عقيل هاشم
كاتب عراقى
الاحتفاء بالماضي؛ للبقاء على قيد الطّفولة والنّقاء
احتلّت صور الماضي بنية السّرد المعاصر بما توثّقه من ذكرياتٍ تحمل في طيّاتها شوقًا لذيذًا وألمًا عميقًا على ما مضى. ويبدو أنّ اندفاع الروائيّ لبثّ عاطفة الحنين إلى الماضي في روايته؛ إيمانًا منه بمدى تأثيرها على الذّائقة العامّة للمتلقّيين وانفعالاتهم. ومن هنا فإنّ الحنين الى الماضي عبارة عن شعورٌ له وظيفة إيجابيّة؛ إذ يُحسّن الحالة المزاجيّة للمتلقّي؛ لانتمائه للماضي بما فيه من أحداث، وشخصيّات وأماكن؛ فالحالة المزاجيّة تتحسّن حينما نكون في الأماكن التي نحب، ومع الأشخاص الذين تربطنا بهم ذكرياتٍ حميميّة، وأحداث لا نملّ من استرجاعها في كلّ لقاءٍ يجمعنا بهم. وعليه أنّ الحنين الى الماضي تعدّ آليّةً دفاعيّةً يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسيّة، خاصّة عندما تزخر بالملل والشعور بالوحدة، وعليه فإن الذكريات تسّاهم بشكلٍ فعّال في مواجهة التحدّيّات الحاليّة. ولصد الاكتئاب والشعور بالحزن والألم. بالطبع لكلّ إنسان ذكريات سارّة وأخرى مؤلمة تربطه بالماضي؛ فكثيرًا ما يسترجعها الكاتب بخياله، ويتمنّى لو أنّها تعاد؛ كي يستمتع باللّحظات الجميلة التي جمعته بمن تربطه بهم علاقة حميميّة، أو أن يتصرّف بشكلٍ أفضل ممّا فعل في الأحداث المؤلمة واللّحظات الصّعبة التي مرّ بها وعليه فقد تبيّن أنّ الدّافع الحقيقيّ وراء هذا الحنين هو تألّم الشّخصيّة وشعورها بالتّوتّر والغربة جرّاء ماضٍ مفرح مفعّم بالذّكريات الحميميّة. وحاضر سيء لا يُلبّي رغباته؛ لذا فهو ساخطٌ عليه، متبرّمٌ منه. رواية الوقوف على عتبة الامس , للروائي احمد طايل , هي رواية سيرة ذكريات الكاتب ، واسترجاع رسائله المخبّأة من أرشيف ماضيه. فام بسردها بتوظيف تقنيّات سرديّة خاصّة تتعلّق بالشّخصيّة الرئيسية . مثل: المونولوغ الدّاخليّ، والصّراع مع الزّمان والمكان، مع انتقاء الشّخصيّات التي تعمّق الإحساس بالغربة ذاتيا. واختيار الأمكنة التي تتعلّق بحميميّة الذّكريات: بيت العائلة الاول ومن خلال تصويره حالات: الفَقْد، والحرمان، والحنين والشوق التي تصيبه وأثارت في النفوس مشاعر مختلطة ما بين السعادة والألم والشجون والحزن وأحيانا الندم. (ثلاث ليال متتالية واجد نفسي اثناء نومي اليقظ اعود لمشاهدة ايامي الماضية منذ بدايات حياتي . كنت أتخيل أنها سوف تكون ليوم او يوم آخر , ولكنها تكررت لمرة ثالثة , ومن هنا اندفع القلق ينتابني وتساؤلات تحتل راسي هل هو نوع من الحنين للماضي ام دعوة لمن ذهبوا من الاحبة وغادروا حياتي لا لحق بهم؟