جمال جاسم أمين
في البدء لابد من الوقوف عند عنونة ( مكاشفات ) بإعتبارها الممارسة الأندر و الأقل حضورا في فعالية الكتابة عموما خاصة و أننا نعرف أنّ اغلب ما يكتب على سطح المشهد العام هو ممارسة أفقية لا تنحت سؤالا مغايرا أو تتوخى رسم بصمة ما بل تسعى الى تكريس السائد عبر تكراره ( الأمين ) و نقصد هنا أن فعل التكرار لا يتضمن أي جدل أو مجازفة من نوع ما ! بل هو تفعيل و إستعادة أو استرجاع ما تم الإتفاق عليه و فحصه فحصا تاما الى درجة الإجماع تقريبا بينما تتضمن المكاشفات طرح و مداولة المختلف ! اللامتفق عليه و اللامفكر فيه ، هذا الحقل يتحمل الجدل ، القبول و الرفض ، زحزحة منظومة المصالح بضمنها الأدبية و الثقافية .. المكاشفات دعوة للتبصر و إرباك البديهي و السائد ببسالة السؤال . يقع هذا المنحى في الصميم من أفكار مشروع ( البديل الثقافي ) الذي إنطلقت عربته التنويرية منذ أول مقال نشر في صحيفة ( الأديب ) العدد (80 ) في 13 تموز 2005 وكان عنوانه بالضبط ( مفهوم البديل الثقافي و تفكيك فكرة المؤسسات ) .. سكّة طويلة إستغرقت مسافة 18 عاما تخلّلها إصدار مجلة ثقافية فصلية بالعنوان ذاته ( البديل الثقافي ) و بتمويل تكافلي صعب و عسير لكنه لم يكن الصعوبة الوحيدة بل هناك ما هو أهم و أعمق نذكر مثلا: 1- إستقلالية الخطاب الثقافي للمشروع برمته في وسط منحاز و متحزب حدّ النظر لكل ( مستقل ) نظرا مريبا يصل أحيانا الى حدود ( التهمة ) ! أية تهمة ! و هنا نوع من القسوة : هل الإستقلالية تصلح أن تكون تهمة ؟ هذا ما عانيناه وهو سر صعوبة التمويل على طول المسار .. من يموّل المشاريع المستقلة ؟ بل يعتبرونها في الغالب عبثا أو جهدا عابرا لا يخدم منظومة المصالح ، ينبغي التنويه هنا الى أهمية ( المستقل ) عندما نتجرد من عقلية ( الجماعة _ القطيع ) ! .. المستقل غالبا بلا مصالح ضيقة لأن هذا النوع تحققه الجماعات بطريق أسهل ، المستقل أوضح من غيره ، يصلح أن يكون مرآة إزاء صدأ مشهد التكتلات ! المستقل إختار خساراته التي تستحق التقدير ! 2- البديل الثقافي مشروع فكري معرفي في وسط أدبي بلاغي أو شعري بالتحديد ! (1) ربما يشكل هذا المنحى صعوبة غير منظورة ! متخفية بعض الشيء لا تظهر الا حين تمتحن المواقف الفكرية بعمق ، الأدباء عموما غاياتهم جمالية بينما للمشروع الفكري تماسّات مع الحياة عموما ، السلطة و المجتمع و اللاهوت ! كل هذا لا يمت للبلاغة الأدبية بصلة ! ذلك أنّ التدوين البلاغي يتوخى التجويد الشكلي سواء على الورق أو المنصة ! 