حاوره
أحمد فرحات
……
د. الماجدي
أنظّف الغرف الداخلية للحضارات
الديكتاتوريات الشعرية العربية نشأت مع نظيراتها السياسية
ثمة عصر جديد للشعر سيتخلى فيه عن كلّ مُوجّهاته المعروفة سابقاً
العراق في مهبّ الريح.. ضيّعه سياسيون مهووسون بالفتن والجهل
عندما تشتغل بحاسة الموت تتحول إلى ورشات عمل داخلية نوعية
عصور ما بعد الحداثة تعيد إنتاج ما حصل في عصور ما قبل الكتابة
الشعراء مطالبون اليوم بابتكار نصوص جديدة بعيدة عن كل ما هو سائد
من بين شعراء جيلك (جيل السبعينيات)، وربما مختلف الأجيال الشعرية الحديثة في العراق، أنت الأغزر إنتاجاً، شعرياً وفكرياً. ما تفسير ذلك يا ترى؟.
تفسير ذلك أني ومنذ نشأتي الثقافية لم أنشغل بشيئ آخر سوى الكتابة ، لم تجذبني إغواءات المال أو السياسة أو الحياة الإجتماعية ، بغوايتها البرّاقة بشكل خاص، وكان مشروعي الثقافي منذ وقت بعيد ماثلاً أمامي ، ومضيت فيه أطوره ويطورني باتجاه أهدافي الروحية والمعرفية حتى أنجزت ماأنجزته .أدركت منذ صباي أن الحياة الروحية للأنسان مهمة جدا مثل الحياة المادية ولكني وجدت أن الدين يحتكرها كاملا على وجه التقريب فقررت أن أصحح الأمر فقد وجدت الشعر أشمل من الأدب وهو عكس الدين لاتقيده الأديولوجيا فاعتبرت الشعر ديانتي الأولى . كانت الحياة التي حولي ، كلها ، مثبطة لي ولمشروعي ولكني كنت مصراً عليه وحده فقط وكان يزداد وضوحاً وتتبين تفاصيله كلما مضى الوقت ، لم أستلم في كل حياتي منصباً أو وظيفة مهمة ولم أسعَ لذلك ولم أحلم بثروةٍ سوى الكتب ولم أضيّع وقتي إلاّ في القراءة والكتابة الثقافية ، ومايناضرها بنفس المستوى في الحياة ، وكنت ومازلت أحاسب نفسي بصرامة على هدر أي وقت في أمورٍ جانبية .
الحياة في العراق تشبه التدلي على حافة هاويةٍ ، نتعلم منها أن الموت تحت أقدامنا ، كل يوم ، وعلينا أن نكتب موتنا مراراً لكي ندفعه عنا في الواقع ، وهذا نوع من الممارسة السحرية العميقة ، حيث الكتابة تؤجل الموت سحرياً . لايوجد هدر فرص وحيوات ، على وجه الأرض ، أكثر مما يوجد في العراق ، الأرقام المليونية لموت وقتل وهجرة وعذاب وفقدان الناس وخسارتهم لمواهبهم ، والأرقام المليارية لنهب وسرقة ثروات البلاد وعبثية صرف الأموال لاتوجد إلاّ في العراق ، بلد ضاع في مهبّ الريح ، ضيّعه سياسيون مهووسون بالفتن والجهل ، بلدٌ دمره أهله قبل أن يدمره الأعداء ومن حوله ، عندما أدركت ذلك من زمان بعيد ، ربما مع نهاية السبعينات (حيث انفجار العنف الدموي مع مجيئ صدام حسين للسلطة )، وسيطرة العنف الشامل على العراق ودخوله أول حرب مليونية أيضاً وهي الحرب العرافية الإيرانية ، أدركت أننا ذاهبون إلى حتفنا ، وصار الموت يتمشى في حياتنا مرحاً وصرت أشعر بأنني قابل للموت في أية لحظة بطريقة مجانية ولذلك قررت قراراً مهماً في حياتي ، وهو أن أنصرف كلياً لمشروعي الثقافي والشعري وأن لا أدع أمراً يحول دونه أو يعطله ، وعندما تشتغل بحاسة الموت يلتهب كل شيئ في حياتك وتتحول إلى ورشات عمل داخلية تعمل بنشاط نوعي ، لقد قررت أن أدافع عن ذاتي ، بوجه صنّاع الموت ، عن طريق الكتابة . وكان لي ذلك عندما أبعدت نفسي عن كل مايتعلق بالسياسة والمال والمنافع الإجتماعية .ومازلت على هذا النهج رغم التغيرات الشكلية في وضع العراق لكنه يزداد عنفاً واضطراباً ، أكتب لكي أدفع عني هذا الكابوس .
