اللغة البينية في الأدب  

شارك مع أصدقائك

Loading

                         محمد يونس محمد

طبعا لست معارضا لعمل اللغة العام، ولا أسعى لأشتقاق لغة من رحم اللغة العامة، بل أرى أن هناك لغة بديلة يزيح استخدامها وتوظيفها تلك المغالطة، وهذي اللغة تختلف في سياق علم اللغة، إنها منتجة لضرورات وأسباب، وهي ليست ذات اللغة العادية التي هي تتكون بالأصول التقليدية من مفردات ومن ثم يصاغ منها جمل، بل إن تلك اللغة لغة جمل، وهي أيضا لا تتصل بعلم اللغة كنمط لغوي من أنماطه، كونها قاصرة عن الإطار العام للغة، وهي ليست إلا عبر توصيف أنها لغة مفترضة لضرورات وسببية ملحة، وهي ليست لغة عامة طبعا، بل قاصرة عن ذلك الإطار، وهي كبديل نوعي يزيح لغة جنس من موضع جنس آخر لتحل بديلة لها وتساهم في إفراغ النص الروائي أو القصصي من لغة طارئة قد تربكه، برغم ما تقوم به من دور، وصراحة أغلب من هم كُتّاب جدد، أو يخوضون تجربة الكتابة على مستوى تأليف كتاب لأول مرة وعلى الأخص في جنس الرواية يسعون إلى تجريب كيفي تدفعهم باتجاهه فطرتهم، فمثلا هناك كاتب رواية يجعل السرد يتوقف جزما ودون مبرر، ليكتب قصيدة تلح عليه وجدانيا، داخل كيان المادة المكتوبة بأطار روائي ومن ثم تكون الرواية بحدث حساس، وهنا سيكون الحدث متراكبا من لغة عضوية، هي تمثل نمط سردي ثابت الزمن، ولغة ايقونية يتعدى الزمن فيها زمن فعل السرد، وهذا دون فن عالي ودقيق، يجعل هناك لغات قد تربك النص الروائي، لكن هناك لغة تحتاجها الرواية لتحقيق اهداف اوسع لغويا، واملاء ثغرات اوجبت لغة ذات مرونة واستيعاب اوسع، وهذه ميزة وضرورة اللغة البينية، والتي هي بمرونة وقدرة عالية الميزة، وايضا قد تؤهل من خلالها بعدا استاطيقيا، يميز حتى المفردة الروائية، ويكسوها، فتكون اكثر اثارة وامتاع.

أحيانا يحتاج حدث الرواية إلى إكمال ثغرة بلغة مختلفة أو مجاورة، مثلما معالم سرد حالة عشق تتصاعد بين شخصبن إلى سرد مختلف، وسمي ذلك السرد بالسرد الهجين، والذي هو يعطي تفاصيل بشر لكن بفعل مختلف وخاص جدا، وفي جنس الرواية أحيانا تكون هناك ضرورة إلى معاني أو مستوى رمزي يحتاج لغة أخرى، وأسمّي هذه اللغة بـ(اللغة البينية)، وهي لا تعارض أو تؤثر وتربك مجريات الحدث الروائي، لكن أحيانا نقرأ لغة مختلفة، ومرات أكثر من لغة في بعض الروايات التي تسمى خارج السياق العلمي رواية سردت وبنيت وفق سرد روائي، وتلك اللغة المشتركة أحيانا يتداخل فيها سرد بلغة عالية الحس، واحيانا تنسب تلك اللغة إلى اللغة المتعدية، أي لغة الشعر، والتي تلك هي لغة حسية، وبما أنها كانت متعدية فهي تفصل نفسها عن لغة السرد الروائي، وهي هنا تؤكد ما كتب بها هو شعر، وهذا يعني سيكون هناك إرباك يصيب كيان النص، عبر لغة دخيلة، هي كما الفيروس يصيب كيان جهاز ويعطله، لكن اذا كانت هناك ضرورة لتبيان أحاسيس بجملة أو مفردة أو أكثر فهذا يعني يمكن استخدام لغة مجاورة، وتلك هي اللغة البينية التي لا تعارض النص، وتدعم انسيابيته، واللغة البينية ليست لغة مفردات بل لغة جمل، وتكون الجملة فيها مركبة من مفردات عضوية تؤدي مهامها، او تكون مفردات اخرى هي حسية تتطلبها ضرورة، وتؤمن اللغة البينية للنص القصصي عدم التأثر أو الانحراف إلى جنس أدبي آخر، وهي ليست إلا حالة ضمان تكون في وقت الضرورة التي تستوجبها، وليست هي اللغة الأساس لنسيج النص الروائي.

