جدلية الطرح الموضوعى وسلطوية النص  فى رواية ” عيد ميلاد  ميت ” لكاتبها أحمد طايل

شارك مع أصدقائك

Loading

رؤية .. أحمد إبراهيم عيد

   

بداية ً .. يضع الكاتب روايته ذات الأبعاد الدرامية المتشابكة بين قوسين داليْن هاميْن ، حيث يفتتح روايته بهذه الكلمات :

” هناك من البشر ، من  يظل حيا ً لعقود بعيدة المدى.. “

” المواقف الجادة والمؤثرة ، هى أساس البقاء “

ويختتمها أيضا ً بهذا البيت الشعرى بدلالته القوية :

             ” كم مات قوم ٌ وما ماتت مكارمهم   ***     وعاش قوم ٌ  وهم فى الناس أموات ُ ”

    ومع هذين القوسين الداليْن ، كانت الدلالة الجوهرية الإشارية الأولية ، فى ذلكم العنوان اللافت بإيحاءاته العكسية البلاغية واللغوية ، التى تجبر المتلقى على السعى لاستكناه واستكمال هذا المعنى من خلال الأحداث الدرامية .

    ولذا .. فإننا نعود لما أسميناه ب ” سلطوية النص الروائى وجدليتها مع الطرح الموضوعى ، وتأثير ذلك على المبدع ، ثم .. على المتلقى بمستوياته المختلفة .

     وربما يستشعر المتلقى الحصيف مدى تأثير التجربة الشعورية الخاصة لكاتبنا ( الذى نشأ فى بيئة ريفية ) ليحاول من خلال درامية أحداث روايته ، إيجاد حالة من المجابهة والمقاومة لما يُسمى بالمعنى السلبى للحياة العدمية ، الذى يُنسى صاحبُها بمجرد مفارقته لدنيا الناس ، ويؤكد أيضا ً على أن الذاكرة البشرية ، تحتفظ وبقوة ، لذكرى وأثر شخصيات بعينها ، وهى الأنفع للناس مجتمعيا ً ، والقائمة علاقاتهم بالآخرين على أسس من القيم المجتمعية الأصيلة والنبيلة.

     ومعنى سلطة النص هنا ، أن المتن الدرامى – بتحيُّز ٍ واضح من الكاتب –  يحتشد طوال الرواية  بالشخصيات ٍ الإيجابية والخيِّرة ( على الدوام ) وكأن هذه الشخصيات قد مارست سلطتها السيكولوجية والإبداعية على الكاتب المنحاز لها ، فصارت على مدى الحراك الدرامى ،  تنفى وتُبعد أية شخصيات سلبية أوعدمية ، حتى ولو حاولت هذه الشخصيات مرارا ً بطبيعة الحال أن تتواجد فى ثنايا هذا الحراك الدرامى .

     وعبر أسلوبية السرد الدرامى تتحرك الدوال الزمنية بمساحاتها الواسعة عبر الأحداث ، لتشمل أجيالا ً عديدة عبر عقود متتالية ، فعلى سبيل المثال نرى الجد الأعلى ل ” رشوان ” – أحد أبطال الرواية – ذلكم الجد المجايل لزمن الاحتلال البريطانى لمصر .. وهو يمارس إبعاد ” محروس ” الجد الأدنى لرشوان عن قريته ، لحمايته من بطش الأمن ، بعد قتله لبعض الإنجليز .. وبعد ذلك نعاين معايشة ” محروس ” الإيجابية  لحياته اللاحقة مع ( توأمه الروحى ) / حازم باشا البدوى الذى يقتنع بمهاراته الخاصة ويأتمنه على أرضه وأملاكه ، ويزوجه من ابنة الحسب ” جوهرة زيدان ” لينجبا ” جابر ” والد ” رشوان ” لتتسلسل المهارة والأصالة  فى التعامل مع خير الأراضى البكر من الجد ، للوالد ، ثم للابن ” رشوان “.. بما يوغر صدر الإخوة الأشرار  / لحازم باشا ضدهم ،     والمثال الآخر فى التسلسل الزمنى .. يبدأ من ” محسن باشا ” رجل الخير ، والد ” حازم باشا ” والذى يوصى قبل وفاته ببناء مسجد ، ومستشفى ، ومدرسة ، ودار لتحفيظ القرآن .. ليسير الباشا / حازم على نفس النهج الخيِّر ، على الرغم من اختلاف إخوته ( الذين يعيشون خارج البلاد ) معه ،  ولكن .. ينتهى الحال باستدعائه لحفيده ” خالد ” لممارسة المحافظة على السراية والأراضي وميراث الخير ، بمعاونة ” رشوان ” .

