نجمة خليل حبيب
قط أو قطة لست أدري. ما أعرفه هو أنه كان يتخذ صبيحة كل يوم من سياج حديقتي “قدومية” يعبر من خلالها الى الجهة المقابلة من الحي. كان هراً ككل الهررة المدللة في هذه البلاد. شعره ناعم براق وعيناه لامعتان هادئتان. كانت قفزاته سريعة ولو أنها لا تخلو من بعض الحذر، وكان يهمّ راكضاً قاطعاً الطريق الى الجهة الأخرى. قد يحلو لي في بعض الاحيان ان أشاكسه، ففي أعماقي حسد من قطط وكلاب هذه البلاد لأسباب لن أذكرها.
أَعترِض طريقَه وأُحدِّق في عينيه فلا تخيفه نظراتي ولا تجعله يتراجع الى الوراء، بل كان يقوّس ظهره وينتصب على قوائمه الأربع ويحدق بي تحديقة حرت في تفسيرها. أهي تحد، تحفز لصراع، أم رجاء؟ غريبة أعين الهررة! لم أنتبه من قبل لما فيها من عمق. ترى ألهذا قالوا أن الأرواح الشريرة تسكن هذه العيون؟ لم اشعر بالشر في عيني قطي هذا. أحسست بكل شيء إلا الشر. لم تكن مشاكستي له لتطول، فقد كنت أتراجع أمام إصراره فأخفض بصري وأدير له ظهري مفسحة له إكمال طريقه. تساءلت! لماذا يصر هذا الهر على القفز فوق سور الحديقة فبإمكانه أن يحاذيه؟ وأين يذهب؟ ترى هل هو عائد من غزوة ليلية أم متجه إلى أخرى صباحية؟
سيرة هذا الهر كانت ترافق قهوتنا الصباحية. ضبطني صغيري أحكي بتحبب عن الهر فانتهزها فرصة ليطلب مني موافقة على اقتناء هر صغير. صرخت غاضبة : “كله إلا الهررة” وسخين وبعيونهم سحر وشر
– ولكن!
– بدون ولكن! بُكْرا بس تتزوج جيب على بيتك مئة هر. أما هون لا.
يتمتم لاعنا دكتاتوريتي، مهدداً أنه سيترك البيت في أوّل يوم يتم فيه السادسة عشرة. أشعر بوخزة غيرة. أتكون منافستي على حضن إبني هرة غريره!!..
* * * * *
الجزيرة تعرض صوراً من فلسطين. الجرافات تقتلع أشجار الزيتون. رغم أني تربيت بالمدينة ولا أعرف عن شجر الزيتون إلا لوعة أمي على تركه مثقلاً بحمله قبل ما يقارب الستين عاماً، إلا أنني أحسسْتُ كأن هذه “البولدوزورات” تمشي فوق جسدي وتقطع أوصالي.
دخل الصغير يجفف يديه بحماس بمنشفة صغيرة: خالي سيأخذني معه الى “تاون هول”. سأشوف حنان عشراوي. عظيمة هاي المرة لو كان في مثلها كتير كنا “ربحنا” فلسطين
– سكِّر بوزك! إنتِ شو بيفهمّك بالسياسة؟ لو كانت القصة قصة حكي كنا استرجعنا الأندلس مش بس فلسطين.
dad! she is great!
– “الغريت” هناك مش ب”التاون هول” تَبْعَتَك
هذا الحوار السفسطائي يكاد يكون خبزنا اليومي.
أهرب إلى الشرفة الشرقية. أزيز الباب نبَّه صديقي الهر العسلي اللون، شعرت بذلك من ارتعاشة ذيله. لم يلتفت صوبي كأنه منهمك بأمر ما! حجبه ظل شجرة السرو عن ناظريّ فانهمكت أراقب تعسر نمو شجيرات الغاردينيا رغم كل الاهتمام والمغذيات التي رفدتها بها. سمعت صوت ارتطام. . . إلتفت، حركة الشارع عادية. سيارة صغيرة زرقاء تعبر الشارع. الشارع عريض وشبه خالٍ. لا مجال لارتطامها بأي شيء. ما سبب هذا الصوت؟ كدت أتجاهل الأمر فقد بلدت سمعي معايشة خمسة عشر سنة من حرب البيروتين[1]. ولكن فضولاً غير عادي دفعني إلى الزاوية الأخرى من الشرفة. من هناك، من تلك الزاوية، استيقظت في النفس انفعالات حرصتُ سنين على كبتها! رأيت هري العزيز ملقى فوق الإسفلت ينتفض وينتفض ثم يهدأ، وكان هر آخر يقطع الشارع من الجهة المقابلة يقعد فوق رأسه وينوح. كان نواحه لا يختلف بشيء عن نواح أمي يوم جاؤوا بأبي شهيدا.
لا أدري لماذا لمعت في رأسي قصة غسان كنفاني “الاخضر والاحمر”!…
[1] المقصود، الحرب الأهلية في لبنان التي اندلعت في لبنان عام 1973 وكانت رحاها تدور بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية