وارد بدر السالم
لا يخامرنا الشك بأن فيروز هي اختبار للذائقة الشخصية لا مهادنة فيه؛ واختيار نفسي تتحكم فيه بعض العوامل الداخلية المتأثرة بالمناخ الخارجي الذي يحيط بالسلوك الغنائي بشكل عام. فهي خلاصة الطرب العربي الصاعد بالصوت والخفّة والرشاقة الأسلوبية؛ عندما جعلت للكلمات أجنحة لتُصبح عصافير بلا أجنحة تُرى؛ وتجسّدها في واقع المخيلة كما لو أنها حقيقةُ صورة يتداولها الجميع من دون حذر.
هذه الإمكانية الفذة، لم تخلقها حنجرة وصوت وتنغيم وشجن وموهبة حسب، بل ساهمت بخلقها ظروف الحرب واليأس والهجرة اللبنانية التي تسببت الحرب الأهلية بها، مما جعل من فيروز أن ترى الحياة القاتمة بصوتها، وامتثلت حنجرتها التي توزعت الى أوتار سرية بين كل ذلك اليأس اللبناني العظيم. فخلقت منها سِفْراً باهراً عايش تحولات المجتمع اللبناني في بياناته الطائفية التي أجهضت أحلام نسائه ورجاله، وقتلتْ فيهم روح الاندفاع الى الحياة.
(1) فيروز منظومة وطنية- طربية- رومانسية- استثنائية متكاملة الأبعاد، يجمع صوتُها ثنائيات الحزن والفرح. اليأس والأمل، القوة والضعف، كبكاء يتقطّر من قلبها الصغير، وعويل جارح تسببت الحرب به في الأغلب الأعم. ومن الصعب فصل تلك الثنائيات الى مراحل وأجزاء وفصول، فلقد أعطت للقصيدة الفيروزية المغنّاة متانتها وأنوثتها وقوتها وشعريتها أيضاً. ولو أن القصيدة ظلت أنثى، قبل أن تسترجل بالغضب والقوة وحروب الأسرة الواحدة، لكانت فيروز هي القصيدة الصوتية الرقيقة والأبدية، مثلما هي القصيدة الوحيدة التي تمثّل كوكباً وحيداً منفرداً على الأرض. وهذا ليس إجراءً شخصياً، بقدر ما هو إجراء مجتمعي وجماهيري تتبناه الأجيال المتعاقبة بعد النكبة المحلية التي ضربت البلاد والعباد والذي ترجمته حنجرة حريرية وضع الله فيها سرّ الجمال والعذوبة والبكاء الدامع وهو لا يستسلم للأهوال العسكرية والطائفية، بل يدفع الى اتجاهات مغايرة لتبديد ثقل الألم على الناس، وينشر الأمل بسعاداته القليلة حسب.
(2) مثل هذا الحنجرة الحريرية الرخيمة خرجت عن النظام الصوتي الغنائي المألوف، واستقلّت بنظامها الفيروزي الشخصي، وارتقت بالقصائد المغناة الى مصافٍ راقية من الصعب التكهن بأسرارها أو توصيفها بدقة، إذ ذابت فيها القصائد وذابت هي في القصائد الى الحد الذي يصعب فصل الاثنين عن بعضهما، وهو فصلٌ إيهامي أبعد من الخيال تسكنه متناقضات الحزن والفرح. وفي هذين الخطين الذين يلتقيان في حنجرتها، بل حتى في ملامحها الشخصية، تبدو فيروز مثل الحسّون السعيد، لا بجناحين ملونين شفافين، بل بأجنحة سعيدة تحلّق بها القصائد المغنّاة كما يحلّق الرحيق في فم النحلة، حقيقةً وخيالاً وإيهاماً وواقعاً، من حزن الى فرح الى أنوثة الى قوة وشجن آسر وحزنٍ موجع واختراقٍ لمنظومة السكون التي نلوذ بها في كثير من الأحيان.. إن توفرت.