      وتشابكات الأحداث عبر النسق الروائى كثيرة ، بما يوحى أننا أمام رواية أحداث فى المقام الأول ، على الرغم من تعدد وتواتر الدوال المكانية عبر الأحداث ، حيث بدأت دراما الأحداث الأولية للجد الأعلى لرشوان فى بلدة ( محلة نصر ) بمحافظة البحيرة ، لينتقل الجد الأدنى ” محروس ” مع حازم باشا لقرية ” شنِّرة البحرية ” مركز السنطة،  ثم يتزوج محروس من ” جوهرة ” ابنة العائلة الكريمة ببلدة ” الهياتم ” ، ثم حينما يتآمر بعض إخوة ” حازم باشا ” على رشوان ، فيرسله برسالة خاصة لرجل الخير أيضا ً البرنس ” عيسوى مفتاح ” المقيم ب ( كفر منصور ) مركز طوخ ، ذلك بالإضافة إلى ذكر ( طنطا ) فى الوقف الخاص للباشا ، وذكر المحلة فى حالة تجهيز عرس محروس وجوهرة ، وذكر بلدة ( الجفادون ) فى جنوب الوادى ، أثناء الرحلة التجارية ل ” محمد مفتاح ” عبر بلاد خط الصعيد ، وأيضا ً جاء ذكر قرية ( كفر ربيع ) بالمنوفية والتى هى أصل نشأة أسرة كاتب الرواية .

      والمقابل دراميا ً لهذه القرى الطيبة ، التى تخيرها الكاتب مصورا ً لأهلها الأخيار من علية القوم ، أو من أهلها الطيبين .. هؤلاء  المجابهين ل ( محدثى النعمة ) من أبناء البشوات ، والذين يرتحلون للإقامة ب ( ألمانيا ) أو ( فرنسا ) مبتعدين تماما ً عن  الأصالة وعن أرض الخيرات .

     وفى السياق الدرامى يجد المتلقى نفسه  أيضا ً أمام  رواية شخصيات تعددت فيها مستويات الكينونة الخاصة للشخصيات بطبقاتها المتعددة وبتباينات تفاعلاتها الاجتماعية ، إلا أن الشخصيات الرئيسية التى تمحور حولها السرد الدراماتيكى للأحداث ، تتمثل فى أربع شخصيات محورية هى : ” محروس ” و” رشوان ” و ” محمد عيسوى مفتاح ” و ” وحفيد حازم باشا ” خالد البدوى ” .. وهذه الشخصيات  قامت عليها كل التشابكات الدرامية  كمرتكز إنسانى يؤكد على ذلكم التماهى العاطفى القائم على التواصل الوجدانى والفكرى المرتكز على التكافل الاجتماعى وعلى القيم الأصيلة التى يتميز بها أهل الريف .

     وعلى الرغم من الارتباط بالخيرية الاجتماعية فى دواخل الشخصيات ، والتفاعل الإيجابي مع الخير المتاح من الطبيعة ، إلا أن السرد الدرامى ارتكز – كما  هو الحال فى معظم الروايات – على تلكم الهيمنة للمشاعر المتباينة من ( الفرح ، الحزن ، الغضب ، الخوف ، الثقة ، الارتياب ، والتوقُّع و الدهشة والاندهاش ، و الحميمية الإنسانية … إلخ ) وذلك للوصول إلى أفضلية الحراك الدرامى المرتكز على تفاوت درجات هذه الهيمنة الوجدانية،  وتأثيرها فى ارتباط الذات بالمحيط المجتمعى وبالبيئة المكانية .. إلا أن التيمة الأساسية فى  السياق الدرامى التى أدت إلى تصاعد وتنوع آليات الأداء السردى ،  تمثلت فى ظاهرة الآلام المؤدية  للهجرات عن المكان ، وهجران الأهل والأحباب ، وذلك لأسباب تنوعت واختلفت حسبما ورد فى الحراك الدرامى .

      جاءت هذه الهجرات المتكررة للشخصيات الرئيسية المذكورة آنفا ً بدواع ٍ مختلفة :

 أولا ً :  هجرة اختيارية ، قام بها ” محمد العيسوى مفتاح ” برغبته وتحت ضغوط نفسية بعد افتقاده ل ” بثينة ” زوجته المثالية الوفية / العاقر ، والتى صَبرَت إيمانيا ً وأخلاقيا ً على الأذى الذى نالها من أهل العيسوى وخاصة ً من الأم التى كانت تصفها دائما ً بالأرض البور ، إلى أن أصابها ورم خبيث ماتت على أثره ، فلم يحتمل محمد العيسوى فراقها ، وارتحل مهاجرا ً بعيدا ً عن أرضه وأهله .

