حاورته
الصحفية نادية الدليمي
…..
ما هي الأمور التي لها صفة الهوية في نصوصك ؟
أعتقد انني اكتب نص المعنى و ليس نص اللغة الشاعرية المتدفقة بلا ضبط لحدود دلالاتها وهو ما يشاع اليوم في الكتابات النثرية المسماة شعرا و هي ليست شعرا بالمرة بل نثر بارد ! بلا روح و لا معمار يشد مفاصل النص و لا ايقاع كما يراد من النثر كي يصبح شعرا و لا جدل افكار و لا دس معرفي .. هذه النقاط هي ما تميز نصي عن سواه و يمكن اجمالها كالتالي :
شعرية المعنى و ضبط حدوده دون التأثير على ماء القصيدة كما قالت العرب.
البناء المحكم
الايقاع
جدل الافكار و الدس المعرفي في ثنايا الشعري
كل هذا و غيره جعل لنصوصي بصمة خاصة يكاد يعرفها القاريء حتى قبل ان يقرأ اسمي عليها ! ولكن لا اعدم اهمية الانواع الاخرى من الكتابة الشعرية شرط ان تكون شعرا لا لغوا أو اسفافا و هذيان، يمكنني ان اتحدث عن سمة اخرى في شعري ( الكيانية ) وهي سمة عميقة يقصد بها نوع من التلازم العضوي بين ذات الشاعر ،، موضوعاته الشخصيه و نصه ،، اضافة الى عضوية الشكل و المضمون حيث يتداخلان بلا تفريق مثلما تتداخل ذات الشاعر بلغته و نصه .. الوقائع الشخصية هنا هي المضمون الشعري .. الحلم يدخل زائرا على بيت أثثه الواقع باحتمالاته ،، سيميائه و تقاطعاته .. الكيانية اذن هي بصمة من نوع خاص لا يتقنها الا شعراء التجربة الشخصية الذين أشرت لهم من قبل
تنادي في طروحاتك الى توظيف الثقافة؟.
.. منذ تأسيس مشروع البديل الثقافي في عام ٢٠٠٥ تحولت بوصلتي نحو هذه المطالبة اي ان يكون للثقافة فعل اجتماعي او واقعي أو تأثير ملموس بمعنى ان الفنون الابداعية كافة ينبغي ان تتوخى تحسين الأداء العام للجماعة او الامة عبر هذا الأثر الذي قصدناه و إلا فستقع خطابات الثقافة كلها في مستنقع الهذيان و الطقوسية المفرغة من المعنى .. تحدث مرة عن كهنوت ثقافي .. و اقصد فعاليات منعزلة بلا تأثير مثل الكهنوت الذي يكرس الطقوسية : صلوات لا تنهى عن الفحشاء و النكر ! يقابلها فعل ثقافي لا يقدم شيئا بالمرة سوى تراتيل ميتة تتلفظها شفاه ايبسها النفاق ! و اعتادت ان تقول ما لا تفعل ! .. بالتأكيد هذا المسار سيعاني المزيد من الصعوبات ،، مسار التنوير و صناعة المعنى و التغيير عبر الثقافة و المعرفة .. هناك سدنة ثبات لا يروق لهم التحول او التقدم .. هناك من يعتبر التخلف أصالة ! و لا معنى لما نروم .. هناك ناس تعتاش على المقولات المفرغة من اي جدوى .. هناك قبليات و اعداء حرس و حراس ظلام .. ترى هل يسمحون بفعل ثقافي جاد ! .. البديل الثقافي الذي أطلقته مشروعا فكريا و مجلة فصلية تصدى لكل هذا ..
