وديع شامخ
……
للوهم تعريفات مختلفة وفقا لحقول اشتغاله ، وتتباين مقبوليته في مدار الحقل ولاعبيه ومتلقيه ، فالوهم في السينما مشروع فني وتقني ، لغرض خلق مشاهد جمالية مؤثرة للمشاهدين باستخدام وسائل ايهام تقنية وفنية مختلفة ، لغرض إيصال رسالة الفلم بشكل يتلاءم مع رؤية المخرج وجهات الإنتاج وغاياته ، وهذا وهم لا يرتبط شرطيا بسلطة تُسوق الوهم بالمعنى السلبي .
في المسرح يحدث نوعا من الوهم، يقوم بدوره الُممثل أولا ، وهو ما يسمى
” بالتقمص..، Empathy“
” ، أي أن المخرج يجعل الممثل يوهم المتلقين بأنه بالفعل تلك الشخصية التي يقدمها على المسرح
،” وفقا لنظرية “ستانسلافسكي” ، وهي تجربة وأسلوب جمالي لا تمارس أيّة سلطة فكرية خارج حدود العرض ، ووقوف الممثلين على المسرح نهاية المسرحية لتحية الجمهور .
والوهم في أبسط تعريف له هو ، غياب الفعل الحقيقي للعقل في السؤال ، والتسليم بأقدار تتراوح سلطتها بين الدنيوي والسماوي والجمالي . ، وسيكون الموهوم مادة خصبة لتنفيذ سياسات ونوايا واستراتيجيات منتظمة لتغييب العقل والمعرفة عموما .
……
” الأخ الأكبر” نموذجاً
من ابرز ما تفرضه استراتيجات الأنظمة الشمولية الديكتاورية والثيولوجية والقومية والعائلية ، هو مبدأ التثقفيف السلبي للعقل ، أو بمعنى آ خر هو ممارسة قمع العقل المعرفي واستبداله بمخ عاطل عن العمل .
ولكي نقدم أمثلة واقعية ، سأتوقف عن عمل روائي استشرف هذا الفعل في رواية ” الأخ الأكبر ” للروائي جورج أرويل ، الذي قدّم تصورا مذهلا عن صناعة الإنسان الميكانيكي ، الخالي من طاقة العقل والمعرفة ، الكائن المسلوب الارداة والمنقاد الى مصيره بارادة قوى المراقبة والمعاقبة ، يمتلم مفاتحيها ” أخ أكبر ”
الكائن الريبورت ، الخاضع ، المُنفذ ، كأي قطعة في ماكنة جبارة تقود الحياة البشرية الى مصائر ، يحددها الأخ الأكبر وعقيدته الفكرية ، ومنظومته العملية في التفيذ عبر آليات نفسية وقسرية ، تتعدد وتتنوع وفقا للكائنات المراد تدجينها ، لخدمة المخططات الكلية للقائمين على انتاجها وفقا لهرم سلطاتهم ، وتحت اشراف مباشر من قبل الأخ الأكبر، وهذا ما تم حرفيا من قبل فلاسفة علموا الحكام على الوصول الى الغايات بكل الوسائل ” كتاب الامير لميكافيلي مثلا ” ، وهكذا مهد فيلسوف العدم الألماني ” نيتشه ” للدكتاور هتلر في متلازمة الإنسان السوبرمان وموت الله ، ليصيغ منها هتلر ومنظومته العقائدية ” سر الدم الألماني الأزرق ” وتفوقه على قيادة العالم ، ومثله كان مجانيين آخرين مثل ” ستالين ” في روسيا / وصدام حسين في العراق / كنموذج قومي متخلف وعشائري أشد تخلفا في تصدير الوهم بشقيه العقائدي والبوليسي ..
والأمثلة كثيرة عن هذا الوهم سياسيا وقوميا وعقائديا ودينيا وووو، . ولا شك أن لكل واحد منا أخا أكبر وفق حدود ايمانه بقوة العقل كأداة المعرفة ، وليس كمخ خانع في حضيرة القطيع .
…..
الكلي المعرفة وحرية الإنسان
……
واذا كان المثل ” نصف العلم لا أعرف ” بسذاجته الواقعية المغلفة بالتواضع ، فسيكون الوهم هو ” لا اعرف ، ولا اريد أن أعرف ” ، لأن المعرفة هي التي فتحت عيني “أدم وحواء ” لمعرفة شجرة الخير والشر ، واسرار الخلود ، وجهور الله أيضا .، فكان ثمن المعرفة العُريّ ، والهبوط من جنة السماء الى امتحان الوجود في داخل كرتنا الأرضية ، لذا فالخطاب التكويني الأول يمثل نوعا من التنمر البشري ضد ارادة الله ، وهذا انتصار لمعادلة الصنو المعرفي الى الله ، و ميزة نادرة تبدأ الحكاية التكوينية ” التوراتية ” بشكلها النهائي دون الخوض في أصلها التاريخي في سياق التطور العقلي البشري ، لانها تمثل مرحلة النضج البشري في التوحيد ،وكيفية تعامل الصانع مع مخلوقاته البدئية .