ما معنى هذا الإصرار الدافعيّ الملحميّ لديك، والذي يظل يجتاح مُطلق تجربة كتابيّة تخوضها، شعرية كانت أم تنتمي إلى أي حفر معرفي موازٍ آخر، وبخاصة منه ذاك المتعلق بالميثيولوجيات وعلم الأديان ومعتقدات ما قبل التاريخ…… إلخ؟
بدأت الأمور من الشعر ، ورغم اندافعي نحو الحداثة فقد جذبتني إغواءات الشعر الشرقي والنزعات الذوقية الخاصة فيه فذهبت إلى الأساطير وإلى علوم الأسرار من سحر وعرافة وتنجيم وغنوصيات وهرمسيات لكي أتذوق قطرات الشهد العالقة فيها من الروح وتدفقها ، وهذا مالم يحصل مع الذين جايلوني فأنت تعرف أن بريق الحداثة في السبعينات كان كبيراً ولايستدعي سوى الحداثة ، لكني بعد تعرفي على الحداثة وممارستها وجدت نفسي في قلب التراث الشرقي ، وكان إغواء وادي الرافدين لانظير له فهمت بتراثه القديم وتاريخه وحضاراته ، ثم نهلت من علوم الأسرار المصرية الغامضة والآسرة ، وهكذا نقلني الإهتمام بالأسطورة والهرمسيات إلى الأديان ، وتيقنت أن الأديان تحتل أعظم نسبة من تراث البشرية فتفحصتها ليس بدافع أديولوجي بل بدافع ثقافي ذوقيّ وجمعت كل أديان البشرية في قلبي بحب ورأفت بها وانتزعت منها أشواك التعصب المدببة فبدت لي ناصعة فريدة في جمالها ، وبدت كما لو انها طيف قزحي كبير لروح الإنسان ،الروح مفهوم غامض جداً لكننا عندما نسلطه على موشور التراث البشري تتضح أطياف قزحه السبعة أو العشرة أو المئة ، لافرق، المهم أني رأيت أطياف الروح وبدأت بتذوقها على مهل من خلال الشعر والدين والفلسفة ، ثم وجدت أن الدين هو جزء من منظومة أكبر هي الحضارة فانتقلت إلى تاريخ الحضارات وتفحصت حضارات البشرية كلها بنفس المنهج الذي مازالت أتبعه وهو أن لا أتعصب ولا أهمل تراثاً بشرياً بدعوى المركز والهامش ، بل كنت ومازلت أجد أن أي رصيعة تراثية (روحية أو مادية ) ، مهما كانت هامشية أو مهملة ، هي من أجل غنى الإنسان ، وليس اعتباطاً أن يتنوع التراث البشري بهذا الشكل ، فمثلما هناك آلاف الأنواع من الزهور أو الأسماك أو الفقريات فهناك الاف الأنواع من التراثات ،كلها ظهرت من أجلنا لنتعلم منها ونتذوقها .
وهكذا تجدني قد تدرجت من الشعر إلى الأسطورة إلى الأديان إلى الحضارات ، لكن الشعر بقي القلب النابض لكل هذه الحلقات المحيطة ببعضا ، إنه ديمومة شحنتها ، وهو باعث شرارتها التي لاتنقطع .
كيف يحدث مثلاً أن تصدر ديواناً شعرياً من 850 صفحة.. ديوانك: “أحزان السنة العراقية”، وكذلك أنت بصدد (كما أخبرتني) تأليف كتاب ضخم في علم الأديان يتجاوز الـ650 صفحة.. ألا تخشى هنا، في ما خصّ مؤلفك الأخير، من خروجك على الصرامة المنهجية، والانضباط المعرفي، والفكر النقدي المصاحب لك كباحث؟
لماذ؟ أنا باحث أكاديميّ وأحمل شهادة الدكتوراه في التاريخ القديم وكل كتبي الفكرية تخضع لصرامة منهجية ، أما أدوائي كشاعر ومتذوق من نوع خاص فتلعب دورها في التقاط الجوهر وعدم الإستطراد والنفاذ إلى ماوراء الأفكار والظواهر والأحداث والحفاظ على رشاقة لغوية معبرّة ، ولكني لاأستخدم عقلي الشعري ، إن صح التعبير ، في طرق البحث ، فهو مخزوني الذوقي للنفاذ وليس للإنضباط المعرفي .