من اي نقطة ينطلق الناقد في عملية البحث؟
.. ليست للناقد أية سلطة لا معنوية و لا غيرها ربما هو يسعى لاضاءة رقعة المعنى او توسيعها باعتباره قارئا وسيطا او منتجا آخرا يتخذ من النص الاصلي فرصة او مناسبة من نوع ما لاعادة انتاج نص محايث او موازي اذا صحت التسمية .. ما يشاع اليوم هو نوع من الكتابة الصحفية العابرة و البسيطة لكنها تسمى نقدا ! و ترتب لنفسها نوعا من السلطة على النص و منشئه ! انطلاقا من الجهل بمهمات الممارسة النقدية التي ينبغي ان تلامس النصوص ملامسات تفاعل و تحريض و تبادل الحث و الالهام و ليس بين الطرفين اي تراتب او افضلية انما العملية تثاقف يحتاج المبدع و الناقد معا ،،، هذا عن النقد التطبيقي او الاجرائي اما عن النقد النظري فالمشكلات تطول و تتعقد بفضل غياب المناهج المرتبط بغياب نظرية المعرفة او الدرس الفلسفي الذي تراجع منذ قرون طويلة
اي فسحة الناقد فيك للشاعر؟
ج .. بدءا أنا انطلق من مصهر واحد له وجهان ،، الاول هو العفوي الممزوج بالخيال و المسمى شعرا بينما الثاني هو وعي التجربة الشعرية و مراقبتها مراقبة منضبطة بقوة المعايير الفنية هذه المرة و اعني النقد .. لا تصادم أبدا رغم علمي ان ظاهرة الشاعر الناقد نادرة تقريبا و هي لا تُفتعل افتعالا كما يحدث اليوم بل هي تنمو عضويا و تتكامل مع الوقت .. اكيد وقت الشعر غير وقت النقد .. وقت الشعر استرخاء في الشرفة بينما وقت النقد هو التدقيق في ريازتها و ابعادها ! .. للنقد وجهان ايضا ، فن من جهة لغته و علم من جهة انضباط معاييره و مصطحاته ،، في السنوات الاخيرة تحولت من النقد الادبي الى النقد الثقافي و الفارق اكثر من واضح ،، ثم الولوج الى الفكر من باب نقد الانساق الذي استدعى نقد المقولات القارة و الانتقال من الموضة الشائعة اعلاميا : نقد المثقف الى الابعد و الأعمق بل و الأخطر ايضا : نقد الثقافة بضمنها المجتمع و السلطة و الكهنوت ،، هذا التحول رافقه إعتزال كتابة الشعر عبر بيان نشرته على صفحتي في الفيس ٢٠ / 3 2018 و في يوم الشعر العالمي تحديدا .. هنا لم يمت الشاعر بل اختفى إجرائيا لصالح المعرفة .. انقاذ الجمال أهم من صناعته مجددا كي يضيع ! في البديل الثقافي بررت كل هذا كما أوضحت كيف يمكن ان اكتب الفكر بلغة شاعرية او مشعرنة اذا صح القول .. كتبت عدد من الشذرات مثالا على هذا المنحى : الحامل شعري و المحمول فكري .. انا اعتقد ان الثقافة بمجملها هي كل هذا ،، ما نقوله و ما لا نقول .. كل الخطابات ، كل الهواجس ، بيوض معنى تحتاج الى حاضنة تفقيس ! .. لكن العراء فادح و المرايا صدئة ! نحن ازاء اورام و عُقد و طرق مسدودة و أعداء حل كما أسميتهم في كتابي ، الأزمة المفتوحة ،، هنا نحتاج النقد الشامل و النص المقاوم اذا جاز التعبير
هل هناك تناسب بين غزارة الانتاج و جودته؟
ج .. بالتأكيد لا علاقة بين الجودة و الغزارة .. هناك شعراء كثر اغزر نتاجا من المتنبي مثلا و في عصرنا الحديث أقل الرواد نتاجا هو محمود البريكان بينما ينطوي شعره على معان قلما توفرت في غيره .. قلة الانتاج الادبي احيانا دليل تمهل و تأمل و استبصار و لربما ترتبط الغزارة بالهاجس الاعلامي لدى اغلب الشعراء لكن هذا هذا الهاجس يخفت لدى شعراء التأمل او التجربة الشخصية .. البصمة التي لا تنخرط ضمن ، قطيع ، شعري ! و بالتالي هي أصلا لا تصلح للاعلام المؤسساتي بل لا تسعى له ،، في مثل هذا الحال نجد ان الغياب أكثر بريقا من الحضور الذي يعد استهلاكا و نوع من التكرار الممل .. بهذا المعنى يصبح الكم عبئا على النوع و الغزارة درجة من الاستسهال الذي يغييّب الابداع الحقيقي
ما سر الارتباك في المطالبة النقدية للسيرة الذاتية؟
ربما يهدف السؤال الى ايضاح : هل تصلح السيرة الذاتية موضوعا للادب ؟ و المغزى الأعمق .. اي جنس من الادب ؟ أغلب الروايات التي كُتبت تحت هاجس سير ذاتي و قعت في مطب التسجيلية او الأرخنة مما يعني لو ان الكاتب كتبها سيرة لا غير دون تجنيسها بوصفها رواية لكان إفضل اما في الشعر فمن الأصلح ان تكون مبثوثة في النصوص و يعتمد هذا على براعة الشاعر و خبرته في تطويع يوميات حياته موضوعا شعريا .. الانتقال بها من الخاص الى العام عبر مصهر فني يمنحها هذه الصفة .. عالما هناك ادب سيرة مهم و راقي كالذي كتبه الروائي غابريل غرسيا ماركيز او نيكوس كازنتزاكي و سواهما .
