بيت وفاء عبد الرزاق الذي يمشي حافياً

شارك مع أصدقائك

Loading

في ثنائية التلقي تومض الصورة بعد انتهاء اللفظ، فيما تومض المفردة لدى المنتج للنص الادبي لحظة الاصطدام بصورة، وفي الحالتين لا يتحقق النجاح دون زوال العائق الاهم بين النص والناص، ويصير اتحادهما هو ثمرة التلقي الحقيقية، والكفة الراجحة لميزان النجاح والفشل في صناعة القصيدة او اي نص ادبي اخر، هذا الحديث اسوقه وبين يدي مجموعة شعرية لشاعرة ما ان تمر بذائقة المتلقي حتى تصير النشوة مهيمنة حدّ جنون اللحظة. المجموعة ومن عنوانها الانزياحي “البيتُ يمشي حافياً” تشي بصور شعرية ستتلاحق حين ولوج النصوص التي تضمنتها، والشاعرة حين تلمح اسمها، تعرف انك على موعد مع الشعر منثوراً كصبح تلبد بالندى فهي “وفاء عبد الرزاق” بكل بصريتها وعذوبة تمر نخيلها واخر النساء المحملات بالقصائد. انا الان بصدد الولوج الى نصوصها وفي مفكرتي الكثير من الصور الشعرية التي رسخت بذاكرتي والتصقت بلسان ذاكرتي مفرداتها، لكني اعي جيداً عدم استطاعتي احتواء بحر شعري هادر تملكه هذه السومرية الدافئة، لذلك ساكتفي بالتقاط ثيمتين اشتغلت عليهما الشاعرة وهما “الجسد”و”المداخل الساخنة”مركزاً على الاختزال الشعري الذي تجيده وفاء ان لم اقل انها تحترفه.
علم النفس في مفهومه العام يقول ان الصورة الشعرية هي ادراك حسي، بل هي الاحساس الكامل للمفردة في لحظة توقدها، وهذه الصورة التي حين تخلق بفم الشاعر، لن تقبل بالداخل مسكناً لها، بل تبقى بصراخ حتى تلفظُ بوجه متلق يستطيع اسكانها المكان الملائم، وهذا ما يحصل كثيراً بل دائماً مع وفاء عبد الرزاق، وكان ذلك واضحاً وجلياً في مجموعتها التي انا بصددها، فهي ومنذ “الاهداء” خلقت شعراً يغري المتلقي بالسير ملتصقاً مع نهر القصائد وها هي تقول “الوقتُ الذي يتوهّجُ في جُرح الذات/ هو وقتي الذي لم تـُجرح نوافذُهُ/ ولم تيأس في مُهـَج ينامُ الليلُ فيها/ على ضوءٍ ترتدّ إليه الرمالُ كضفـّة/ تتذوّقُ جـُدرانَ البيتِ نبيذاً”.
ومن ثم يبدأ هدير بحرها الشعري الذي يصل باب الدخول، و”الباب” كما يفسره المهتمون بالمكان الادبي نقطة الدخول الى منبع الانثيال الروحي، واظنها كانت تعي جيداً ذلك، لذا افتتحت مجموعتها بانثيال جاء بصيغة شهادة وسيرة ذاتية مكثفة لروحها المستترة خلف غيمة من قلق، وعليه بادرتنا وفاء بهذا المقطع الوامض لتتركنا نسري معها الى سماء تخصها حين تقول “أدخلُ غابتـَه/ أسري كالرُمـْح/ أشاركـُني نِصفَ غطاء/ والرعدُ الأسوَدُ خريطة”، ولعلي لن احتاج للقول ان الانزياح الشعري الذي اشتغلت عليه الشاعرة كان بائناً ومتكئاً على كتف سماء صافية. ثم تبدأ مساحات وفاء بفتح ابوابها المسطحة امام تدحرج المفردات والسطور والقصائد، مخْلية لها الوقت الذي امتد حولاً كاملاً، كما تؤكد ذلك الشاعرة ذاتها حين تقول ان قصائد هذه المجموعة كتب بين عامي 2002 و2003، ولعلها كانت منتبهة للثيمة الرئيسة التي اشتغلت عليها في اغلب قصائد المجموعة واقصد “الباب” او “المداخل الساخنة” وهذا يعني انها أصرت على ان تبقي سيرة روحها الذاتية ماثلة امامنا وهي تسمي قصيدتها “أنــا بعضُ هذا الباب” وتلك اشارة اقرأ انا فيها وفاء وهي تصير بوابة عبور الى اللذة الشعرية التي لم ولن تنضب لديها، وها هي تقول “أيُّ دغلٍ يعي اليقينَ/ والنعاسُ الباردُ يتمطـَّى/ بتيجانٍ تعلكُ كبدي/ وطفلةُ بابي شقيَّةُ الصحوِ”.