 ثانيا ً: هجرتان إجباريتان ، تمت إحداهما للجد الأدنى لرشوان ” محروس ” والذى أبعده والده عن أرضه وزوجته وأولاده حماية ً له من الاعتقال أو القتل .. ثم الهجرة الثانية  ل ” رشوان ” الذى عاش بعد أبيه  ” جابر ” فى كنف الباشا ” حازم البدوى ” مخلصا ً له ومراعيا ً لأرضه وأملاكه ، ولكن مع سطوة أخوة الباشا وتنمرهم عليه ، ومع دنو أجل ” حازم ” أعطاه رسالة هامة للعيسوى رجل البر موصيا ً إياه للانتقال ليحيا فى كنف البرنس ” العيسوى مفتاح ” .

 [[ وما أصعب وأقسى التخلى عن أمكنة الميلاد ، والتخلى عن الأهل والأحباب ، خاصة ً ممن يمتلكون القيم الأصيلة والنفوس الزكية  الزاكية.. إلا من أجل الانتصار للذات الجمعية وللقيم المجتمعية الراقية .. ذلكم ما حدث فى الهجرات الثلاث الماضية  ]]

      الهجرة الرابعة ، جاءت لتؤكد ذات المعنى ولكن بشكل ٍ آخر .. وذلك فى ختام الرواية  ….. :

 ثالثا ً : هجرة عكسية بدعوة خاصة وراجية من ” حازم باشا ” ( فى أواخر أيامه ) لحفيده ” خالد ” – الذى توسَّم فيه الخير – كى يغادر الرفاهية الأوربية المُعلَّبة المصنوعة ، ليعود إلى أرض أجداده التى تحمل سمات الدفء  والخير والتكافل الإنسانى والألفة الوجدانية المرجوة .

 ظواهر أسلوبية مشهديا ً وحكائيا ً :

     قبل أن نتناول بعض هذه الظواهر نشير إلى أن أسلوبية السرد المشهدى عند كاتبنا تمتلك سلطة الاستهلال السردى بإنشاء المشهد بتفاصيله الأولية ، ولكن عندما تستهويه طبيعة ( السرد  الحكائى ) نلاحظ امتلاك سلطة هذا السرد -بشخصياته وبتنويعاته الدرامية -لمسارات الحكى الخاص بمستوياته الواقعية والوجدانية ، وهيمنته الواضحة على مجمل الأحداث المتواترة المتشابكة .

     وقبل أن نتناول بعض المفارقات فى السرد الحكائى،  نتوقف مع نماذج من السرد المشهدى المؤثر فى سياق الأحداث .

     إذا التفتنا إلى المنحى الإيحائى للسرد  المشهدى  ( بتفصيلاته) وتأثيراته القوية   المرتبطة  بالطرح الموضوعى ، سيتجلى ذلك فى استهلال الفصل الأخير ” حفيد الباشا ” .. حيث يجلس ” خالد ” فى شرفة شقته المطلة على ميدان ( الكونكورد ) الشهير ، متأملا ً لجمال المشهد ، ومسترجعا ً لذكرياته مع جده فى زياراته المتباعدة لقريته ، ثم يقف مستمتعا ً برؤيته لتدفق مياه نهر ( السين ) الذى يعشقه خاصة ً فى الليل عندما تتلألأ الأضواء منعكسة ً عليه .. ثم فى هذه اللحظات يتخذ قراره الهام بالعودة من ( باريس ) إلى زمام أرض الخير / أرض الأجداد .

     هنا يمكن للمتلقى أن يستنبط من تفاصيل ذلكم المشهد ، قوة الارتباط الفطري  والاستمتاع بجماليات هذا الإبهار المتحقق بمدينة ( الجن والملائكة ) التى نشأ وترعرع بها ” خالد ” ،  ولكن .. قوة الشغف الداخلى لديه بتحقيق التواصل الإنسانى والألفة الوجدانية كما يجب أن تكون ، جعلته يحسم الأمر بترك هذا الجمال البارد ، والعودة لأرض الدفء والألفة ، العودة نهائيا ً محمَّلا ً بتلك المشاعر  الخاصة التى استمدها من روح جده الذى يحيا بالناس وللناس ، ومن هنا جاءت هذه الهجرة العكسية

والتى اختتم بها الكاتب روايته مؤكدا ً على فكرة : أن الاغتراب عن الذات  (( وليست الغربة فقط ))  من أهم الأسباب الرئيسية فى الإبتعاد عن القيم الإنسانية الأصيلة .

