صلاح فايق
ينبغي الاحتفاءُ بالشاعر وديع سعادة بين عمال مناجم ، فهو أحدُهم . الفرقُ بينهما هو هذا :
هم يحفرون في أعماق الأرض.، هو يحفر في الهواء ، الذاكرة الشخصية والجماعية ،يحفر ظله ويطلق مخياله ليجلب ما في الشعر من كنوز : المشاهدَ الصادمة ، الصورَ ، وحكايا غريبة.ماذا يريد ؟ يريد اللؤلوءة . حصل عليها لكنه مازال يبحث ويحفر من أجل ماهو اجمل وانبل وأكثر ماثرة . هكذا يمضي من قصيدة إلى أخرى ومن كتاب إلى كتاب ، وسوف يَخرج حصانٌ من إحدى قصائده ، يحمله الى البحر ، حيث سيجلس ليغني او يقرأ لنملة ما طاب. أؤيد ذلك ، فهو يستطيع لأنه شاعر .كنت سأكون شاعراً أفضل لو أنني قرأت شعر وديع سعادة قبل ربع قرن أو أكثر . لكني لست محظوظاً أو لم أكن . كنت بلا كومبيوتر ، بلا كتب ، بلا سفر إلى أي بلد وتطلّب تعلمي تشغيلَ هذا الجهاز الساحر واستخدامه فترةً أخرى وفي بلدة عند أقصى جزيرة من هذا العالم ، تعجّ بقراصنة ورهبان يائسين ، وأمام محيط يتباهى بحيتانه واسماك قرشه الشرسة.هذه حقيقة الشعراء يغتنون بأشعار بعضهم ومن آخرين في قارات بعيدة . ذلك لأن الشعر مع أنه تجربة فردية متميزة ، إلا أن هذه التجربة مفتوحة ، بكرم ، من قبل الشاعر ليتمتع بها ويتعلم منها من يرغب ويحتاج .كثيرون يدخلون إلى غابة الشعر عبر بوابة لامرئية ، هذه الغابة حافلة بأصوات وأشباح ، غير أن قلة تخرج وقد تعلمت كيف تلتقط المأثرة . وديع سعادة خرج حاملاً مآثر ، خرج شفافاً وصامتاً. وفي هذا الصمت ، كتاباً بعد كتاب ومنذ أربعين سنة ، يعرض مشاهد ويدعو إلى مشاركتنا فيها . أستطيع أن أقول ، بفرح ، ان في مقدوري وضع يدي على قصائده حتى دون أن يكون اسمُه عليها . أعرفها لأن تجربته الحياتية ، في الطبيعة والمجتمع ، وصِيَغَ تعبيره متفردة وتشير إليه . إن شاعراً بلا تجربة حياتية غنية ، لايستحق هذا الاسم . في معنى آخر ، إن قراءة مئات الدواوين والقصائد لن تفرز شاعراً معتبراً . هو يكتشف العالم بلا طريق . في الأعالي غيمة تشبه يدَه ، والمراكبُ من بعيد تحولت إلى نقودِ عميان . تذهلني هذه الصور من كتابه الأول . هي ليست لغة أدبية وانما كلام يومي ، محمّل بخبرة إنسانية وجمالية . في هذا الكلام ، حتى الوهمُ يظهر في شكل جدير بالإجلال ، ويغدو في النهاية حكمة . اللابطولي يصير بطولياً . شعره دفاع عن قيم حضارية في مقدمتها دفاع عن الحرية الفردية . ننسحر بمشهد شعره لأنه يصنع ميثولوجيا من حياة واقعية ومتخيَلة . هذا ليس غريباً ، فقد جلس طويلاً ، يقول ، في مقهى الماضي. تأمل ورأى . الشاعر يرى وهذا من خاصيته ، الآخرون يشاهدون. في شعره لا يعبّر أو يصف . يكتشف عالماً مختلفاً أو يخلقه ، ليفاجئنا . السخرية ، المفارقة ، حالات إنسانية مفرحة في شعره ، مدافعاً عن كرامة الانسان وكبريائه . يختصر تطلعاتِنا ، خيباتِنا وبطولاتِنا في صفحة . يفتح أبواب الليل على بهاء الجمال، وفي صوته أنغام.
شخصياً وجدتُ في وديع سعادة ليس فقط شاعراً متميزاً وإنما أيضاً صديقاً رائعا . ساعدني في أمور الانترنيت ورتب لي صفحة لكتبي الشعرية ، ما أتاح لي صداقاتٍ جديدة وإحياءَ أخريات.
للتعبير عن امتناني لصداقته وشعره ، أهديته قصيدتين ، أعرضهما هنا :
أرى سنواتي المقبلةَ في أحجار الوديان
في غرفِ فنادق مهجورة .
تجولتُ في قطارات ، لحستُ عشبَ البراري
ليتآلف هذا الجسدُ والماضي الذي يهرب .
ليس لي الآن غيرَ كرسي وطاولة
بينهما رجل عنيد يتخيل جمجمته معروضة في متحف
أو في دكان لبيع تحفيات.
بائعة جميلة تشرح ، وهي تبتسم ، ماضي هذه الجمجمة
” إنها لدافنشي ” ، تقول
يصدّقها أحدُهم ، يشتريها بحزمة دولارات.
****
إنني بلا أحفاد وسأختفي إلى الأبد
مثلَ جدول لا يراه ، لا يعرفه غيري.
سأكون في سرب لقالق ، ضمن نافخي أبواق
وبين عمالٍ يحملون بيانو الى فناء بيت.
****
هل قلتُ بأنني كنت سأكون شاعراً أفضل لو أنني قرأت وديع سعادة منذ زمن بعيد ؟ أظنني قلته في مكان ما !
*- شهادة ألقيت في حفل تكريم للشاعر سعادة في سيدني قبل سنوات