ولو طبقنا مبدأ الوهم هنا ، سنجد أن ” أبليس ، الشيطان ، الحيّة ” هو مصدر الإغواء لاجمل واكمل مخلوقاته ، وسوف يوهمها بخرق الوصايا الربانية .. وفي تقديري أن العقوبة الإلهية كانت اعترافا بالعقوق البشري ضد الوصايا ، لذا جاء الإنسان وهو خارج الوهم الشيطاني ، بل في مرحلة امتحان عقلي ونضوج ، خارج الحضانة في جنة ” كانها حضانة الأطفال ” .. بذا سيكون الله عادلا جدا في احترام ارادة البشر في التخلص من الحرام والحلال ، والذهاب الى كرة ارضية لممارسة مهنة العقل ، بوجود الوهم / الإغواء .. اي أن الانسان هنا في معادلة الخيار بين الخير والشر ، وفهمه العقلي الجمالي لمعني الطرفين .
……..
العَلِم و الوهم المقدس
وفي هذا المقام نشير الى مقولة شهيرة للفيلسوف ” ابن خلدون ” ما معناها ” أذا رأيت خطيبا دينيا يدعو المؤمنين للزهد والورع والتقوى ، دون أن يدلهم على الذين يسرقون ثرواتهم ، فهو يشيع الوهم ، الذي يريده الحاكم لتنويم الرعية مغناطسيا بواسطة وهم الدين. .
وبهذا الصدد أيضا يشير كارل ماركس على أهمية الوعي في التغيير بقوله ” إن الفقر لا يصنع الثورة بل الوعي بأسباب الفقر ” ، وهو تأكيد على أن الوهم أفيون الشعوب أيضا ، وليس الدين فقط.
ولكي نتبعد عن المفاهيم القارة لفهم صيرورة الانسان والمجتمع عموما ، ونذهب الى فحص بمختبر العقل والعلم في تفسير الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والساسية والعقائدية والنفسية ، والتاريخية ، عموما والروحانية أيضا ، وفقا لمبدأ تكراريتها ورسوخ نتائجها كقواعد ماثلة، واستخدام المختبرات العلمية ونتائج ثورة علوم الاركيولوجيا أيضا .
وهنا نشأ وهمان ! وهم علمي ووهم روحي .. ترى ما الذي أعنيه في هذه الفرضية الصادمة ؟
في فضاء الحرية التي انتجها النضال الانساني نحو التحرر من سلطة نواب الله في الارض ، وما انتجته البحوث العلمية من مادة مهمة لترسيخ الشك والسؤال في الكثير من البديهيات الوهمية ، وكذلك نشوء سلطة ذات ثقل مادي اقتصاديا كبيرا في تطويع الضد النوعي لمنجزات العقل البشري ، فكان مفهوم الدعوة الى السلفية الدينية ، وخلق منابر صائتة -وممولة بسخاء- لتجزئة الكائن الى هويات طائفية عدائية ، لتحول العقل البشري من مركزية السؤال حول الخلق بين العدم والله ، الى جره الى تعارضات ” وهم ” من خلال البحث في كتب تراثية لا تصمد كثيرا مع المزاج والطبيعة والعقل البشري الآن .
في الجهة المقابلة هناك من استثمر معطيات العلوم في افقها التطبيقي والتجريبي ونتائج الاركيولوجيا كوثائق تاريخية ، وجعلها وثائق لا تقل قدسية عن مفهوم نواب في مفهوم ” المقدس والمدنس “.
بهذه الثنائية المتطرفة ” الالغاء والنفي .. الاثبات !!”
وذا ما كانت قد بدأت في المسرح ومفهوم ” التقمص ” الوهم الذي افترضته ، سوف نجد المبدع الألماني بريشت يقول ” كسر الإيهام
تشكل المفارقة بين المشاهد المتمرد على التقمص والمشاركة في التقمص أساس رفض التقمص. فالتقمص هو استجابة عاطفية زائفة. فهو يرى أن العواطف في المسرح، رغم أنها مرغوب فيها تماما، ليست مفيدة في التأثير في التغير الاجتماعي.”
ولعلي هنا وكأن الله يتفرج على الكائن البشري الذي خرج من طوعه وحرق وصاياه ، هو ذاته الطفل الذي يحتاج الى تجربة حوارية ثانية ، ليس محاولة الوهم في الإحتواء ، وليس التقاتل على تعريف مفهوم ” الوهم ” .. نحن واهمون جميعا .. ولديا رقيب سري ، إلهة لا حصر ، لا تليق بالحوارية البشرية ، ولا في تعدد مداراتها ، وآفاقها ..
الحياة ليست حلبة للتلويح بالجنة والنار ، بالعدم والوجود ، الحوارية ، الفهم ، المعرفة ، الانصات الى الآخر المختلف ، تقبل الآخر ،..
الحياة تجربة لا يخترها الوهم الفلسفي ، العلمي ، والعقائدي .. الحياة مفهوم جمالي شامل ، تتناوب فيها البشرية على صنع حضارات لا تمنع النظر الى السماء ، ولا تتعطل فيها تجارب المختربات وشكوك الانسان ..
الله في المفهوم التوحيدي المتعدد ، وحتى في المفهوم الأحدي ، أو في مفهوم العرفان ، كان المؤول الأول للطبيعة الحوارية ..
وعلى نواب الله جميعا ، وعلى نواب كهنة العلم المقدس ، ان يختاروا قاربا للعوم في محيط شكوكهم ، او مركبة فضائية لنقلهم الى عالم التاج الذات الواحدة .
الحوارية الانسانية هي الوصفة الواقعية لحياة المجتمعات المنتصبة قامة فكريا وجماليا .
ومن اجمل الخاتمة ما حدث به العالم ” باسكال”
«القلب له أسبابه التي لا يعرفها العقل»
ويردف المفكر ” مونتسيكو ” بأن العدالة هي ” فصل السلطات ”