     والسرد المشهدى يلعب دورا ً هاما ً فى التجسيد الحى للشخصيات والأحداث،  وبطبيعة الحال للأماكن ، ولا أدل على ذلك من الاستهلال للفصل الأول المؤسس لتشابكات الأحداث ، وذلك بتصوير ثورة الطبيعة بهذا المشهد الدال :

 ” الشمس أعلنت الرحيل قبل موعدها ، الرياح الشديدة تتلاعب بكل شئ ، بالبشر العائدين ومعهم ماشيتهم يتطوحون يمينا ً ويسارا ً من شدتها …… ”

     ثم يستمر المشهد ليصل بنا إلى محطة القطار ب ( طوخ قليوبية ) … :

 ” مجرد رصيف بطول لا يتجاوز العشرة أمتار ، وأرائك خشبية متهالكة،  وحجرة ناظر المحطة الصغيرة التى  يعمل بها ناظر المحطة ، مكى بهلول ، أو كما يطلقون عليه ” مكى سكَّة “

     هكذا تبدأ الأحداث مع هذا ( المكى ) الذى يمثل أيضا ً مع والده نموذجا ً للمهاجرين إلى ( كفر منصور ) والذى يحدث نفسه وهو فى انتظار قطار الليل :

 ” ليس هناك من مجانين يأتون بهذا الحال من ( زعابيب ) الرياح التى تكنس كل شئ ”

     وبعد مغادرة القطار ، يفاجئه  وصول  ” رشوان ” مرتحلا ً مع زوجته وأبنائه مستفسرا ً عن طريق الوصول لكفر منصور ، فيستضيفه وأهله فى حجرته مقدما ً لهم طعامه ( البتاو والجبن القريش والجرجير ) …..

    ومع استقراء مشاهد الارتحال لأصحاب الهجرات عبر السياق الدرامى ، سيعاين المتلقى أن القاسم المشترك بينهم فى هذه الهجرات أنها جاءت كنتيجة ٍ حتمية للقسوة والظلم المقترنين بظلمات الجهل المجتمعى ، وأنها تمت جميعها تحت جنح الظلام ، وكأنها إشارت للسعى الدؤوب للخلاص من آثار هذه القسوة ، وذاك الظلم ، وهذه الظلمات .

     والقاسم المشترك الأهم بينهم وهم يسعون لإثبات ذواتهم الخَيِّرة بعيدا ً عن الظلم والقهر ، بأن يلتقى كلّاً منهم بمن يتبنى سعيهم لإثبات قدرات الخير الكامنة فيهم وذلك فى نماذج متباينة …… :

      هاهو ” محمد العيسوى ” بعد مأساة زوجته ينطلق مصدوما ً مهموما ً وهائما ً على وجهه فيلتقيه تاجر الأقمشة الثرى ” محفوظ العربى ” متعاطفا ً معه ومواسيا ً إياه ، وعندما يتوسم فيه النبل والوفاء والإخلاص ، يستأمنه على مخازنه الخاصة ، ثم يساعده ليصبح تاجرا ً جوالا ً للأقمشة ، ليستوطن بعد ذلك ( كفر منصور ) ليصبح من كبرائها الأثرياء .

     وهاهو ” محروس ” المطارد أمنيا ً لقتله بعض جنود الاحتلال الإنجليزى ، يرتحل دونما وجهة معينة ، فيلتقيه ” حازم باشا البدوى ” الذى يُعجب بوطنيته وشجاعته ، ويصحبه ليكتشف مهاراته وخبرته الخاصة  فى مجال الزراعة فيجعله رجله الأول المباشر لأعماله ، بل وصديقه المقرب ، ويزوجه من ” جوهرة ” ابنة الحسب والنسب ، ليستقر معه هو وأولاده من بعده .

     وهاهو ” رشوان ” الذى يرتحل بزوجته وأولاده ، ومعه خطاب توصية من ” حازم باشا ” للثرى ” العيسوى مفتاح ” الذى يُكرم وفادته عليه ، ويختبره ليعلم مدى علاقته بالباشا ، ثم يجعله رجله الأول فى جميع أعماله .