3- هناك صعوبة أعمق على هذا الصعيد تلامس جوهر التجربة سواء كانت أدبية أو فكرية عامة وهي عدم أصالة هذه التجارب بل هي نتاج ما يسمى ب ( الهندسة العكسية ) لتجارب أخرى (2) ، مغمورة أو محدودة الانتشار بفعل انشغال المشهد بالضجيج و اللامجدي ! .. هنا يتأزم الموقف الثقافي المراد من أسماء ليست منتجة أصلا بل هي صدى باهت لمنتجين آخرين ظهرت مثل هذه المفارقة بعد السكوت المريب إزاء الإستثمار غير المشروع للمشروع الثقافي العراقي ( البديل الثقافي حصرا ) في مؤتمر ( ثويزا ) المنعقد هذا العام في ( طنجة ) المغربية و بحضور عدد من الاسماء ( الكبيرة ) بحسب توصيفات الإعلام الثقافي العربي . و للأمانة إنبرى عدد من الشعراء و الكتاب الذين نعرف صلتهم بالمعرفة و المنظومة الثقافية الرديفة للادب المحض و هم ( أقلية هائلة ) قياسا بحجم الوسط الأدبي و سعته بحسابات الأرقام حيث أدلوا بشهادات شكّلت علامة فارقة على شاشة المشهد الثقافي العراقي و العربي كما أنها ساعدت في فضح أوهام الثقافة العربية و واجهاتها الخادعة و لعل سمة ( المحو ) بحسب توصيف د. سافرة جميل ( إنّ ثقافة المحو ثقافة راسخة في الفكر العربي )(3) هي أبرز السمات و أكثرها خطورة على ثقافة باتت تأكل نفسها بنفسها من حيث تدّعي أنها حيّة و قادرة على إنتاج بدائل في لحظة مأزومة كالتي نشهدها الآن . و الأغرب من كل هذا أن المثقف (الملفّق طبعا و ليس الأصيل ) صار يتعلم من السياسي الراديكالي كيف يمحو وجود مشروع راسخ في جهة ليست بعيدة عنه ! عبر مشهد تمثيلي ( مهرجان سطحي ) يدعو الى السخرية ! لا نحتاج الى تأكيدات كثيرة بصدد مشروعنا ( البديل الثقافي ) على مستوى السبق الزمني أو التوثيق حيث هناك مشروع واضح المعالم و جملة أفكار و مجلة برقم إيداع قانوني و مقالات متلاحقة منذ التأريخ الذي ذكرناه وهو (2005) بل أننا نحاول الآن إيضاح العمق النظري و الفكري قياسا بسطحية ما تمّ طرحه في (ثويزا ) 2023 حيث لا شيء سوى تهويمات إعلامية و إجترار مفاهيم طرحنا ما هو أعمق منها في بياننا التأسيسي المنشور في العدد الأول من مجلة ( البديل الثقافي ) الصادر في أيلول 2005 و المعاد نشره في جريدة ( الزمان ) 7/ 3/ 2009 .. إذن للبديل الذي أطلقناه ليس سمة السبق الزمني وحده بل عمق المفاهيم التي طرحها و مغايرتها للسائد و بما يجعلها مطالب حيّة نابضة تغري ( الآخر ) بإنتحالها عبر ممارسة لا تمت للتلاقح الثقافي بصلة و لا ينفع في تبريرها مقولات بائدة من قبيل توارد الخواطر أو ( الحافر على الحافر ) ! ذلك لأنّ المشاريع الفكرية ليست ( خواطر ) عابرة يتبادلها الحالمون في شرفات الوهم بل هي منظومة أفكار و متوالية أسئلة تصدر عن وعي حاذق و منظم ( لا حافر ) و لا غيره في زمن الأنترنيت الذي صار فيه إنتقال المعلومة و إنتشارها بسرعة البرق ، لسنا في صحراء مقطوعة التواصل كي نتحدث عن ( الحافر ) و هو مفهوم يخص الشعر دون غيره و تمّ إطلاقه في سياق شعري و في بيئة صحراوية منقطعة ذات يوم سحيق . لنتأمل بعض مفردات مشروع البديل الثقافي و عناوينه العامة التي غابت عن تلفيقات مهرجان ( ثويزا ) لنعرف بعدها