كل ماكتبته في الحقل الفكري خضع لتدقيق علمي ّ في البحث ولذلك أتذكر جيداً كلمة أستاذي الدكتور فوزي رشيد (أستاذ السومريات في جامعة بغداد ومدير المتحف العراقي لعقود من الزمان ) وهو من أشرف على أطروحة الدكتوراه التي قدمتها حين قال لي بعد سنين من حصولي على الدكتوراه : كل كتاب من كتبك يصلح لأن يكون أطروحة دكتوراه جديدة بامتياز .
كان ذلك الرأي مثار اعتزاز كبير مني من متخصص معروف في مجاله الأكاديمي ، وهكذا تجدني اليوم بعد أن توسعت مداركي أكثر وصرت أطّلع على الكثير من المراجع بلغاتها الأصلية ، أحياناً ، أزداد صرامة في التوجه الأكاديمي ولذلك لا أهاب أي موضوع أختاره للبحث خصوصاً عندما أشعر برغبتي في البحث فيه
التفكّر دينياً، والتفكّر شعرياً في ضوء تشبّعك الروحي والتأويلي من عملية بناء نصك الملحمي العتيد، خلالهما.. متى يتناغمان فيك، ومتى ينفصلان؟
في الشعر أترك للفطرة في داخلي التحكم بقصيدتي أساساً ، لكن هذه الفطرة ليست نيئة كما عند الشاعر الأميّ أو الشعبي ّ بل هي فطرة مخصّبة بالمعارف والقراءات والعلوم الكثيرة بطريقة الشحن وليس بطريقة فهارس المكتبات ، وهكذا تجدني قد أنضجت فطرتي ، طيلة السنوات الطوال الماضية ، لجعلها المولد الرئيسي للشعر لكي أواجه بها التصلب المعرفي الذي اكتسبه كل يوم أيضاً . وهذا مايدفعني للقول بأني أقصي العقل الأكاديمي بقوة ولا أسمح له بالتدخل في صياغات النص الشعري .
التشبع الروحي والديني مناخ عظيم لنشوء الشعر الحقيقي الذي أراه ، التناغم محسوب بنسب تقلل من التفكّر الديني وتزيد من الفضاء الشعري ، ومهما حاولا الإنفصال فإن خيطاً شاحباً يبقى بينهما وهذا الخيط مفيد للنهل من خزائن الروح وليس لمباركة المرجعيات الدينية النصية.
أي جاهزيات فهم واستيعاب تريد أن تفجّرها عبر صنيعك الإبداعي البانورامي المفتوح. فثمة إحساس لدى قارئك إجمالاً (على الأقل أنا) بأنك تصرّ على تأكيد سطوة شعرية ما، يتسع إنشادها ليطبع، ليس مرحلتنا الراهنة فقط، وإنما المراحل المستقبلية أيضاً.. ماذا تقول؟
لست شمولياً في التفكير بالشعر إلى هذا الحد أو على الأقل بهذه الطريقة ، لكني أرى أن الشعر موجود كالهواء والماء في تراث البشرية عاشت عليه الأديان كلّها وعاشت عليه كل ألوان الأدب بل وعاشت عليه العلوم القديمة والوسيطة وعاشت عليه الفلسفة ، لكن جميع هذه القطاعات تتنكر له وتتبرأ منه وتصفه بأبشع الصفات ، في حين أنه مبتكر الإستعارة وكل هذه القطاعات هي فنون استعارة أولاً وقبل كل شئ . لهذا السبب أحترم العلم الحديث التجريبي والوضعي لأنه لم يشيّد نفسه على أي أثر شعريّ أو على استعارة ، لقد بدأ بالواقع التجريبي أولاً ونظمّ ، بطريقة استقرائية (بعد أن كانت استنباطية) ، قوانينه وكشف عن النظام الفيزيقي الرياضي الذي يمسك بالكون والعالم والكائنات كلها وهذا هو سرّ نجاحه .