, والغريب اني أشاهد هذه الرؤى وكأننى أشاهد عرضا سينمائيا ولكني أخذت قرارا أراه كان لابد أن يتخذ من سنوات طويلة أن أذهب إلى قريتي التي غادرتها منذ عقدين من الزمن…) هي حنين إلى الأشخاص الذين فقدهم الكاتب، القرية – أيام الطفولة البريئة، إلى أصدقاء الزمن الجميل، إلى العلاقات الإجتماعية القوية، إلى بساطة الحياة، وإلى التفاصيل الصغيرة التي طوتها دفاتر الأيام. ومن جهة أخرى قد تكون انعكاسا للخوف من سرعة مرور الأيام والأحداث، أو رغبة في العودة إلى هذه الأزمان والأماكن . في الغالب يشعر الفرد بالأمان النفسي والراحة والاطمئنان بالعيش في الماضي الذي يألف أحداثه وأشخاصه، بينما قد يشعر بالخوف أو التوجس من المستقبل لعل التغيرات في هذا العصر والذي نجم عنها ظاهرة الاغتراب النفسي وصعوبة التكيف . فيصبح الإنسحاب من الحاضر أسلوب حياة اختار الكاتب في روايته أن يحكي سيرته الماضوية وقصص الآخرين وفوق ذلك نراه يتعمَّق بالتفاصيل التي تثير الانتباه، إنَّه ببحث عن الوتر الأكثر حساسية ليلعب عليه بكلماته، الإحساس بالغربة، الانعزال، الرغبة بتحقيق الذات من جديد (ممكن ننطلق الان الى الشوارع وحواري وأزقة بلدتنا أود ان أتأمل التغيرات وأتأمل الناس لأري مدى إصابتهم بعدوى التغير ثم لنذهب إلى بيوت الأهل أعود معهم للأعوام التي عشتها بينهم وأيضا التي غبت فيها عنهم وهو ما حدث كل بيت ندخله , الترحاب . الحرارة الحميمية نتذكر بعض الأمس من حكايات الاباء والأجداد …) تتوالى الحكاياتُ في الرواية على لسان رشدي تحكي على معطيات الواقع المتشظِّي التي عبَّر عنها السرد من خلال وجوده الحضري في المدينة، ثمَّ الغوص عميقاً في العقل الباطن حيث منطقة اللاشعور التي تنطوي على الكثير من الإشارات والدِّلالات المعبِّرة عن رؤيةٍ الحياة العصرية والتي تتخطَّى الواقع القائم وتؤسِّس للممكن الآتي لذلك فقد كان الكاتب حريص على التعامل مع الجانب الإنساني للقصص من دون أن تؤثِّر التفاصيل السلبية على التسامي الشعوريِّ الذي بودُّ الكاتب طرحها في روايته يسعى الكاتب في روايته كذلك إلى أن بدير دفة الإهتمام تلك القضايا التي واجهت ردَّات فعل مختلفة عند اهالي القرية ، ولا سيَّما أنَّهم مازالوا محمَّلين بعاداتهم وتقاليدهم، بدينهم، بلغتهم، فكانت فكرة الإندماج يسيرة معهم. لذا استطاع رشدي واستطاعوا تجاوز العقبات التي تعيق الإندماج. (تعرفون جميعا اني افكر لكم وبكم وانا معكم لأنى منكم , قد يكون لي شأن مميز لديكم بفضلكم أنتم علي ولكني أولا وأخيرا واحد منكم ولكم من هنا أفكر من فترات طويلة أن لابد لنا من الإستقرار والسكينة بدلا من حياة التنقل والترحال , كل فترة بمكان نتعرض للعديد من الصعاب المعيشة …) ولعلَّ الكاتب استخدم عتبة الأمس في عنوان الرواية لتصبح دلالة العنوان بوصفه عتبةً نصيَّةً كونها تمسح الغبار عن تلك الصّور الحميميّة القديمة، وتسترجع شريط الذكريات الجميلة أو المؤلمة