(3) ما تعطيه فيروز للقصيدة الغنائية بصوت الحرير الناعم في حنجرتها، أكبر مما يعطيه كاتب القصيدة بمسافات لا تقاس إلا على مقياس الشجن والغربة والهجران والحب والألم أيضاً، حتى يبدو اللحن الفيروزي مصمماً على مساحة حنجرتها التي تتوزع بين أوتار الحب والجمال والخوف والحزن والأطلال والأبواب والشبابيك المغلقة في الحرب اللبنانية الأهلية. لهذا فقصيدتها الفصحى أو باللهجة المحلية تتسامى مع صوتها حتى تولد قصيدة أخرى لا علاقة لها بالمؤلف – الشاعر، إنما هي ولادة روح تكبر مع الزمن وتتطاول وتُبهر. كولادة فراشة في عش بحجم الإبهام، نظنه خلقاً جديداً يتماهى من سحر العاطفة بطاقتها الفيروزية الإيجابية قبل أن تكون المغنية التي (تقول) القصيدة. فأداؤها الغنائي يستوجب التماهي مع الكلمات، مثلما يتماهى الماء بالطين، إذ لا توجد فاصلة بينهما، وتماهي الرحيق على مبسم الزهرة، إذ لا توجد فاصلة بينهما. وهذا حسبُها أن تكون شاعرة في الأغنية، متماثلة مع السر العميق الذي ورثه من صوتها الذي أخرجها الى العالم الغنائي من دون أن تكون عبئاً على سرديات القصيدة بل تتبخر السرديات الغنائية الى عذوبة شجن وحيد يدخل الأبواب والشبابيك المغلقة.. ويبكي.
(4) فيروز التي أطربتْ وأوجعتْ وأبكتْ أجيالاً متعاقبة من اللبنانيين والعرب شهدت الحروب والانقلابات والثورات والاحتلالات والتظاهرات العربية، كما شهدت في بلدها أنواعاً من الحروب الداخلية والطائفية، انتمتْ- هاربة بجدارة- الى فضاء التحليق الشعري بسرياليته المغناة ومتناقضاته الفظيعة في أن تؤسس مدرستها الفيروزية التي تقوم على دفع القصيدة الى الأمام لتسبقها هي. ثم تدفعها الى أعلى من سحب البحر الأبيض المتوسط، فتسبقها أيضاً بقامتها الغنائية- الشعرية. يقودها شبحٌ خفي في أوتار حنجرة الحرير فيها. فالصوت الساحر، عندما يكون هو الملاذ الآمن لكينونة القصيدة وصيرورتها الرحبانية التي اعتدناها منذ يفاعة سماعنا للشجن الصباحي الذي ما يزال عالقاً في ذاكرة أجيال كثيرة. سيكون مع فيروز هو الصوت الرومانسي الأكثر عذوبة وأسىً بين الأجيال الغنائية. رومانسية مفعمة بالأحداث اليومية الصغيرة والهامشية أحياناً، لهذا تسمعها مرة باكية في واقع ملتبس بالحرب والخديعة والطائفية، كما في أغنيات الحرب الأهلية التي أوصلت فيها جذوة العشق البلدي لكل لبناني ولبنانية “بحبك يا لبنان يا بلدي.. بشمالك بجنوبك..” ومرة أخرى تسمعها محلقة في سوريالية صوتية لا سابق لها شعرياً ( تعا ولا تجي) كابتكار شعري محيّر ومتناقض لجوزيف حرب، بينما اختلاج اللحن في حنجرتها يؤدي الى الاثنين:(تعا.. ولا تجي) في أمرٍ ثنائي مزدوج محيّر، يشفُّ عن معاناة الحب والعاطفة الموحشة التي تسببت بها حرب وموت وفقدان وغياب ويأس” وعدني أنو راح تجي وتعا.. ولا تجي” وبين المجيء والغياب تقع الفاصلة الفيروزية الساحرة، فثمة ” أمرٌ” قاطع في أن يكون (الآتي- المقبل) هو الذي يجب أن لا يأتي، وهذه ميزة شعرية مفارِقة، تُحسب للمؤلف جوزيف حرب، كما هي ميزة أكثر من شعرية في صوت فيروز الذي خرج عن المألوف شعرياً ككيان كتابي، وتجسّد في الصوت الأكثر عذوبةً وألماً وحزناً ويأساً في استدعاء الشجن الغنائي في أعلى مراحله الفيروزية.