وطبعا تلك اللغة هي وسيطة في أسلوبيتها، والإطار الأسلوبي لم يأت من متن اللغة العام، وإنما جاء عبر ضرورات تثبيت أطر اللغة التي تمثل جنسا أدبيا، وعلى وجه الخصوص الرواية – القصة القصيرة جدا، وهي لغة في المستوى الدلالي هي لغة وصفية، لذا نجد أنه يمكن للوصف استخدامها مسمانا الإفتراضي (اللغة البينية)، بما تتيح هي وظيفيا، ويمكن للوصف إيقاف نمو الحدث السردي وتعليق زمن فعله أو تغييره، ويكون النمو هنا عموديا، أي يكون الإيحاء أو ابتكار شيء من لا شيء، أو يدخل عنصر التزويق الاستخفافي حدودا أوسع مما تمثل به متن التاريخ، والاستعارة من أحداث جانبية معاني أو مراميز ما يرمم به فجوات الموصوف، وعناصر الاستهكام والسخرية هنا تتسع إلى حد مثير، ويكون التلقي عبارة عن بالون غازات ضاحكة ينفجر فجأة لكن بمتعة وقناعة، فالوصف مهما استبد بعناصر الاستهكام إلى أقصى الحدود الرمزية محاكيا المعنى الذي يستشعر به الكاتب لا يزيح الواقع الذي أقره السرد، بل يغير ملامحه لضرورة مجدية، فبدل أن تستنسخ شخصية من متنها التاريخي يستعير الوصف لها ملامح من مضامين تاريخها، وهو الأفضل قيمة في الرواية، وهذه الصياغة التبريرية التي تعمق المعنى الروائي في حدود التزويق، ليست استخفافا بأدبية القص، بل إن الرواية هي تمثل شكلا بلاغيا يتوافق وتلك الصياغات، ودور الوصف الوظائفي له إمكان توسيع رئة الرواية ليكون نفسها أعمق، بل هو يحسن حتى الشكل الروائي ويجعله أكثر تطورا، وكذلك دور الوصف بعنصر لغة ملائم والأجدى اللغة البينية، فهي تتوافق من جهة مع الحس ومن أخرى مع الوقائع، في السياق الوظيفي تؤدي  دورها في إنتاج صياغة تبريرية تتناسب مع الصيغة المادية للانتاج مثلما هي تتناسب التهكمات القصدية للكاتب ووحدة الشعور الساخر، ويؤشر باختين ما تتصف به طبيعة اللغة في تعدد مستوياتها بالقول ( لغة اليوم، العصر، الفئة الاجتماعية، الجنس الأدبي، الاتجاه.. إلخ، ولا يمكن تحليل أي قول تحليلا مشخصا وموسعا)1، ولغة اليوم طبعا المرونة اللغوية فيها كونها واسعة، ويمكن أن تشتمل على ما هو إطار لغوي خارجي، وهذا ما تتصف به اللغة الكلية، والتي لا تؤثر عليها لغة مثل اللغة البينية المفترضة ليس إلا.

1- باختين – الكلمة في الرواية – ترجمة يوسف الحلاق – منشورات وزارة الثقافة السورية – ص 44

شارك مع أصدقائك