اد هبة مهتدي
الخرافات … إلى متي ؟
“سقوط المعبد الأخير “ اسم شيق لتلك النوفيلا ومحير أيضًا فهو يدعو القاريء للتفكير و التساؤل قبل القراءة : ترى ماهذا المعبد الذى كتبت عنه المؤلفة ولم سقط وكيف؟
ومع بدايات القراءة تأخذك الكاتبة دينا سليم الى عالم وصفي تفصيلي يستدعي حواسك كلها الى رؤية الألوان والنقوش والجدران وتصل لأنفك رائحة البرتقال المغلي والليمون والزهور والعطور وتستمع لأصوات عدة مثل دق الأجراس ودعاء المتعبدات الصالحات و هبوب الرياح والاعاصير وغناء الطيور.
لم تحدد الكاتبة ديانة محددة لهذا المعبد واعتقد انها تركتها مفتوحة ليشمل المعنى في ذهن القاريء كافة انواع دور العبادة سواء في الديانات السماوية او غيرها فالدافع وطريقة واسلوب الحياة بين هؤلاء الذين يقررون الرحيل عن صخب الدنيا والبقاء داخل جدران المعابد تكاد تكون متشابهة في كل الديانات وان اختلفت المظاهر و الشكليات بينهم .
بل لعلها مفارقة أيضًا ان يقوم بذلك بعض الروحانيين او الذين لا يؤمنون بديانة معينة مثل الهيبيز حيث تدعوهم مبادئهم الى اعتزال الحياة والعيش بطريقة طبيعية في الكوميونات الخاصة بهم والزهد في المال وان كان هؤلاء وعلى النقيض من المتدينين قد يدعون الى التحرر المطلق في اشياء اخرى كالجنس وتعاطي العقاقير الترويحية والموسيقى الصاخبة.
نعود مرة اخرى الى النوفيلا ، فخلال قراءتي لها شعرت بأن ( ام هذا ) ترمز الى سيطرة وتسلط الخرافة على العقول وليس فقط على عقول البسطاء بل تمادى هذا التأثير ليصل الى الجميع هناك وكأن الكاتبة ترمز في ذلك الى سيطرة بعض الافكار اللا منطقية على الفكر الجمعي.
وذكرني ذلك بمعالجة الاديب الراحل يحيى حقي لقضية الخرافات في رواية “قنديل ام هاشم ” في وكيف كان التحدي بين الطبيب الذي تلقى تعليمه بالخارج و بين المجتمع والعائلة وطقوس الشعوذة والخرافات التى سيطرت عليهم حين عاد الى الوطن الأم.
ايضا ذكرتني تلك النوفيلا بفيلم مصري للفنان الراحل العبقري احمد ذكي اسمه “البيضة والحجر ” شرح فيه بصورة رائعة كيف استطاع شخص استخدام الذكاء و الايحاء في خداع العشرات ليس فقط من السذج البسطاء بل ومن المتعلمين ايضاً حتى انه نجح في الحصول على ثقة شخصيات هامة وفي مناصب مرموقة. كل هؤلاء اقتنعوا بأن لديه قدرات غير عادية، ووثقوا به ونفذوا كل تعليماته بكل دقة لفك العمل وابطال السحر وغيرهما من شاكلة هذه الأشياء.
الغريب ان البطل كان في البداية يعمل معلماً وكان يحب القراءة ويلجأ إلى الفكر النقدي لتحليل اي ظاهرة تصادفه اي انه كان مقتنعاً بأهمية للعلم والثقافة ورافضا لكل اشكال السحر والشعوذة، ولكن للأسف حينها لم يستمع احد لرأيه المستند الى العلم والبراهين والفلسفة والمنطق بل وطاردته المشاكل وحاصره جمود المجتمع وحب من حوله للزيف والنفاق . ثم وضعته الظروف والصدف في صورة الرجل الخارق والذي يتواصل مع الجن ويعلم الغيب، حينئذ فقط استمع له من حوله بل واحترموه وقدروه و بجلوه وأطاعوه.
نعود الى النوفيلا وشخصية اخرى محورية وهي الفتاة الرقيقة اودونيل والتي تعيش بالمعبد وهي من تسرد لنا معظم الاحداث وتمارس (ام هذا) عليها طقوسها وسيطرتها الشيطانية ولكن من خلال حواراتها مع الآخرين ظهرت لنا اشكالية هامة متواجدة في عالمنا المعاصر وهي الافتراض ان الانسان عليه ان يختار ما بين الحرية او الدين. ورغم انه لا داعي للاختيار بين هذا او ذاك إلا ان هذا هو ما يطرح بشدة.
أنا ارى حرية الانسان تعني حريته في ان يؤمن بالقناعات التي تناسبه سواء كانت فلسفية او دينية. الحرية هي حرية فكر واختيار حياة إلا ان البعض يرى للأسف ان الحرية لا تكون إلا في التحرر الجنسي وحرية التصرف في الجسد والاستمتاع بالحياة. فقد تكون مثلاً حرية احدهم في اختيار حياة الزهد والتعبد وربما يستشعر هدوءا وسكينة وجمال بين جدران صومعته او في مكان عبادته او في حياة بسيطة بين احضان الطبيعة. وقد يعيش آخر في افخم المنازل ولكن تستنزفه الحياة المالية المادية المجردة من المشاعر ولا يشعر بهذه السكينة ولا هذا الهدوء.
اذن الحرية هي ان تكون هذه هي قناعاته بالفعل وقراراته المبنية على فكره الشخصي وليست مفروضة عليه بطريقة او اخرى سواء من الاسرة او المجتمع او الهيئة الدينية التي ينتمي اليها.
تستمر النوفيلا في سرد وتوصيف الكثير من الخرافات وكيف انها سلبت عقول الجميع وصارت لها طقوسًا مقدسة
وهذا يعيدنا الى الفارق بين الخرافات والمقدسات ولكن الكاتبة هنا اظهرت القوة الهائلة للخرافات حتى انها صارت وكأنها من المقدسات.
وبينما اكتب هذه السطور سمعت غرابا ينعق فابتسمت وقلت الغربان هنا في استراليا في كل مكان ولا احد يعتبرها نذير شؤم كما يعتقد الكثيرون في بلداننا … ليتنا نعلم انه مجرد طائر ومعروف بالذكاء الحاد ولكن له صوت مرتفع وقد يكون مزعج …
لقد انتهت الخرافات في رواية دينا سليم بسقوط المعبد …تري هل سيأتي يوماً تنتهي فيه كل الخرافات في عالمنا وواقعنا؟