     ولعل الكاتب بهذه اللقاءت بين أهل الخير وأصحاب النفوذ الخيِّريين ، يشير فى دلالة هامة لتقارب الأرواح الطيبة ، بما يُذكرنا بوصية ” شمس التبريزى ”  المعلم الهادى للشاعر والفقيه ” جلال الدين الرومي ” حين أوصاه :

(( لا تبحث عن الأشخاص ، فهم سيأتون إليك كهدايا فى بحثك الدؤووب عن ذاتك ))

     .. والتداخل المتواتر والتزاوج المستمر بين السرد المشهدى والسرد الحكائى فى فضاءات أنساق الرواية ، يجعل  الحراك الدرامى يتجه لصالح تحقيق معانى الحق والخير والجمال الكامنة فى أعماق الشخصيات لتظهر بشكل ٍ إيجابي على مستوى التفاعل مع الآخرين ، أو على مستوى استخراج الخير الكامن فى معطيات الطبيعة ، وسنذكر هنا بعض الأمثلة على ذلك ، حين يمارس كاتبنا تقنية ( الحكى الخاص داخل الحكى العام ) …. :

     ** حينما أراد ” العيسوى مفتاح ” أن يستيقن من علاقة ” رشوان ” مع ” حازم باشا ” .. ذاكرا ً له ( أن الطبقة المخملية لا تعطى ثقتها الكاملة للعاملين لديهم ألا بشروط ) .. يبدأ رشوان فى سرد حكايته هو وأبيه الذى حكى له عن جده ، مستشهدا ً بشدة إعجاب الباشا بجده ” محروس ” .. حيث راقبه وهو يتفاعل مع أرضه الزراعية ، فهاهو يتشممها تارة ً ، ويتذوقها تارة ً أخرى ، ثم يميل عليها وكأنه يحادثها .. ولم يقتنع الباشا بكل ذلك ، إلا حين أعطت الأرض فى نهاية الموسم الزراعى أضعاف ما كانت تعطيه من قبل .. وكان التسليم التام من الباشا لمحروس ، الذى علم ولده ” جابر ” ومن بعده حفيده ” رشوان ” جميع أسرار الأرض .

     ** حينما استقر المقام بالتاجر ” محمد العيسوى ” فى ” كفر منصور ” تبادل مع أهلها الطيبين المحبة الخالصة،  والتى جاءت كمثال واضح على الخير والإصلاح ، حيث أنقذ البلدة من شبه كارثة ، حين جاءهم خبر وفاة أحدهم فى البلدة المجاورة ، وفى طيات الخبر أنه مات مسموما ً ، فهاج رجال البلدة وخرجوا بأسلحتهم لمواجهة البلدة الأخرى ،، إلا أن ” محمد العيسوى ” تصدى لهم هاتفا ً أن يستيقنوا ويتبينوا أولا ً من الحقيقة ، وأن ينتظروا نتيجة الطب الشرعي فى الحادثة ، والتى أثبتت أن الوفاة حدثت بسبب هبوط حاد فى الدورة الدموية.

    ** وحينما  اتهمت أحدى البغايا أحد أولاد شيخ المسجد بالبلدة بأنه قد اعتدى عليها ، أشار على عمدة القرية أن يعقد جلسة لأولاد الشيخ جميعهم لتستخرج البغى من ذكرته من أولاد الشيخ ، فارتبكت وأشارت إلى غيره ، وتبرأت ساحته.

     كل ذلك الحكى جاء على لسان الأرملة ” تحية ” الذى توفى عنها زوجها الثرى ، فصارت مطمعا ً لراغبى الزواج منها ، فرفضت الجميع ، ولكنها سارعت بعرض نفسها لرجل الخير ” محمد العيسوى ” الذى عرفت كل أحواله السابقة فصرحت له قائلة ” الوجع ينادى الوجع يا عيسوى ” فتزوجها وأنجبت له ” بثينة ” و ” العيسوى ” .

     (( هنا تتحقق تلك المقولة الهامة : كن صادقا ً ونقيا ً مع نفسك ، تُفتح لك كل الطرق وكل الأفئدة… ويصل إليك الخير فى أبهى صوره ، مادمت تبغى الخير للآخرين بوعى.. وفهم.. وحكمة.. ))

 *** وفى الختام نقول : بأن الدوال الزمنية -عبر فضاءات السرد – تناولت ضمنيا ً أجواء ذلكم الزمن الماضى بتشابكاته المجتمعية ، وإشكالياته المتعددة ، ولكن .. ماذا يكون الحال إذا تناول الكاتب طبيعة التغييرات المجتمعية الآنية ، والتى أبدلت الكثير من القيم الإنسانية الأصيلة ، حتى فى مجتمعاتنا الريفية ، وكيف تكون التفاعلات الوجدانية والفكرية والدرامية ، فى ظل هذه المتغيرات ؟؟

 

                                                                                             المحلة  الكبرى

                                                                                            ٢٠ – ٤ – ٢٠٣٤

    

شارك مع أصدقائك