هذه الأنثى التي فشلت مراراً في تخطي طفولتها، بقيت حريصة على ان تكون صورتها داخل مرآة مقعرة، تختزن في عمقها الق المكان وتغوي الساعات بالرحيل الى امكنة تشتهي تفاصيلها، لذلك عاجلتنا وفاء بقصيدة لها طعم انثى بصرية ساخنة ثائرة منفعلة من الواقع كما هو الجنوب السومري اسمتها “باب الظمأ” جاء فيها “لا تنمْ على ورقي/ رملة تركض بخوف الصحراء/ الطلعُ/ له خيانة ٌفاضحة/ واللّذّة المضيئة بالجوع/ تـُبادلُ الأوطانَ بالرقص”. وفي هذه القصيدة تحديداً خرجت وفاء من اطار الفوران واللغط المجنون، حين تخلت عن “سكيتشات” الشعراء السبعينيين الممتلئة بالمباشرة التي تصل حد الثرثرة، فكان وميضها محسوباً لقدرتها الفائقة في الاختزال. فهي هنا قالت لنا من واين وماذا تكون، فهي شاعرة يشهد لها ورقها وسومرية النبع عبر توظيف الصحراء والطلع، ودلتنا على قلقها بخشية مبطنة من الخيانة والجوع والغدر. وفي مبادرة شعرية اخرى تذهب بنا الشاعرة الى مخدع الحقيقة الآخر لتقابل رجلاً يتظور بها واليها جوعاً ليزرع في احشاء جنونها ثورة لربما ولدت ووأدت مرتين، وذلك الرجل هو الوطن، وانثاه فكرة يسارية الطعم واللون والرائحة، ويقين قولي، قولها “لم أجـِدْ/ غيرَ سريـر الريحِ المشبوه/ وعطاؤكَ/ يتضوَّر جوعا/ التماثيلُ تخطو بلادا/ والزحام فم / خارج من غليون”.
ما تمارسه وفاء عبد الرزاق في اجواء قصائدها، هو رسم تفاصيل حياتها بضبابية قابلة للتبديد، وتجنح الى قراءة المتشابه معها من الآخرين وتنفر من الفارقين آراءهم من الوسط، متخذة من الخطأ المفترض لوحة تزيح بعضاً من الخراب والفراغات القسرية، لكنها لاتؤمن بكل ماترسمه على انه قدراً، فهي ابعد جداً من القدرية في فلسفة نصها وهذا الموضوع ادركته جيداً وهي تشتغل قصيدتها المفترّة عن وجه ايروسي وتدلنا على اقتراح لذيذ يبدد ضباب الروح حيث تقول ” يكفيه أن ينصهرَ/ ويخرسَ../ بيتٌ/ يكـفـيـهِ أن يـُضاجعَ كـفـّيه”. ربما لم يتوحد رأي النقاد على ان الأنثى اكثر قدرة في العطاء الشعري، حين يكون الجسد محوراً او ثيمة لقصيدة، وحين اقول القصيدة فانا مؤمن كلياً ان المرأة وعبر التكثيف الذي تسمح به القصيدة وحدها، تنجح كلياً في التعبير عن انوثتها دون ابتذال لصورتها العامة، وقد وجدت في اغلب قصائد الشاعرة وفاء عبد الرزاق هذا التحرك الجسدي الخالي من الابتذال، كونها اصطبغت بتقدير وتقديس الجسد الانثوي ومنع المفردة الفارغة من دخول خانة شعرها الايروسي، فترسم لنا “ايروتيكاً” عالياً، يفتح بوابة نشوة التلقي على مصراعيها، ويصير الراصد لتحرك جملها الشعرية راقصاً على وقع المفردة المتغنية بالرجل المعطاء، فهي في الشعرية والشاعرية التي تمتلكها كانت الانثى المحتفية بالاخر القريب منها، او الملتصق كلياً بها لذلك جاء انزياح قصائدها متجاوراً مع رغباتها الحميمية الصادقة، ولعلها اكدت كثيراً على ذلك في قصيدتها “(سفرة في شربة ماء)”حين قالت “أنتَ دمعُ خـُرافتي/ وأنا زبيبُ حنجرتـِك/ أخافُ عليك/ من رجاءٍ نائـمٍ في عينيك/ لذا../ شربتـُكَ/ لأحتسي رجاءً لا ينام”، وكذلك في قصيدتها (سفرة في شفتيك) والتي تقول فيها” في زنزانتـِكَ/ حريّة الليل/ وحبيسة/ تـتـنـفـّسُ بمعبد/ تسمعُ لَن يمحوها في أغنيته/ تلتصقُ بزنزانـةٍ ساخنة/ وفي ترنيمةٍ/ تسمحُ لمن يـُوقدها في شفتيك. وفي قصيدة اخرى كنت اردد مع نفسي”اي مجنونة انت يا وفاء حين تومضين بهذه البصمة الشعرية الراقية المختزلة لكل ما يريد قوله المجانين العقلاء، ففي قصيدة (سفرة الدخول) تطعمنا وفاء طعم الشعر المداف بجنون انثى لها طعم مختلف حين تقول “أنا نار جنـّتكَ/ وتوبةٌ عاصية؟ ألا تدخـُل؟.” كما استطاعت وفاء الإفادة من وميض ذاتها الشعرية مشتغلة عبر (هايكو) انيق فيه من الطاقات التعبيرية مايمكن حسابه بمجمله لصالح النص، فهي انثى جامحة تصول بكل تضاريس المتن الشعري، تدس لنا سيميائيتها اللغوية وترينا الايجاز المحمّل بالتشفيرات التأويليه، وتمطر علينا مفردات مخضبة بدلالية ورمزية تسند الوقع الموسيقي للقصيدة، كما هو الحال بهذه المقاطع التي اخترتها عشوائياً من قصائدها، فهي تقول “أستغيث بأنوثتي/ أبحث عن توأم يسوِّرُ نفسه/ بما يورق من تفاصيلي”، او من خلال قولها في احد المقاطع المكثفة جداً “أنا رحمُ هواءٍ مسروقٍ،/ لكن حين تأتي العاصفة/ أُدْخِلُ العاصفةَ مزهريتي”، وفي هذا المقطع الممتلىء بالرمزية المنثورة امتناعاً صعباً مدافاً بايروتيك انيق غير مبتذل حيث تقول “قصدتـُكَ البارحة../ كانت الظهيرةُ نوارسَ الوقتِ/ وروائـحُ الطين/ أمطرت شفتي/ واستقبلتْ/ قـُبلة الطقس”. ومع اني على يقين بعدم وجود ما يسمى بالشعر الوطني، الا اني اقرّ وأشهد لشاعرتنا بكونها تنتمي كلياً لوطنها رغم عتبات الغربة المتناسلة فيها، فهي وان كانت قد غادرت وطنها منذ عقود الا انه لم يغادرها بل بقي لصق قلبها الممتلىء بالشجن، تستنزفه ذاكرة غير معطوبة، تصل القلبين “الوطن ووفاء” عبر ادب عميق متصل بمنظومة شعرية لها قابلية اتصال عالية الكفاءة، وقد تواجدت القدسية كحاجز يحجب الجرح عن رقبة العراق. فـ “وفاء” لم تتنكر يوماً لوطنها وشعبها، حتى في ساعات وجعها، وقد كتبته في اكثر من زاوية عبر منظومة معرفية مكتنزة، من دون نزوعية او تمترس خلف البكائيات والولولة، بل بنفس الصمود المحتفي بصمود آخر هوالعمق الاصيل، وتجسد هذا في المقطع التالي “أعبدُ موعدا مجهولا/ يُدمي أعصابي/ وظنـّاً يتغلغلُ/ في بابـِكَ/ قامتـُكَ ألهمت العالمَ حضورا/ ونزقا/ وجنينا”.
وفي مقاطع أخرى اثبتت وفاء انها شاعرة تمتلك متناً شعرياً يستدرج القارىء للقراءة وسبر غور النص دون الحاجة للبحث عن البنية المتكىء عليها المنتج وها هي تستدعي البصرة اليها بمقطع حنون يمتلك رنة اسمها حيث تقول “انفلتت رسائلي البـِكر/ تعانقُ عزفَ وريـدِها/ ما قيمةُ الدُنـيا دونَ ثانويّةِ العشـّـار/ واغتسال قميص بشط العرب؟”.
وتعود لتبعث ثانية بطلب البصرة حين تقول “يزهو بيَ التـَشـوُّق/ مطر مطر حلبي/ ما بك وبي/ يُضني ابنة الچلبي/ بضبابِ الشجون/ والليل الذئب/ مستعطيةٌ عذراءُ شارع الوطني/ ومثلُ أيِّ أغنية/ تـفـقد وترَ الجمـر”.
وقبل ان اغادر احد عوالم (وفاء عبد الرزاق) المسمى “البيت يمشي حافياً” عليّ ان اخبرني اولاً واخبر المتلقي ان القراءة لهذه الشاعرة، تعدّ سياحة ادبية، تمنح الروح حق التحليق والسباحة والتنزه، بمعنى ان متلقيها يمكن له ان يكون “جوبرمائياً” يعيش مختلف المناخات والتضاريس والامكنة، خصوصاً حين يعتمد بابها مدخلاً لكل الاشياء.
واترك خاتمة الحديث قصيدة “عذراء” تقول فيها شاعرتنا “حين رأى اللهُ رُمحي قال: رافقيني وتسلـَّلي/ ثم تغطـِّي بكِ/ وخَط في اللّوح/ فالمتكئ على اختيارك/ كمتـِّـكئٍ على الكون.

شارك مع أصدقائك