ما سر الارتباك في المطالبة النقدية للسيرة الذاتية؟
ربما يهدف السؤال الى ايضاح : هل تصلح السيرة الذاتية موضوعا للادب ؟ و المغزى الأعمق .. اي جنس من الادب ؟ أغلب الروايات التي كُتبت تحت هاجس سير ذاتي و قعت في مطب التسجيلية او الأرخنة مما يعني لو ان الكاتب كتبها سيرة لا غير دون تجنيسها بوصفها رواية لكان إفضل اما في الشعر فمن الأصلح ان تكون مبثوثة في النصوص و يعتمد هذا على براعة الشاعر و خبرته في تطويع يوميات حياته موضوعا شعريا .. الانتقال بها من الخاص الى العام عبر مصهر فني يمنحها هذه الصفة .. عالما هناك ادب سيرة مهم و راقي كالذي كتبه الروائي غابريل غرسيا ماركيز او نيكوس كازنتزاكي و سواهما .
هل بالمكان ان تنهج كسبيل اجرائي للتعبير عن الرؤية النقدية؟
يذهب تعبير ( الرؤية النقدية ) الى تأشير فداحة غياب المناهج و بالتالي أزمة المعالجات و اقتصارها على مقالات في الغالب ( إخوانية ) لا تمت للنقد بصلة و المثير ان هناك موجة غريبة من الاستسهال ساعد عليها و شجعها الاعلام المفتوح او وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت ( سبورة ) كبيرة و مجانية بلا معايير و لا اهمية تذكر .. اما عن كثرة النتاج و تخمة سوق الكتب اذا صحت التسمية فهذا موضوع اخر .. الكل يكتب و لا أحد يقرأ لاحد ! حفلة صراخ لا تمنح فرصة للاصغاء ! و المؤسف ان الكثير من مؤسسات الثقافة كما تسمى ترحب بمثل هذا المنحى من النتاجات ( الترفيهية ) المكتوبة بقصد تزجية الوقت لا تحريض او ملامسة الاسئلة الكبرى للانسان و أزماته المتلاحقة ٠
الرؤية النقدية ضرورية لبناء المجتمعات؟
ما دامت الاشياء تحمل نقصها بالضرورة اذن لابد من الممارسة النقدية التي تستبصر الاكتمال او تحاوله في أقل تقدير ،، كل التجارب الشمولية التي قدمت انموذجا صلبا لا يمتص رحيق النقد انهارت في النهاية بل قّدمت انموذجا مضادا اقصد انموذج فشل لا نجاح .. في كتابي ( اساطير الاستبداد ) كنت ضد النمذجة لانها تدعي الاكتمال و كل دعوى من هذا النوع تعد طاردة للفعالية النقدية و تصويباتها .. هناك تعبير للناقد كمال ابو ديب ( الوعي النقدي الضدي ) أجده مهما في هذا السياق و ضرورة من ضرورات البناء سواء على مستوى الفن او الحياة برمتها .. يمكن القول اننا نكره الانتقاد ! و الانتقاد مفهوم أشمل من النقد بوصفه تعبيرا فنيا ، سبب هذا الكره أننا ننوي ضمنا تكرار اخطاءنا ! و بالتالي فأن أي ملاحقة نقدية نعدها نكدا و تنغيصا ! .. ها انا اتحدث عن الناقد الاجتماعي و هو اوسع وظيفة من الناقد الفني
برأيك ما موقع الفعل النقدي من العملية الابداعية؟
الفعل النقدي احيانا رديف او موازي خاصة اذا كان المقصود بالنقد التطبيقي الذي يستلزم بالضرورة أسبقية النص الأبداعي فيأتي النقد نصا على نص كمال يقال و لكن ليس بمعنى التبعية بل الاسترسال و الاضاءة ، هذا جانب اما الجانب الاخر فهو النظرية النقدية التي تسبق و تؤسس مسارات الابداع قبل ان ينبض في وجدان الكاتب او الاديب لذا فالعلاقة عموما تكاملية لصالح النص و المتلقي معا .. بامكان اي متلقي ان يوسع فهمه حول النصوص التي يقرؤها من خلال قراءة الأطاريح النقدية التي تدور حول هذه النصوص ّ
الشعر كفن جمالي هل يمكن اخضاعه للتنظير ؟
.. النص بوصفه ممارسة وجودية و لغوية حرة تسبق كل تنظير و حسبنا دليلا ان الشعر العربي برمته كُتب جاهليا قبل ان تؤصل مفاهيم البلاغة و اللغة .. النص اولا لكن بالتأكيد هناك تراكم خبرة لدى الشعراء المعاصرين ،، وجدوا انفسهم مسبوقين بتراكم نقدي نظري يؤسس قاعدة عامة لفن الكتابة عموما .. هناك شيء اخر على صعيد الممارسة النقدية تطبيقا بمعنى عدم اهمال مبادرات النص غير المحسوبة نظريا ! الامر الذي يمنع تقويله ما لم يقل .. لكل نص مبادرات خاصة به ، غير مطروقة .. تضع سؤالا امام المنهج التطبيقي بل تشكل احراجا مؤقتا للناقد ،، تظهر خبرته في تفاديه او تكييفه .
