رواية انتحار تكتيكي .. الفصل الرابع

شارك مع أصدقائك

Loading

د. تهاني محمد 

 

(20)

سنتان وديعتان.. لملمتِ الناسُ فيها جراحَها، وملأتْ رئاتها من الهواء النقي غير الممزوج بالدخان والبارود، ولملمتُ فيها أنا بعضاً مني، محاولاً ترميمَانكساراتي، ومدارياً ألمي.

خبَّأتُ عينيك العشبيّتين في ذاكرتي.

نعم، أعلم أنك ملكُ رجلٍ آخر.. تنثرين الربيعَ في زوايا بيتهِ بخضرةِ عينيك.

أتذكرين حين كنتُ أغني لك؟

ما زلتُ أدندنُ بتلكِ الكلماتِ حين يغشي خيالك وحدتي، ويحملُ لي نسيمَ الصباح شذاك:

يانبعة الريحان حني على الولهان..  حني على الولهان..

جسمي نحل والروح ذابت وعظمي بان ذابت.. وعظمي بان

من علتي ال بحشاي ما ظل إلي من راي.. ما ظل ألي من راي

دائي صعب ودواي ما يعرفه إنسان.. ما يعرفه إنسان..

الخيالُ هبةٌ من الحياةِ، تتعطفُ بها على كلِّ عاشقٍ مفلس. ستسكنين أحلامي يا ندى ما حُييتُ؛ إنه وعدُ عاشق.. ولن يخلفَ العاشقُ المجنونُ وعده.

*******

تزوجتُ بعد أن انتهتِ الحرب، وبعد أن أقسمتْ أمي أنها ستضربُ عن الطعامِ إن لم أتركْ جنوني وأتزوج، كانت ترتعدُ خوفاً عليَّ، وتعتقدُ بأنني جننتُ بسببِ حبسي في الزنزانة، وبسببِ وحدتي، أهيم على وجهي دون زوجة أو حبيبة.. يا للعجائز، كم يملكن من خيالٍ واسع!

ليس خيالهن فقط هو الواسعُ، بل شبكةُ اتصالاتهنَّ العجيبةِ، والممتدةِ من حيٍّ إلى حي، فقد كانت تعرض عليَّ كلَّ ليلةٍ خارطةً لبناتِ الحي، وتطلبُ مني أن أختارَ زوجةً منهنَّ، وقد كانت تذكّرني بفعلها هذا، بصاحبِ محلِّ الستر الرجالية، وهو يضعُ أمامي ستراً بألوانٍ وموديلاتٍ مختلفة،منتظراً مني أن أختار سترتي.

أظنُّ أن شريكَ حياتنا هو من ينادينا، ولسنا نحن من نبحثُ عنه.. شيء ما فيه سيجذبك، سيقول لك اقترب، أنا بيتك؛ وهذا عينه ما حدث معي.

كنت أصادفها كل صباح عند خروجي لعملي، فتاةٌ شقراءُ بضفيرةٍ تنسدلُ حتى ما بعد خصرها الرقيق، عيناها البنّيتان تملئاني بالراحةِ والسكينة، أحسستُ أن عينيها تخبرني بشيءٍ تحاولُ هي إخفاءه، وميضٌ يفضحُ مشاعرَ حبٍّ يغمرُ روحها، لكن لسانها يرفض التصريح.

زوجتي سلمى امرأةٌ طيبة، تعملُ باحثةً اجتماعية في المدرسة الثانوية للبنات، الواقعةُ على رأسِ الزقاق الذي يقع فيه بيتنا، كان زواجي ضرورةٌ من ضروراتِ الحياةِ الكثيرة، ولم يكن بدافع الحب.لكنني الآنأكنُّ لها مشاعرَ الودِ والامتنان، فقد جاهدنا معاً طيلة سنوات زواجنا، وأنجبتْ لي أولَ طفلٍ بعد سنةٍ واحدةٍ من زواجنا، أسميته علي، على اسم والدي، ولأحققَالرغبةَالملحّة لوالدتي.

مشكلتي الوحيدة في زواجي هذا هو والد زوجتي، إنه بهلوانٌ متمرس، رجلٌ انتهازي، لا يحمل ولاءً سوى لنفسه وأمواله.

فكلما قدّمَ كشفاً بأسماءِ رجالٍ رفضوا الانتماء لحزبهِ؛ يُكافأ باعتلاءِ السلّمِ درجةًأخرى.