أنها منظومة أفكار مترابطة و متراصة لا يمكن أن يقع فيها التوارد على إفتراض من يفترضه تمويها للإنتحال الواضح و المقصود : _ فصل ( البديل الثقافي ) فصلا واضحا بين المعرفة و الأيدلوجيا و كشف طرق إشتباك السلطة بالثقافة عبر تحويلها من فعل معرفي منتج الى إنفعال إعلامي عابر ! يتم غالبا مثل هذا التحويل من خلال إفراغ الأنشطة و الفعاليات من بلاغة السؤال و الإكتفاء بالإحتفال الذي تنشّطه مؤسساتنا ( الثقافية ) لصالح إستبداد السطات و وثوقيتها ، أنتج هذا كله عسر التمويل و صعوبة الهضم و المرور في أفق متخم أيدلوجيا ينظر للمعرفة نظرة إتهامية شزرة ! _ إنبنى على هذه المهمة إعادة توصيف المثقف و الثقافة و تحويل الأهتمام من ( نقد المثقف ) بطريقة صحفية سهلة و عابرة الى ( نقد الثقافة ) عمقيا بإعتبارها الحاضن الأساس لكل المخرجات بضمنها ( المثقف ) نفسه / ضحية الثقافة و إبنها المعاق ! _ فضح الكهنوت الثقافي ! العاطل عن الفعالية و الحاضر في ( طقوس ) المهرجانات و الأنشطة المعزولة عن فعل التأثير العام للحياة و المجتمع و هي بهذا تشبه ( الكهانة ) الطقسية و المنعزلة أيضا ! صلاة ميتة و حزمة تراتيل تشبه تمتمات الكهنة في الأديرة و التكايا ! حيث لا أفق منتظر ولا أثر على الأرض . _ تفعيل ( علم الإجتماع الثقافي ) و دراسة مقولات الثقافة بالعودة الى مرجعها الحياتي الفاعل . _ تفكيك فكرة المؤسسات معرفيا و التنبيه الى إحتمال أن يتحول الكلام ذاته ، اللغة ، البلاغة الى مؤسسة منقطعة الصلة بخارج قوانينها الداخلية و محيطها العام ، يحصل هذا عندما يصبح الأدباء جمهور الأدباء ! حيث لا أحد خارجهم . ولا شيء غير الكلام يجّر الكلام ! _ تأثيث ورشة النقد الشامل ، نقد الذكورة / الإستبداد / المركزيات / الإصوليات بأنواعها ، وهو بهذا المنحى غادر التنويم الأدبي البلاغي الى صحو المساءلات المعرفية المثيرة للنكد النافع ! بدلا عن الإمتاع العابر و السطحي . _ تأكيد أهمية المقاومة الثقافية إنطلاقا من أنّ فضح القبح مهم لتتمة إنتاج الجمال و حمايته ، الأمر الذي إستدعى نهوض ( الناشط الثقافي ) أو الفاعل بإعتباره ( مفكر أزمة ) قادر على جعل الثقافة ممكنة في ظل ظروف صعبة و عسيرة لا توحي بمثل هذا الإمكان ، و في المشروع تفصيل لمواصفات هذا الفاعل أو المكر دفعا للإختلاط مع ( المثقف السياحي ) الداعم للأزمة لا المتسائل أو المسهم في حلّها . كل هذه الأفكار غابت عن مؤتمر ( ثويزا ) ليحضر التسطيح الإعلامي العابر و الأسئلة التقليدية بدلا عنها و قطعا لا مقارنة بين الأصيل و المزيّف. ……………………………………….هوامش
1_ صدر مثل هذا التنبيه بشكل أدق عن الكاتب ( حيدر الاديب )2_ الهندسة العكسية في الشعر / سلام محمد / ثقافية الصباح /3 نيسان 20233_ مشروع البديل و ثقافة المحو / د. سافرة ناجي / شبكة الانترنيت