ما موقفك من ……. شرعية قصيدة النثر؟
.. هناك كلمة مهمة للراحل سعدي يوسف ( قصيدة النثر فتحت باب الاجتهاد في الشعر ) لكن الذي تحقق أقل من المأمول ،، فعلا لابد من تحديث عمود الشعر التقليدي عبر شعر التفعيلة او شعر النثر مع التحفظ على دقة الاصطلاحات و تداخلها لكن كيف ؟ كيف يختمر النثر شعرا ؟ كيف نحرض طاقة الشعر في النثر ؟ لنصل الى قصيدة .. هناك في التراث نثر صوفي بلغة شعرية ،، الخطاب القرآني على صلة من كل هذا ،، هناك بوادر أولى تصلح للبناء عليها و التواصل لكن بخبرة .. مثلا .. الموسيقى العروضية او البحور هي التي تمنحك خبرة بالايقاع او النبر ،، المشكل هنا ان كتاب قصيدة النثر أغلبهم لم يمروا بمرحلة الموسيقى العروضية و بالتالي فهم لا يعرفون كيف يكون الايقاع و من أين يأتي ! لا دراية لهم ببناء الجملة اللغوية بناء شعريا بل يكتبونها كما تكتب المقالة ! .. لا فكرة لهم عن التكرار بقصد التوازي الايقاعي او احداث نوع من النبر الخفي في الجملة النثرية المحايثة للشعر و بحسب تعبير التوحيدي ( خير الكلام ما كان نثرا بجوار نظم ) هذا النوع من التناثر يحتاج الى شاعر مثقف لغويا و جماليا .. قصيدة النثر قصيدة ليست بلاغية بل هي قصيدة مثقفة اذا جاز القول .. بلاغتها من نوع آخر .. دهشتها في هذه الكيمياء التي تتغيير باستمرار مما دعا البعض الى الادعاء بان لا شكل لقصيدة النثر ! و يقصدون هذه الحركة الأميبية المتموجة للاشكال .. ترى كم تحقق من كل هذا ! طوابير من الكتاب و النصوص يندر بينهم شاعر حقيقي يشعل النار في كل هذا الهشيم ! .. قصيدة النثر قصيدة مهمة لكنها صعبة و غريبة و حادة .. كأنك وانت تكتبها تعبر على جسر ضئيل يربط المعاني و الدلالات المتماوجة حد الخوف من السقوط في عتمة الهذيان !