(5) هذا يتكرر على نحوٍ عجائبي في ” يا قلبي لا تتعب قلبك” عندما ترسم الغفران لقلب ضاع في قلبه من الحب. وفي هذا التداخل الرومانسي للأخوين رحباني تسمو وتتألق فيروز في هذا الوصف الشعري السحري، عندما تجعل للقلب قلباً آخر يوازي القلب العاشق الأول، وهي ثنائية سرية غريبة الوصف شعرياً.. فهل هناك قلب ثانٍ في جسد الإنسان! نعتقد : نعم. فليس القلب- هذه العضلة الصغيرة- هي التي تُنبئ عن الحب، بل هناك قلب آخر يتوارى في الجسد لا نعرف مكانه حسبُ في هذه الأغنية الحزينة الملهمة. وفي مثل هذا الوصف أو قريب منه في ثنائية أخرى “خذني ولا تاخذني” التي تذكّرنا بـ ” تعا ولا تجي” كثنائية متناقضة تستطيب لها فيروز، وهي تحاكي بمفردات يومية للحبيب البلدي الذي صهرته مشكلات البلد الطائفية وحروبه الثقيلة، وحوّلتها الى ذكرى مخيفة.
(6) الرحابنة الأفذاذ وسعيد عقل وبديع خوري وجبران خليل جبران ويونس القاضي وغيرهم من الأسماء التي رافقت مشاوير فيروز المسرحية والغنائية والفولكلورية، ورفدتها بقوة الكلمات وصورها لم تتخلّ عن ضبط الصورة الغنائية في كل القصائد التي كتبوها، مهما بدت بسيطة وثانوية وحتى هامشية، فالقدرة الصوتية لفيروز تحيل كل شيء الى فضاء غنائي مفتوح على الحياة مهما كان تنوّعُها، ولا يمكن أن نُخطئ في تشخيص العبرات الخفية في اختلاجاتها المتكررة، فقد جاءت من تلك البلاد الدموية، ونسجت خيوط وجودها من آلامه الكثيرة التي نعرفها ولا نعرفها (أنا من بلد الشبابيك) فالشبابيك قوة شفافة تنظر الى ما وراء البيوت، وإطلالة موضعية لها، وإشراف مباشر على الخارج الذي يمور بالمتناقضات النفسية الغريبة، غير أن جوزيف حرب، وهو يُدرك حساسية الصوت الحريري لدى فيروز، يتآخى مع فيلمون وهبة ملحناً في أغنية (البْواب- الأبواب) ليشكل هذا الثلاثي (فيروز- فيلمون- جوزيف) سمفونية مؤلمة جداً عن الضياع اللبناني بعد الحرب عبر الأبواب المغلقة، والبيوت المهجورة، والناس المغادرين الى جحيم الغربة والضياع في أروع صوت ذي شجن غير طبيعي يُشعرك بجمال الأداء عابر المدن وعابر لبنان ذاتها:
(على بابُن مْنوقف تَ نودّع الأحبابْ – نغمرهن وتولع إيدينا بالعذاب.. وبْواب بْواب.. شي غُرُبْ شي اصحاب- شي مسكّر وناطر تَ يرجعوا الغيّاب)
وهذه الأبواب مجتمعةً ومتفرقة، هي أبواب للياسمين والحزن والغربة والهجرة وأبواب الأهل المنسيين تحت معادلات اجتماعية غاية في اليأس والشكوى. ولعل هذه الأغنية دخلت من ” بْواب” الوطن اللبناني ولم تخرج منه حتى اليوم، وإن كانت المتشابهات وفيرة في عالمنا العربي، والحروب هي ذاتها المتكررة حولنا، والشعور بعدم الأمان هو مشتركنا الذي لا ينفك عن مغادرتنا. لهذا بقي صوت فيروز صادحاً وصارخاً في بكائية طويلة بالمعنى الروحي للوطنية، وما يزال قوياً في صدى المدن التي فارقت الحياة بالهجرة القسرية، فالغياب الذي تتحدث عنه الأبواب صورة من موت جماعي فادح، وبالتالي يترك الصوت الحريري ذو النكهة اللبنانية صدى البُعد الطويل الذي تشي به الأبواب المغلقة الحزينة، وهي تصارع ذكرياتها الغالية التي غادرها عشاقها الى مصائر مجهولة.