الشعر يعلن منذ البداية أنه ليس معنياً بكشف الحقيقة بل هو لزيادة مساحة الوعي والجمال وتلمس أقاصي اللاعج الروحي والحسيّ . فهو لايدّعي ولايكذب فيما تلك القطاعات (باستثناء العلم الحديث ) تكذب وتدّعي .
مهمتي في الشعر هي إعادة اكتشاف المساحات التي غمرها في تاريخ البشرية وجمعها في شحنة جديدة معادة الإنتظام لكي نتعرف عليه من جديد وليس كما كان : إما تابعاً لغيره أو كجزء من الأدب.
أحاول دائماً القول أننا فهنا الشعر من خلال الأدب وهذه خطيئة كبرى أو فهمناه من خلال الدين أو السياسة أو …… وهذا غير صحيح أيضاً ، الشعر ياصديقي كان موجوداً في كل هذا ولكنه ، أيضاً ، كائن حي مستقل له جماله الخاص الذي لم يكتشف بعد .
كيف يمكن اكتشافه الآن ؟
نحن محظوظون أننا نعيش في هذا العصر وليس قبله ، لأن المعرفة توسعت بشكل كبير ومكنتنا من فرز الأمور والنظر لها بعين جديدة .إن التصنيف والتمييز الذي جرى في كل قطاعات المعرفة والإبداع كان مثمراً وجعل كلّ حقلِ يتميز دون القيام بوظيفة غيره ، الشعر هو الآخر يجب أن يتميز ويكون له حقله الخاص ويجب أن يتخلص من الروابط القسرية التي تربطه مع السياسة والإعلام والفكر وغيرها ، يجب إعادة بناء العلاقة وجعلها أكثر شفافية ، بمعنى أن الشعر الذي كان تابعاً للدين أو السياسة أو الإعلام يجب أن يكون الآن مستقلاً عن هذه الحقول وأن يبني معها علاقة جديدة لاتصادر جوهره ووظيفته وتكوينه ، أي أنني لا أطالب بقطع صلته مع الحقول التي حقوله ( والتي كان ذائباً فيها ) بل بإعادة تشكيل هذه العلاقة من جديد لكي نحتفي بكائن حيٍّ جديد أعيدت ولادته في هذا العصر الجديد.
كانت خطوة الحداثة التي تأسست ، في أوربا ، منتصف القرن التاسع عشر أول الخطوات النوعية والمهمة ، في هذا المجال ، هل تعرف لماذا؟ لأنها ببساطة وضعت الشعر في النثر وفكت عنه قيودة الموسيقية الصارمة ، فكانت قصيدة النثر بمثابة انتصار الشعر على أقمطته الموسيقية وتحرره من رضاعة ثدي الدين أو السياسة ، وهكذا نما طفل الشعر وصار صبياً ، لكنه ابتلي بحماسات المراهقين بعد ذلك فتبنى التطرف والميوعة معاً وتحزم بالأحزمة الثورية وصار إعلامياً . ودورنا الآن هو تخليصه من كل هذا وجعله ناضجا وتحويله إلى شاب حكيم ومتأمل وعارف ومستقل .
هذه صورة تبسيطية لما يجب فعله لكي نحرر الشعر من قيود وامراض جديدة.
وأنت تشتغل على النصوص الميثية والدينية القديمة، الطالعة من ليل التاريخ، ومن خلال الهرمينوطيقا، أي علم التأويل، هل العين العقلية الحدسية لديك، تُدرك، وبنظرة واحدة أحياناً “الحقيقة” كلها؟.. السؤال موجه إليك هنا شاعراً لا باحثاً.
كلا ، لاتكفي تلك العين ، بل لابد من عين الشعر ، لماذ؟ لأن عين الشعر هي الأشمل وهي الأكثر حرية والأقل قيوداً ، كل مايتركه الإنسان من نصوص يتحول إلى شعر مع مرور الزمن ، كلما تتعتق النصوص ، أي نصوص، تنبعث منها رائحة الكحول (أعني الشعر) ، ولكي أثبت كلامي هذا فإن النصوص الطبية أو الفلكية لسومر وبابل ومصر والهند والصين عندما نقرؤها الآن نشم فيها رائحة الشعر ، وهذا ينطبق ، بدرجة أقل ، على مثل هذه النصوص في الحضارتين الإسلامية والمسيحية وهكذا .
