ريم حبيب
عندما ظهرت خالدة سعيد في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية مطلع الستينيات والسبعينيات، احتلت موقعها كناقدة متميزة، مختلفة ومخالفة للنمطية التي كانت سائدة في كثير من شعر ونقد تلك المرحلة؛ فانشغلت بمهمة الفهم الجديد لرسالة الشعر، وتبني قصيدة النثر بوصفها نوعاً مستقلاً يتعين في مستوى فكري معرفي مفارق تماماً للمستوى الوصفي الشكلي، مدافعةً عن حرية الشاعر المجدد، مؤسسةً لشراكة سحرية مع القارئ على أنه عينٌ ثالثة مثقفة وفاعلة، فأطلقت عليها الصحف العربية (أيقونة النقد العربي الحديث).
ولدت خالدة سعيد في مصياف السورية، والطريف أنها تعرف نفسها بأنها لبنانية من أصل سوري، درست في مدرسة راهبات العائلة المقدسة في بانياس بين الأعوام (1940-1944)، ثم درست المرحلة المتوسطة في مدرسة الصنائع للبنات بدمشق متخصصةً في مادة الزخرفة. وفي عام (1952) تخرجت في دار المعلمات الابتدائية، ونالت في الوقت ذاته شهادة البكالوريا السورية، ثم عملت كمعلمة في طرطوس بين عامَي (1952- 1954)، وعملت في دمشق في مدرسة الصنائع أيضاً، ودرست الأدب العربي في دمشق، ومن ثَمَّ في الجامعة اللبنانية في بيروت، وحازت شهادة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون في فرنسا.
غير أن التاريخ الأهم في حياتها كان نهاية عام (1956) عندما وصلت إلى بيروت، فبدأت رحلتها المعراجية في قلب الثورة الشعرية الجديدة، بانضمامها في عام (1957) إلى أدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط وكوكبة من الأدباء، لتباشر عملها في (مجلة شعر) بمقالات نقدية واكبت الحركة الشعرية الحديثة تحت اسم خزامى صبري، وبعد عدة مقالات نقدية كتبتها عن ديوان الشاعرة نازك الملائكة (قرارة الموجة)، وعن ديوان (لن) لأنسي الحاج، ومقال عن خليل حاوي وفدوى طوقان ومحمد الماغوط، بدأت مقالاتها تصدر باسمها الحقيقي لتصبح (أيقونة النقد الأدبي الحديث). في هذا الوقت كانت القراءة النقدية التي قدمتها خالدة سعيد تعبِّر عن نقطة التلاقي بين القصيدة والقارئ، ونقطة الحلول والتحول ووضع المعايير والقواعد الضرورية لتخطي المفهومات والنظم الشعرية القديمة، وبرغم تباشير الحداثة الشعرية التي انطلقت في تلك المرحلة؛ فإن القصيدة النثرية كانت لا تزال بعيدةً عن أن تكون فناً مكتملاً؛ لذا، بذلت خالدة سعيد أقصى طاقتها لردم الهوة بين قصيدة النثر والجمهور، وهذا ما عبرت عنه في كتابها (البحث عن الجذور ص14) عندما قالت: (ولكن معظم الناس يجهلون حتى قراءة القصيدة الحديثة؛ لأنهم يقرؤونها على ضوء النظرة القديمة إلى الشعر، يقرؤونها فيصابون بخيبة أمل عندما لا يدغدغ أذنهم صليل القافية ولا تفاجئهم لعب التورية والطباق والجناس، وعندما لا تتأرجح الكلمات في دوامة الوزن. فما السبيل إلى فتح النوافذ في نفس القارئ على عالم القصيدة؟).
بهذا السؤال لا تفتح الناقدة آفاقاً جديدة من النظر في القصيدة النثرية فحسب؛ بل تدعونا لإعادة النظر، ولإطلاق سراح الشعر الذي سجنه الخليل بن أحمد الفراهيدي في البحور الستة عشر، كما عبرت في كتابها المذكور أعلاه في (ص8). باحثةً عن القوانين والمعايير التي تؤدي إلى التفسير والفهم الصحيح في تطور الشعر الحديث، مؤكدةً أنه ثورة على الأسس والمفاهيم ولا يقتصر على الشكل، فتقول: (لو أن الشعر الحديث ثورة على الشكل وحسب لكان فقد مبرراته)، موضحةً في (ص9) من الكتاب نفسه موقف الاتجاهات المعاصرة ومدى تأثير رؤية كل عصر من خلال ظروفه للنص الشعري: (وهكذا لم يعد الشعر خطاباً يمدح السلطان، ولا حلية لصدر أنثى، ولا افتخاراً بمآثر القبيلة.
إن أحب الشاعر الحديث فلا يتغزل بعينَين وثغر ونهد، بل يضعنا أمام المصير الذي ينتزع كيانَين من وحدتهما، أمام هذه التجربة الأزلية التي تتجدد، أمام هذا القلق الفرح الدائخ الذي يجري في العروق). ولذلك تزايدت حدة دفاعها عن قصيدة النثر كمرافقة لحركة النهضة وتياراتها في مواجهة القارئ الكلاسيكي لحساب تجديد شعري وانبعاثة جمالية حديثة؛ حيث كانت خالدة سعيد الناقدة الوحيدة ولم تكن الناقد الوحيد، كما عبرت في حوار أجرته معها مجلة (الدوحة عام 2018) فذكرت تجربة أنسي الحاج النقدية، وجبرا إبراهيم جبرا، والدكتور أسعد رزوق، إضافة إلى الدكتور عادل ضاهر، معترفةً أنه تجاوز بدراسته عن أدونيس ما كتبته هي عنه، غير أن خالدة سعيد اقتربت اقتراباً شديداً من فهم العلاقة بين (الشاعر/ القصيدة/ القارئ) فتفردت في تعميق إمكانية تعدد المعنى في فهم النص الواحد، ومن هذا المنطلق كان نقدها على مستوى الشعر مساوياً له، وهكذا نفهم هذه الموازاة في نقدها لأدونيس، يوسف الخال، الماغوط، شوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج.. وسواهم، فتجلى دورها في مرافقة أجيال الشعر العربي الجديد والراهن، وفي تقديم دواوين لعدد كبير من شعراء قصيدة النثر الشباب، وهنا نتلمس موقفها المساهم من قضية التجديد. من حيث إنها في مرحلة متقدمة في التعامل مع الجمهور الواسع، لذا من البديهي أن تسعى إلى ربط النص بالقارئ، مؤكدةً في نفس الوقت استقلاله من حيث المعنى، دون أن تقدم للقارئ أحكاماً أو نظرات نهائية؛ بل تقدم له دعوة للسفر في فكر الكاتب وخياله.
ونتيجة لهذا عرفت خالدة سعيد القارئ على أنه بُعد أساسي من أبعاد النص؛ لذا فكل قراءة هي مشروع مقاربة جديد، أي تجل جديد للنص. وكما أن النص الإبداعي هو ابن كاتبه وابن خصوصيات هذا الكاتب، فهو إلى حد ما ابن قارئه، ما دام للقارئ، بدوره، منابعه ومكوناته الخاصة. وهذا ما أوردته في كتابها (فيض المعنى)، وما أسست له في قراءتها النقدية لمختارات من نصوص شعرية ضمها الكتاب لكل من أنسي الحاج، عباس بيضون، زليخة أبو ريشة، أمجد ناصر، عبد العزيز المقالح، وديع سعادة، عبد المنعم رمضان، عبده وازن، حسب الشيخ جعفر، وسنية صالح. من خلال ما طرحته من أسئلة شاسعة حول وظيفة القارئ ووظيفة الشاعر، ووظيفة الشعر والنص الشعري واللغة الشعرية وجمالياتها وعلاقتها بالعالم. ففي الصفحة (17) تؤكد: (أن قراءة النص رحلة في دروب مجهولة لاكتشاف العالم وإيقاعاته الخفية؛ حيث حبل المعنى غير معطى ولا موصول؟ فالمعنى هنا موعود لكي يلتمس وحتى يبتدع، ولو من زجاج مهشم). ومن هنا نفهم هذا التأصيل لطبيعة العلاقة بين خالدة سعيد والقصيدة؛ إذ تمنحها بعداً آخر أو اتجاهاً آخر. وهنا نفهم أيضاً مبدأ الفصل بين الحياة الفكرية والحياة الزوجية، وكيف استطاعت أن تخاطب أدونيس كشاعر وهو الزوج، فهي انطلقت في دراستها لأدونيس من همها الأساسي كناقدة جادة لها ريادة.