ما هي الصعوبات التي تعترض الاديب العراقي؟
ج .. اول هذه الصعوبات عندما يكتشف الأديب يطلق نوارس النص في فضاء مرتد ! يغني في مقبرة ! بحسب تعبيري في بيان اعتزال الكتابة الشعرية الذي نشرته بيوم الشعر العالمي سنة ٢٠١٨ .. يراد من الشاعر او الاديب ان يكون اداة اعلامية لا غير دون النظر الى وظيفته الفنية و الجمالية اما الشاعر المثقف ،، شاعر المشروع لا شاعر النصوص وحدها فان أزمته تكون مضاعفة .. انا شخصيا حوصرت حتى من الشعراء أنفسهم ! أسميهم شعراء مجازا بينما هم موظفون في مؤسسات هذيانية بلا أية رسالة .. وما حدث للبديل الثقافي بعد انتحال مقولاته من قبل مؤتمر طنجة العام الماضي يكفي دليلا على تواطيء الوهم ضد الحقيقة ! يتضامنون ضدك لانك لا تشبههم .. هذا جدل القطيع مع التفرد .. و لكن لا مشروع بلا ضريبة .. انا سعيد بكل هذا
ما هو دليل نجاح المشهد الثقافي ؟
.. كثرة المتواجدين لا تعني نجاح المشهد لسبب بسيط ان مشهد الثقافة ليس ملعبا لكرة القدم ! ولا حفلا ترفيهيا كما يحدث اليوم اذ ان اغلب الفعاليات ذات طابع اجتماعي ترفيهي و ليس ثقافي بالمرة ، بل هو ، اعني المشهد ، فضاء جمالي يراد منه ترميم الانسان و تعميق وعيه بذاته الانسانية السامية .. مشهد انتاج حلول في وقت الازمات .. مشهد احتجاج ضد القبح و الفساد .. هذا هو النجاح و هذه مقاييسه و رسالته .. الى وقت قريب كان هناك شيء اسمه الفكر الادبي ، اختفى الفكر و بقيت الثرثرة ( الادبية ) .. قصائد آخر الليل ! و همسات مغدورة لا تصلح أدبا .. ليس كل مشاعر تؤدي الى شعر ! لكل الناس مشاعر لكن ليس كلهم شعراء .. المجانية باب كبير لاختلاط المفاهيم .. اليوم نحن بلا مشهد ثقافي حقيقي الا ما ندر .. الغالب هو الفعاليات الترفيهية السياحية بأسم الثقافة المغيبة ! الأمر الذي أوجد طبقة طفيليلة من الأميين أطلقت عليهم المثقف السياحي ! حقيبته جاهزة للسفر عند كل دعوة لكن هذه الحقيبة خاوية ثقافيا لا تحمل سوى بدلاته الأنيقة و ماكتة حلاقة ذقن لا غير ! .. المشهد كي يكون يحتاج الى اسماء كبيرة هي الان قيد العزلة !
ما نوع النص الذي يحرضك على القراءة ؟
.. كل نص مبدع يحفزني على قرائته .. للاسف بعض النصوص من سطورها الأولى تشعر بخيبة القراءة و لا جدواها ،، في المهرجانات التي كنت احضرها ثم عدلت عن الحضور منذ سنوات كانت تهدى لي عشرات الكتب من اصدقاء شعراء او قصاصين او نقاد أجد تقصيرا في عدم قراءة بعضها بل اشعر بنوع من الخجل أمام جهد الطباعة المبذول فيها لذلك إقترحت مرة و كي نواكب زخم المطبوعات العراقية ان يصار الى مؤسسة نقدية تعنى بالقراءة و الفرز بمعنى ان نضمن مستقبل الكتاب أيا كان نوعه على مستوى الفحص و الاطلاع و لو بتكليف مؤسساتي كي نتفادى الغبن و الاهمال الحاصل و كي لا تختلط علينا الامور و ربما تضيع كتب جيدة تصلح للقراءة .. مجرد اقتراح لا غير
الشعر و السرد؟
.. الشعر تأريخيا هو الخطاب المهيمن و على مستوى الثقافة العربية قيل ، الشعر ديوان العرب ، و العرب أمة الشعر لكن الغريب أن هذا الحظور المحلي للشعر العربي يخفت عالميا على منصات الحضور ،، الجوائز ،، الترجمات ، و قد ناقشنا هذا المحور في احد اعداد مجلة البديل الثقافي .. اما السرد فهو الأحدث وجودا بالنسبة لنا مما يعني ان الخطاب الشعري يظل هو الطاغي في مجمل الثقافة العربية و لعلنا لا نحتاج دليلا على ذلك رغم أهمية السرد و عمقه قياسا بالانفعال الشعري العابر و الرومانسي في اغلب احيانه
.. ما اسباب تراجع دور المثقف؟
.. اسباب شتى بعضها يعود للمثقف ذاته و بعضها يتعلق بالوسط المحيط او الحاضن ،، لنبدأ بالمثقف اولا ،، تعريفا و هوية .. من هو المثقف ؟ هل منشيء النصوص الكاتب او الفنان ؟ ام ان هذه الروافد الابداعية تحتاج الى روشة اشمل تتبنى اطاريح التحول و التغيير ؟ الثقافة مفهوم شامل لم نحسمه بعد .. نحتاج الى مداولات و جهود مضاعفة كي ننجز الخطوة الاولى .. الثقافة تعني ارادة التقدم و التحول نحو الأفضل سلوكا و أثرا و ليس مقولات عالقة في سماء البلاغة ،، منعزلة بلا تأثير ،، على المثقف اذن ان يفهم رسالته اما بصدد المحيط فالمشكلة اكبر .. المحيط صلد يكره فكرة التقدم ابدا بفعل مؤثرات ايدلوجية ،، قبلية و لاهوتية معا ، يرى في التحول اعتداء على صنمية مفاهيمه و من هنا تتأزم المشاريع الثقافية و يتراجع المثقف في حال وجوده فعلا !