كنت أقلب قبل أيام كتاب الفهرست لإبن النديم وهو كتاب فهرست وليس فيه الا عناوين الكتب وبعض محتوياتها فوجدت فيه شعرا ، فتخيل كيف أن الشعر موجود في كل التراث البشري مثل الهواء أو البخار أو الكحول.
الحقيقة كلمة مجازية للوهم ، لاتوجد حقيقة كليّة بالمعنى الدقيق للكلمة هناك تجليات لها في كل التراث البشري ولكنها لاتوجد لوحدها ، الشعر يضمها أيضا لكنها مواربة وتتخفى بأغطية كثيرة وتهرب كالبرق.
أنت تبحث في التاريخ القديم، في الأديان والحضارات… إلخ. لا بأس، ما رأيك بمن يقول بأننا نحن جميعاً اليوم في عصر اللا تاريخ الجديد، أو مجهول العالم الأعظم؟ نحن في معتمل استراتيجية إنسانية لا تعرف اسمها بعد، وعليه فإن هذا الجديد يفرض علينا ترك الما قبل، والما بعد، لللاشتغال عليه، واكتشاف أنساق سلطة رؤيته لنا، ورؤيتنا له من أنساقنا فيه؟
هذا صحيح ، وأنا أتفق معه أيضاً ، لأن كل شغلي في الماضي من أجل الحاضر ، كان مرسيا إلياد يقول : كل وجود الإنسان كفاح من أجل نزع القداسة عن الأشياء، وهو قول صائب جداً ، رحلتي في الماضي لفهم كيفية نزع القداسة عن الأشياء ، ولكي أكمل المهمة التي قال بها مرسيا إلياد ، فهو نفسه قد عانى من هذا الأمر ، وقد استطاع في رأيي أن ينزع القداسة عن الكثير من مساحات الماضي بكشف مقدسها الذي يربض مسترخياً عليها لأزمان طويلة ، وهو بهذا يكون قد نظّف الغرف الداخلية للإنسان من ماعلق بها وأضاء عتمتها ، هذا ما أفعله بالضبط ، أذهب للماضي لكي يشفى إنسان الحاضر والمستقبل .
أعرف تماماً النزعة التي تحدثت عنها في سؤالك ، فهي نزعة بنيوية ، تعطل الماضي والمستقبل وتهتم ببنية الظاهرة في الحاضر فقط ، لكن البنيوية لم تتمكن من الإجابة عن كل مايقلق الإنسان ولذلك طويت صفحتها وجاءت بعدها طرق أهم مثل الفينومونولوجيا والتفكيكية والتأويلية وغيرهما ، والحقيقة أن كل هذه المناهج نافعة ، ولكننا لايمكن الإعتماد على معطيات الحاضر فقط رغم أنه يجب أن يكون الهدف ، دراسات الماضي هي التي أحدثت إنقلاباً في النهضة العلمية لأوربا والغرب عموماً وجعلتهما يبنيان الحاضر.
وبالمناسبة ، جواباً حول فكرتك عن اللاتاريخ الجديد أو المجهول الأعظم ، وهي تسميتك لعصرنا الآن فالأمر ليس مجهولاً لهذا الحد فنحن في مرحلة من التاريخ يطلق عليها (التاريخ المعاصر ) التي أتت بعد التاريخ الحديث ، وميزة هذه المرحلة أنها تسمى عصر المابعديات ، مابعد الحداثة ،مابعد البنيوية ، مابعد الفلسفة ، مابعد التاريخ .. الخ ، وهو عصر العولمة وهو عصر الأنثروبولوجيا ، لكن محدداته معروفة فحضارته الوحيدة الحية هي الحضارة الغربية أما مايعيشه بقية العالم فهو ثقافات نازحة من التاريخ القديم أو التاريخ الوسيط وساكنة كالجثث في التاريخ المعاصر لاحياة فيها ولا إبداع ، وهذه هي أزمة العالم الآن .
البشرية ، اليوم ، ليس أمامها سوى طريق واحد وهو التخلي عن أوهام ماضيها والإندماج بالحضارة الغربية من أجل تحويلها إلى حضارة إنسانية شاملة تتحلى بضوابط أخلاقية عظيمة وتبعد المركزية القافية والعرقية للغرب منها .
هذا هو زمننا ولا أظنه مجهولاً أعظم كما قلت .
الثلاثاء 11 يونيو 2024 – أبوظبي الإمارات