الأستاذ شاكر والد زوجتي، رجلٌ قصيرُ القامة،أصلعُ الرأس، له عينان كعيني الصقر، ولسانٌ مثلُ شفرةٍ حادة.يتجنبونه الناس حفاظاً على ماءِ وجوههم، ويتملّقون له آخرون خوفاًوطمعا.

كلما رأيته وددتُ لو غسلتُ صلعته بالرمال الساخنة..

فالهدنةُ القصيرةُ انتهت، ولم تمر على سعادةِالناسِ بانتهاء الحرب سوى سنتين. وفي صيفٍ قائظٍ لشهرِأغسطس جُررنا إلى هوّةٍ سحيقةٍتسمى غزوا.. غزو دولةِ الكويت، الجارةِ القريبة جداً.

إنه المهرُ الذي علينا أن نقدّمَه كي يرضى الزعماء، نقدّمُ حياتنا التي لانملك سواها؛ كي يحققَ الرؤساءُ مجدَهم الفردي.

لكننا لسنا في زمن المعلّقات ، ولا زمنِ الفتوحات، إننا في زمنٍ تحكمُهُ الولاياتُ المتحدة، وتحفر البئرَفيه إسرائيل.. ليسقطَ فيه الأغبياء.

فها نحن في بئرٍ مظلمة، نعيشُ في قاعِها منذ عُوقبنا بحربِ الخليج الثانية،جزاءَ غزونا للدولة الجارة..عُوقبنا على فعلٍ لايدَ لنا فيه.

وبدل عملٍ واحدٍ، صرتُ أعمل صباحاً ومساءً كي أسدَّ حاجتي وحاجةَأولادي الأربعة اللذين رزقت بهم في سنواتِ الحصار والجوع.

كنتُ أشتري الملابسَ المستعملةَ،أنظّفها وألبسها؛ كي أتمكنَ من أن أوفّرَ لأولادي ملابساً جديدة، إنها لعنةُ الغزو.. سنواتٌ من الحصارِ لم تبقِ لنا مانسترُ به أجسادنا..

باعَ جاري السجادةَ الوحيدةَ التي يجلس عليها في الشتاءِ ليدفئَ عجيزتَه اليابسة.واشترى بثمنها طحينا ورزّا.

كان بعضُ الناسِ يُقْدِمُ على الانتحارِ حفاظاً على كرامته من الهدر، كانوا يفضّلون الموتَ على أن يمدوا أيديَهم للناسِ ولذلِّ العوز.

في أحدِ الأيامِ سمعنا أنَّ رجلاً من البصرةِأقدم على قتلِ بناته الأربعةِ من شدّةِ الفقر.. فضّلَ قتلهنَّ على تشردهنَّ وضياعهن,أحياناً يتمنّى أحدنا الموتَ من شدّةِ بؤسه, كلما شاهدتُ الأطفالَ بثيابهم الرثّة في الطرقاتِ؛ أتذكّر تلك اللوحةَ الحزينةَ للرسامِ الدانماركي “هانز أندرسون” وهو يصوّر صبياً صغيراً متشرّداً، شاحبُ الوجهِ، ناحلُ الجسمِ، قد أخذَ منه الجوعُ مأخذاً,يختبئ خلف الجدار من البردِ والعواصفِ في قريةِ صيدِ الأسماك، ويظهرُ الموتُبهيأةِ رجلٍ عجوزٍ مخيف، محدودبُ الظهرِ، يضعُ يدَه اليمنى على رأسِ الصغير، فيما تحمل يدُهُ اليسرى منجلاً يخطفُ به الأرواح..كان اللونُ الترابي يخيّم على اللوحة، وملامحُ الطفلِ والعجوزِ تبيّن أنَّ الموتَ قد يكون رحمةً للصِبيةِ المتشردين.

سنواتُ الحصارِنشّفتِ البطونَ،وكشّفتِ العورات…

إننا في القاع نقتاتُ الحصى والرمال.

لا أدري وأنا في جوعي ومعركتي مع الحياة.. هل كانت تعاني مثلي!

هل زوجةُ العقيدِ جرّبتِ الجوعَ والمهانةَ في هذه السنواتِ العجاف؟

ياترى..أين أنتِالآن يا ندى؟

هل أصبحتِأمّاً، هل أنجبتِ بنتاً لها لونُ عينيك العشبيتين؟

لا أعلم هل يحرّم اللهُ عليَّأن أشتاقك، وأتلهّفُ لنظرةٍ واحدةٍمن عينيك؟

أبنائي يكبرون يا ندى، ولدي عليّ بدأتْ تتفتحُ زهرةُ صباه وشبابُه هذه الأيام، لو رأيتيهالآن  لقلتُأنَّ له لونُ عينيَّ العسليتين، ونظرةُ الإصرارِوالتمرّدِ نفسها.

