون تفاصيلها وهم يغوصون في عالم المقارنات والمفارقات العجائبية، ولولا هذه السوداوية لما كانوا في حالة اضطراب متوارث جيلا بعد جيل، وقلق تلو قلق، وإجهاض للسعادة المشتهاة، لما كان هناك أصلا مشكلا بهذا الحجم الذي غالبا ما يولد الكراهية وعدم الاطمئنان على الوطن الذي بات يعيش أزمة مصيرية انسحب حتى على أبنائهم الذين بدءوا يشعرون فقدان هويتهم، فلا هم مغاربة ولا هم من قارات أخرى، وهذه مقامرة بمصائر أجيال تسرب إليها سوس ينخرهم يوميا من الداخل إلى أن أصبح عادة روتينية، مفادها أن تقبل الأجيال بما هي عليه عن طريق التعود.. وان تعاد على الشيء – كما تفرضه تفاهة الأيام، والرقابة، والإهمال، وطول الزمن، والنسيان، والرضوخ للأمر الواقع، والتأقلم مع الظرف المفروض..وكذلك عليهم أن يتعودوا على الحرقة، والرغبة، والصرخة لكن بدون استجابة لهم، أنها حقا تصفية مع الزمن وإهدار للقناعة بان الوطن للجميع.. وفي كثير من الأحيان يتساءل المغترب قائلا: تراني، أنا ضد مغربيتي مثلما يشعرني واقع الحال؟ لنفرض جدلا أنني غاضب من هذا الوطن مثلما يغضب الزوج من زوجته، فانا في آخر المطاف شئت أم أبيت مع المغرب لأنني شببت فيه على الطوق.. بل مع الإنسان المغربي، فليكن أبي، أمي، أخي، أختي، عمي… مع الإنسان المغربي.. مع الإنسان في وطني.. ما همني أن تكون للمغرب بحار وجبال وسهول ومدن تاريخية بقدر ما يهمني المغرب التاريخ، وسعادة الإنسان المغربي، وحريته وازدهاره في تلاحم بين المغربي في الداخل والخارج على حد سواء.. وكما اكره الأصنام كائنا من كانت، مؤسساتية أو رقابية أو بشرية أو حتى وهمية يصنعها الوصوليون.. أنا مع الإنسان الذي يراني كما أراه، ويحبني كما أحبه، ويصغي إلي في بوحي وآهاتي وغربتي، اجل مع الذي تبكيه غربتي لان تواجد كان يجب أن يكون في وطني لولا تطاول الإنسان على الإنسان.. أنا مع الذي تسعده سعادتي، نبني معا المغرب حجرا حجرا ولبنة لبنة.. ولا أريد أن يقذف بي إلى المنفى ويشعرني أنني شخص غير مرغوب فيه إلا حين الحاجة، وكما يجب أن لا يشعرني أن بلاد الله واسعة، وما علي إلا أن أسافر إليها مكرها لا بطلا.. واغترب، وأهاجر، وأموت.. هناك أمريكا، ارويا، استراليا، المكسيك، المشرق، إفريقيا.. ويقال لي: سافر جوا وبرا وبحرا لا يهم… انه أقسى شعور يمكن للمغترب أن يحس به.. شعور واضح، ساطع، تلوع له زمنه كل ضلع من ضلوعي، شعور يجعلني مفردا بصيغة الجمع اهتز وكأني أراه يكلمني قائلا: أنت غير مرغوب فيك في وطنك.. هيا نريد التخلص منك، ودعنا نرتاح من همومك وعطالتك.. إنها عملية تصفية تربك فينا كل التوازنات.. أن تجعل المغترب يشعر بهذا العنف الرمزي يحتم على المواطن أن لا ينسى أن المعنف أولا وأخيرا خرج من جوانيته، وان الحياة الوطنية اليومية قائمة بجميع تفاصليها على الإحساس بالعنف، وما أقساه من إحساس سيما حين تشعر به وأنت في الغربة وما إدراك ما الغربة، أن تحس به وأنت في ارض هي أرضك وتحت سماء هي سماؤك..بدءا من البيت، مرورا بالأسرة والمدرسة، وانتهاء بالمؤسسات والتنظيمات الاجتماعية والتشريعية والثقافية المسئولة عن تغريبك الاضطراري، وتكون مصدر من طوحوا بك إلى الجحيم، ناهيك عن السياسات وممارساتها البهلوانية التي تقتل المغترب وتسير في جنازته وكأنها في حل من غربته.. حيث إن المغترب في منظورها، هو عبارة عن رأسمال أدنى تواجد، لكن هو في الآن ذاته الأبهى دخلا.. ويكفي أن يعارض المغترب عن تفاهات هذه السياسات وممارساتها، مجرد معارضة، وبالأحرى تكون له وجهة نظر مخالفة لما هو رسمي ومناصرة لحقوقه الإنسانية حتى يصير منفيا نفيا مزدوجا من الحياة الديمقراطية التي تخول له كامل حقوق المواطنة، وهكذا يصير شانه شان السجين أو الشريد أو المغرب قتلا ونكاية.. ولعمري هذا أقسى عنف يشعر به المغترب موجه من الداخل – إلى الذات المغتربة نفسها. انه العنف ضد الهوية والمواطنة المستحقة لذات المغربي الذي كتب عليه أن يغادر الوطن وفي القلب متسع لعشق هذا الوطن المطرود منه مكرها.. وكان الذي حكم على المغترب بالتغريب القسري يتداوى من عجزه عن قتل « العدو » بقتل إحساس المغترب؛ فيصير الوطن وزيعة يمارس فيه الاقتتال والتآكل لذاتين وتثبت وجودها بقتل الذات التي لا حق لها في المواطنة،؟ ولكن الذات القاتلة لا يمكن أن تضمن وجودها إلا بما ملكت إيمان الذات المقتولة.. انه عنف لا يمكن تصوره لأنه لا يخضع لأي موضوعية، يعني أصلا ليس ضد الطبيعة حتى نقول انه مهووس بحب السيطرة عليها، ولا حتى ضد العدو الحقيقي الذي يسيطر على ثرواته، والحال انه يعيش بثروات المغترب أصلا.. وهذا العنف ليس حتى طبقيا ولم يولد من صراع طبقي بين طبقتين، طبقة مسحوقة وطبقة ساحقة، ولا حتى بين إرادتين، إرادة الجمود وإرادة التغيير أو بين التقليد والإبداع كما يحلو لأحزابنا السياسية أن تتنابز بهذه الألقاب كلما أرادت إخراج أنيابها موهمة الشعب بالتقدمية أو الرجعية والحال أن ليس في القنافذ أملس، فقط يمارسون السياسوية والديماغوجية على إيقاع أن الشعوب تنتمي لشعوب الماقبل تاريخية.. وهذا العنف حين تحاور المغترب في فحواه لا يراه إلا عنفا موجها ضد شخصه، وهو امتداد لثار لا يعرف أسباب نزوله، وربما يتجلى لهم قاطبة وبإجماع انه وليد حقد عائلي لان في آخر المطاف من اغترب، ومن هاجر؟ ومن بقي؟ عنف لا يرونه إلا من قبيل صراع بين فئات تريد كل منها أن تملك وتستأثر، عنف غابوي بين آكل ومأكول.. وتستدل عل هذا حين فترة الاستحقاقات التي تلغي المهاجر من كل مقومات المواطنة، فتقصيه من التمثيلية، بل تتعدى كل هذا إلى فرض وزارة خاصة بهم وتأبى إلا أن يكون خارجا من تلابيب الحزبية المهيمنة وليس من المغتربين أنفسهم على اعتبار أن أهل مكة أدرى بشعابها، رغم أن المغترب أصبح له شان عظيم داخل الشأن الحكومي حتى المهجر لكن في وطنه مقصي ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف…. وفي هذا الصدد بالضبط كتب ماركس قائلا: «إن حق الإنسان في الحرية لا يقوم على أساس علاقة الإنسان بالإنسان، بل يقوم في الأصح على انفصال الإنسان عن الإنسان. فما من حق من حقوق الإنسان المزعومة يتجاوز إذن الشخص الأناني، الشخص بصفته عضوا في المجتمع البورجوازي، أي شخص منفصل عن الأسرة الجماعية، ومنطو على ذاته، منشغل فقط بمنفعته الشخصية ومستجيب لاعتباطيته الخاصة ». ويتبين من كل هذا أن على الإنسان أن يكف عن العيش من اجل ذاته، منطويا على فردية فارغة، بل أن يشترك في أسرة جماعية لا تقوم على أساس سيطرة البعض، بل على حرية الجميع. وحين نعاين واقع المغترب في السياسة العامة للبلاد نراه مغيبا تماما رغم ما تلوكه الأحزاب والحكومات من فذلكات لغوية لا تعتبر إلا عبارة عن مساحيق يراد بها إسكات المغترب، بل تدجينه في السياسة العامة دون إشراكه في تقرير مصير الوطن الذي يمكن مصدرا من مصادر تواجده على الأقل اقتصاديا حيث يعتبر المصدر أو من المصادر الممولة لمشاريعها.. ولكن حين تهيكل الحكومات، وتدوزن إيقاعاتها الانتخابية تلقي بالمغترب في اليم مكتوف اليدين وتقول له: إياك أن تبتل بالماء.. وهكذا، فان الذي لا يشعر في وطنه بسرور وفرحة بناء العالم وخلقه بوسائله المتاحة من بين الوسائل، أكثر من سرور لدى دورانه أبدا داخل جلده هو ذاته، أكيد هذا الشخص يكون على وعي تام أن العقل والوطن وسدنته قد اجتمعوا على لعنه بطريقة مباشرة.. وهكذا يشعر المغترب انه عبارة عن حلقة مفرغة في المواطنة، ولا يشعر البتة بالراحة، بل على العكس بالبؤس، وكأنه لا يقوم بنشاط جسدي وذهني حر، بينما يشعر بالموت البطيء واليومي يميت جسده، ويدمر عقبه وأحاسيسه.. والعامل عامة لا يحس بأنه على مقربة من ذاته إلا خارج العمل، أما في العمل فيشعر بأنه خارج ذاته، ويصير يشبه المعطل الذي لا يبرح بيته صباح مساء، أما حين يعمل فانه لا يحس بأنه في بيته..