(7) فيروز أغنية في وطن، ووطن في أغنية قصيرة بملامح كبيرة تقطّر أسىً ودموعاً. تلك الأغنية المريرة التي تحملها عاشقة البلاد عزاء لِما غاب وضاع في لجج من العذاب التي تسببت الحروب بها. لذلك يمكن القول بأن فيروز- المرأة أكبر من هذا التوصيف الطبيعي، فهي امرأة + صوت + انزياح لحني+ وطن+ طبيعة + احساس استثنائي+ حنجرة + فراشة + ومع كل ذلك فهي المُصلحة لخراب النفوس، والمُعالجة النفسية التي جمعت اللبنانيين بطوائفهم المتعددة تحت سقف الوطن وخيمة البحر عندما أبكت اللبنانيين في أغنيتها الشهيرة “بحبك يا لبنان” التي آمن اللبنانيون بها على مشاربهم الدينية والطائفية، وهزّت مشاعرهم المتشنجة أمام أهوال الحرب عندما نشجت هي ايضاً (بحبك يا لبنان يا وطني بحبك..بشمالك، بجنوبك، بسهلك بحبك..تسأل شو بني وشو اللي ما بني ..بحبك يا لبنان يا وطني..)
( هذه الانفعالات المعبّأة بالفرح والحزن والأمل والسعادة المفترضة والطاقة الإيجابية العظيمة، تكررت في أغنياتها الوطنية على نحوٍ خاص، ولم تستسلم الى بكائية طللية وفقدان وغياب وهجران ولوعة وذوبان نفسي واختلاجات روحية، بل كانت أكثر ثباتاً وهي تناشد اللبنانيين بأن الحياة ستغدو أجمل وأنظف من كل شراذم السياسة وأمراء الحروب، وبلسان فصيح تصدح (أنا راجعٌ من صوبِ أغنيةٍ يا زماناً ضاع في الزمنِ) وفي هذا التكامل النفسي والمعنوي الذي تمتلكه فيروزة لبنان، تبدو أغنيتها بأنها تؤدي وظيفة جمالية وتاريخية غاية في الدقة، وطنياً وأخلاقياً، في ارتقاء موضوعي تحكي به القصة تلو القصة، وتستعيد الفولكور المحلي بسرديات قصصية وإيقاع شعري، وتتناغم مفرداتها وتتكرر على نحوٍ واضح: الناي- الجيران- الضيعة- العشاق- النهر- لبنان- بيروت- بلدي- الخبز- ستي- قهوة- حبيبي- الياسمين- موعد- شبابيك- ابواب- الساعة- نسيم- هوى- نيسان- الناعور الطاحونة- الورد – الكرامة- القمر- الزيتون- السكر- بحبك- جارتي- القمر- الثياب- نسيم- البراري-الريح- الزمن الذي (ضاع في الزمن) وخلي الليل يعاتب ليل- وموال بيجرح موال، وضحك الفجرُ وحيّا وصحتْ قمم الزهر. وحبك بيحصدني. يا حزني السعيد. ضحك اللوز. وطني يا جبل الغيم الازرق، يا تراب اللي سبقونا. يا جسرا خشبيا يسبح فوق النهر…الخ لتتحول فيروز الى أيقونة شامخة وفناراً لبنانياً يتخطى الأديان وطوائفها المتقاتلة وأمراء حروبها الذين لوثوا الحياة ، لتكون فيروز سفيرة السلام وعش الأمان المتحضر، بعدما عاشت الحوادث الطائفية التي شغلت البلاد والعباد. لأنها ببساطة أضافت للكرامة اللبنانية كرامة العز والموقف والعبور الى الضفة الوطنية الأخرى، عبر (بحبك يا لبنان يا وطني) فكانت الشاهدة والسفيرة والنبية العزلاء بين القذائف المنهمرة على البيوت والأبراج والشبابيك. لذلك فقد سجلت مواقف مشهودة لها بالبقاء الثابت على أرض خضراء وبحرٍ أزرق من خلال كلمات ولحن وصوت وقامة غنائية ..عالية جداً.