له، وتعيد بناء الماضي بالكيفيّة التي ارتآها ومن هنا تبدو أهمية القصة الإطار-الرحلة الى الماضي -في التكريس الكبير لثيمة الحنين للقرية ، ففي القصة الإطار نجد الذات الساردة تكتب عن ذكريات مَرَّ عليها زمن بعيد وتنفض نفسها على الورق وتُقلِّب ذكرياته عليه. ولذا نجد حرارة الحب للقرية-الوطن الذي يتسرب إلى كل ذرة من كيانه، وظّف الكاتب المونولوغ الدّاخليّ الذي يعتمد على التّفكير الطويل المباشر؛ ليكون هدفه الحقيقيّ استحضار تدفّق غير منقطع من الأفكار التي تمرّ عبر كيان شخصيّاته في تداعي الذّكريات من خلال المونولوغ الداخليّ؛ ممّا يدفع المتلقّي لأن يُكثّف تركيزه في الصّوت الوحيد الذي يستدعي كلّ الأصوات . (بسم الله الوهاب الرزاق وبالصلاة على سيد الخلق والمرسلين سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم إجعل تجمعنا تجمع للخير والعمل الصالح اللهم أبعد عنا أي وساوس وأي ريح خبيثة .. أقسم بالله إني ما أحسست من لحظة وضع قدمي الأولى على هذه الأرض الطيبة …) وببدو رشدي صادق ومخلص لعالمه الصوفي –فهو الصائم المصلي حافظ الاذكار والأدعية ليل نهار حتى في أشدّ منعطفات رحلاته من قسوة. في فصول الرواية يواصل الكاتب سرده الروائي عن عالمه بتفاصيلها، فيقدم لنا حكاية طويلة، شيقة، في سردها ولغتها، يستعرض حيوات شخصيات عديدة، لكنها تبقى أسيرة ذلك العالم العائلي الطيب من علاقات وأمان وسلم اجتماعي نفتقده ولقد تسلّل ذلك الشّعور للقارئ من خلال البنية الفنّيّة للحكي ربما بكون التّضارب النّفسيّ الذي تعيشه الشّخصيّة جرّاء إحساسها بالقلق الدّائم الذّي يسري في متن السّرد، واشتدّت وتيرته مع إيقاع الزّمن، وتفاوت الأحداث ما بين ماضٍ مليء بالذّكريات، وحاضرٍ معاش، ومستقبلٍ مبهم، ويبدو أنّ هاجس التّوتر من الزَّمن سمةٌ بارزةٌ في إبداع أدباء العصر، بل ويبقى عالقًا في أذهانهم طيلة عمليّة الإبداع، ومردّ ذلك هو التّطوّر السّريع الذي تشهده الفترة؛ لهذا كلّه فإنّ الصراع مع الزّمن له دورٌ فعّالٌ ومباشرٌ في سير الأحداث، وتصوير الشّخصيّة وعوالمها؛ ورصد اضّطراباتها. (لك الحق أنت تعرف أن القرية غالبية أبنائها ملتحق بالتعليم الأزهري وكل بيت به من يحفظ القران الكريم ويجوده ولكن دون تطرف هذه سمة قريتنا ولكن بالسنوات الأخيرة وجدت مجموعة تدعو للتشدد صارت تنهي وتمنع وتحرم وتأمر بما تراه من وجهة نظرها صائبا حتى سنحت لهم الفرصة يهاجمون مظاهر المستجدات : التليفزيون … وهنا فقد خلق الروائيّ حركةً نفسيّةً مونولوجيّة، تعكسُ إحساسًا دلاليًّا عميقًا مُثيرًا للدهشةِ، بتوظيفِ الصّورة المجسّمة أو المشخّصة للأشياء؛ ممّا يساهم في شحن حكايته تشكّلات حسيَّة تنبض بالحركة، ومن هنا كان لا بدّ أن تكون علاقة بين الخيال المتمثّل