وجدير بالذكر هنا أن نلفت الانتباه إلى لقاءات وحوارات (خميس مجلة شعر) التي شكلت مختبراً يتمثل إنجازه الحقيقي في إدراك العلاقة بين عناصر الإبداع ومستوياته، كانت جلسات (الخميس) الأسبوعية التي تنعقد مساء في فندق بلازا في شارع متفرع من شارع الحمرا ببيروت، ساحة مصغرة للقاء بجمهور متنوع في اتجاهاته وثقافاته، كما كانت مناسبة لطرح النظرات الجديدة، وكل شيء كان قابلاً للبحث والمساءلة. عدا على أن أدونيس أحد مبدعي ومنظري الإبداع الشعري المعاصر، ومؤسس مجلة (مواقف) والتي كانت ملتزمة بمبدأ الاعتراض والنقد والاختلاف والتجاوز والابتداع، وهذا ما يجعلنا ندرك جدلية العلاقة بينهما القائمة على الوعي الذي هو نقطة التحكم في النوازع والأهواء والأغراض، فكل منهما له وجوده المستقل الذي يعطي رؤيته بعداً أعمق. غير أن مشروع خالدة سعيد النقدي الحداثي في إضاءة الأفق وتعميق المعنى تجاوز نقد الشعر إلى نقد الرواية والمسرح، ففي الرواية قدمت دراسة اختارت فيها حوالي خمسين رواية توضح تطور فن الرواية منذ الواقعية التسجيلية حتى آخر التجارب التقنية (حركية الإبداع دراسات في الأدب العربي الحديث ص199)، وفي المسرح تناولت المشروع الرحباني الفيروزي، ومسرح سعد الله ونوس، ومشروع سعاد نجار في حركة المسرح الحديث؛ ليكلل تعاونهما بوضع كتاب (الحركة المسرحية في لبنان)، وكان كتاب (الاستعارة الكبرى) الذي أصدرته عام (2007) ثورة على المسرح العربي.
ونذكر من أعمالها كتب: فضاءات، أفق المعنى، جرح المعنى، رؤى وروايات، في البدء كان المثنى، الثقافة والحرية، ولها بالاشتراك مع أدونيس ستة كتب حول رجال النهضة صدرت بين 1980- 1981. ورغم اهتمام خالدة سعيد بقضايا المرأة؛ فإنها لم تدخل في سياق النقد النسوي، كما أنها لم تعترف بشيء اسمه (المدرسة النسوية في النقد)، فإيمانها كان بالإنسان الواحد، بجنسَيه، فأعلنت رفضها للتراتب في العلاقة أو في الحضور في العالم بين (المرأة والرجل) باعتبار أن الوجود والحضور مثنى متكامل لا وجود فيه لأحد دون الآخر. هكذا تحولت الكتابة النقدية عند خالدة سعيد إلى أفق إبداعي غير منفصل عن الخط الفكري الذي كان سائداً آنذاك، فقد استطاعت تلك الحقبة النهضوية التي اتسمت بالتجديد والإبداع، رسم ملامح واضحة لمشروع الحداثة العربي، ولهذا فإن المعنى الحقيقي لاستذكار خالدة سعيد هو استعادة لهذه الأيقونات النقدية الجميلة التي اختفت من المسرح الثقافي العربي، فالذاكرة هنا دليل انتماء، أو شرفة على الحلم، أو المطلق، أو الأبدي.