. النقد قائم على الموروث؟
.. في كتابي الصادر عن سلسلة الموسوعة الثقافية و المعنون ( أسئلة النقد ) ناقشت موضوعة المنهج النقدي بإسهاب تستحقه هذه المسألة .. للآن منهجنا ما يزال بلاغي لغوي و هو مرتبط بل منبثق ايضا عن الدراسات الدينية التي تتطرق لإعجاز النص الأصلي للمقدس ،، و هنا اختلاف وظائف بين هذه الابحاث البلاغية و مقصدية النقد جماليا و أدائيا .. في الدراسات البلاغية يتجه البحث نحو غاية يمكن ان نطلق عليها ايدلوجية بينما النقد منحى معرفي يتطور و يتسع مع امتداد النصوص في الزمان و المكان لا يقع على نص محدد ثابت كما في العقيدة الدينية .. السؤال الان : هل مناهجنا كلها مستوردة ! تعاني هجنة و ارتباك منهجي ؟ و اذا كان الامر كذلك اين يقع الناقد من كل هذا هل هو مستهلك محض ؟ واذا كان كذلك اين يقع النص من هذه الفعالية الرتيبة ؟ هل للنقد منهج محدد ام هو تكاملي يغترف من المناهج حسب حاجة و استدعاء النص ؟ في كتابي المذكور توصلت الى حقيقة ان المنهج للناقد ، هو حر في التوليف و عدم التقيد كي لا يلوي عنق النص كما يقال او يقوّله ما لا يقول ! و هنا النتيجة أقسى .. في جلسة شخصية مع الناقد المصري صلاح فضل أنكر علي فكرة المنهج التكاملي او منهج الناقد مفسرا ذلك بأني أنطلق من كوني شاعرا و ليس ناقدا أكاديميا و في هذا لي أكثر من رأي اولها انّ ، فضل ، ينكر هنا حقيقة ان النقد ابداع متحرك قبل ان يكون درسا جامدا و ربما توجهاتي الشعرية تمنحني صفة مضافة في دراسة المنهج كوني أعاني التجربة من داخلها شاعرا قبل أن أتأملها ناقدا .. بالعموم لم نصل الى تراكم نقدي يوازي تراكم النصوص التي وصلت حد التخمة و الاسباب شتى .. اختزلت بعضها بكون المنهج النقدي يحتاج الى ظهير معرفي او فلسفي و هو ما نفتقده لاسباب ايضا الأمر الذي يوسّع نافذة الاستهلاك و الترجمة و استيراد المناهج التي تبدو احيانا قناعا جاهزا لا يلائم وجوهنا !
… لا سؤال .. فقط الختام
ختاما أقول : من ينقذ كل هذه الكتابة ،، هذا الحراك من نفق اللاجوى ! في العراق تتقدم الأنساق المعادية للتقدم و المناكدة للجمال و الدهشة على كل فعالية و الاسباب كثيرة ، اجتماعية في أغلبها تتمظهر ساسيا او كهنوتيا .. ثمة احباط عام علينا ان لا ننكره و لا نتعالى عليه من باب ان الأعتراف بالمشكلة جزء من حلها و اللإعتراف يعني معاداة الحل ! .. بسبب كل هذا تعالت مقولاتنا في مشروع البديل الثقافي ،، مشروع الوعي النقدي المحاصر بالبلاغات الادبية التي اصبحت اليوم عائقا ثقافيا لا رافدا للثقافة ! اليوم .. نحتاج الثقافة بوصفها حراكا نقدية و ارادة تحول أكثر من التطريب البلاغي الأدبي لاننا في أزمة حقيقية و المأزوم لا يغني حتى تنتهي أزمته ! أليس كذلك ؟
*- نشر الحوار أيضا في جريدة أوروك