بالاستعارة وحركيَّة الصّورة، ذلك لأنَّ التّصوير “لون وشكل، ومعنى وحركة، ممّا يمنح الصّورة فاعليّة وحركة؛ كونها مزيّنة بالأفعال التي تشيء باستمراريّة استرجاع الذّكريات وديمومة تأثيرها عليه رواية “الوقوف على عتبة الأمس” تعجّ بالعديد من الموضوعات الاجتماعيّة والنّفسيّة؛ ورغم ذلك إلّا أنّ الكاتب حاول أن يستفرد بموضوع “القرية” كموضوع نفسيّ بالدرجة الأولى، وإنّ المتأمّل للحكي يوقن أنّه قد جنح إلى تقنيّة: التّراسل الحسّيّ المفعّمة بالحركة؛ قاصدًا مفاجأة المتلقّي وإبعاده عن توقّع الصّورة التّقليديّة المألوفة، الأمر الذي يغني الصورة ويوسّع من آفاقها الجماليّة والتّأثيريّة. (وعند عودتي رايت شبابا ورجالا يرتدون جلاليب قصيرة أسفلها بنطلونات وسراويل متعددة الأطوال أيقنت أن التغيير الديني قد أصاب القرية الأمر يحتاج للإيضاح لفت نظري أن بعظهم يتجمع إثنين أو ثلاثة ينظرون بتمعن حاد إلى موبايل أحدهم يقلبون به مرات أيقنت من متابعتي لمنهج هؤلاء أن تعليمات تأتيهم مؤكد سوف أفهم …) وقد وجد الروائي في نفسه القدرة على إقتراح منجز روائي نقدي ، التي تنطلق من موضوعة التناحر الديني التي تبرز الآن بحدة، وأكثر من أي وقت مضى في مجتمعاتنا ، حيث تقود إلى خطر تمزق ثقافي وصراع ديني وحروب طائفية قد تأتي على الأخضر واليابس، وتهدم تماسك المجتمع. وفي الختام تستبطن المتون الحكائية المتعددة في الرواية، والتي تتمفصل حول موضوعات السفر والكتابة والألم والفقدان والغربة، أطروحة بارزة لا يخطئها القارئ اللبيب، وتتمثل في نقد الواقع الحالي الذي ترزح تحت نيره التناحر الديني، وما دام الصراع البشري منذ القدم يدور في أساسه حول المعتقد الديني، فإن لهذه الأطروحة الروائية قيمتها الإشكالية وراهنيتها الفكرية، حيث يسعى الروائي، من خلال الحوارات بين الشخصيات المؤثثة للمتن الروائي، والمتفاعلة فكريا وعبر ترسيخ مبدأ التسامح الديني، وتحالف الفكر العقائدي من أجل نبذ العنف، وتفادي التمزق المؤدي إلى دمار الإنسانية، (أبي ها أنا عدت وسرت على دربك أرجو أن أكون قد استطعت سامحني إن كنت سهوت زمنا لن أغادر بعد الآن لدي أحلام تسكنني أتمنى ان يهبني المولى عمرا لأحققها ما أجمل أن ترسم بسمة فرحة على الوجوه , ما أجمل أن ترى مشاعرا تنتفض لا إراديا تستقبلك بعناق روحاني . ما أجمل أن تعيش حياة بلا ملوثات عصرية…). لم تغب اللغة الشعرية عن السرد الروائي مع حفاظ الكاتب على فنية الكتابة ، وقد كانت غزيرة المعنى وفيض من الوعي وهي تحمل مضامين ناقدة للتابو –الاجتماعي والسياسي والديني . مما جعل من يقرأ الرواية يندمج فيها فلا يصيبه الملل، وهذا يهدف إلى كسب ود القارئ وتعلقه بالرواية من خلال تحقق المتعة لنصه مما نجح في كسر الحاجز النفسي بين روايته وقارئها