هل مازلتِ تذكرين عيني ياندى! أم طَوتِ الأيامُ ذكراي،وصار وجهي نسياً منسيا..

(21)

كنا نفترشُ الأرضَ في غرفةِ المعيشةِ نتحلقُ حولَ صحنٍ من الخبزِالمنقوعِ بالبهارِ والماءِ والملحِ،كانت قد وضعته زوجتي وسطنا أنا والأولاد.كان هذا النوع من الطعام هو ما نلجأإليه حين ينفد كل مالدينا من مخزونٍ للرز والخضروات، وغالباًما كان ينفد بعد أول أسبوع من الشهر.مددتُ يديَّإلى صحنِ الخبزِ المطبوخِ، فلسعتِ السخونةُإصبعي،فأبعدت يدي بانتظار أن يبردَ الطعامَ قليلا،ثم جلتُ بنظري على أولادي الجالسين معنا، وانتبهتُإلى أنَّأصغرَهم سنّاًلم يكن في موضعهِ،فهممتُ بالسؤالِ عنه وقبل أن أبدأ سمعتُ صراخاً يأتي من صوبِ المطبخ، فركضتُأتفقّد الصغيرَ خوفاً من أن يكون قد ارتكبَ حماقةً، وراح يلعبُ بنار الموقد، وحين وصلتُإلى هناك شاهدتُ ولدي وقد أمسكَ بعنقهِالأجدعُذو الحدبة، الذي كان يعذبني في زنزانتي! ورأيتُ سفوداً مشتعلاً في يدهِ اليمنى، وقد علّقَ فيه قطعةً كبيرةً من اللحمِ المشوي، لكنِ الدم ما زال يتقاطر منها.وحين دققتُ النظرُ جيداً في قطعةِ اللحمِ؛أدركتُأنها على شكلٍ كليةٍ شويتْ على النار حتى تفحّمت، ولم يوقفْ تفحّمها نزفَ الدمِ منها.ثم راح يحاول إطعام ولدي الصغير من تلك الكليةِ الفاسدةِ،حينها صرختُ بصوتٍ كالرعدِفأدار المسخُرأسَهُ الكبيرَنحوي وعيناه تشتعلانمثل لهيبِ الجحيم الأسود،بينما كان ولدي يصرخُفزعاًشعرتُ بقدميه الصغيرتين تركلني في خاصرتي، رغم أنه لم يتحركْ من موضعهِ وكفُّالمسخُمطبقةٌ حول عنقه الصغير.

وحين أمسكتُ بطفلي من كتفيه، محاولاً سحبه من بين ذراعيّ وحشٍ الزنزانة ذاك؛ رفعَ طفلي من حدّةِ صراخهِ.عندها سمعتُ زوجتي سلمى تنادي باسمي حسين.. حسين..ما بك؟

وحين استيقظتُ، وجدتني ممسكاً بولدي الصغير النائم بيننا أهزّهُ بقوة، و قد راح صراخُه يوقظُ الجميع.

(22)

توفَّيتْأمّي خلال سنواتِ الحصار،وذهبتُإلى رحابِ ربِّها راضيةً مرضية، بعد رحلةٍ طويلة قطعتها مابين الصبر والجزع، وثقلِ ما تحمل من همومٍ.. نحن جزءٌ كبير منها..والحربُ تلو الحرب، ثم حصارٌ وجوع، ويبدو أنها كانت محظوظة، فغادرتْ قبل أن تحلَّ علينا حربُ احتلالِ أو تحريرِ بغداد، لا أدري أيّاً من المسمياتِ أختارُلأنَّها تعاسةٌ في كل الأحوال.

أغمضتْ أمي عينيها إغماضتها الأخيرة،بعد أن قُرّتْ عيناها وارتاحَ بالها بزواج أختي من ابن جارنا عمر الصباغ..الصباغُ لم يكن لقباًلعائلته، بل هو اسم الشهرةِ الذي أغدقه عليه أهلُ الحي تيمّنا بمهارةِ أصابعه في تدويرِ فرشاةِ الصباغةِ على الجدران،الحائلة اللون، أو التي لم تُلوّنْ بعد، عمر أشهر صباغ في بغداد، عمر الصباغ.. هكذا كانوا ينادونه.

لم يكن عمر ميسوراً، ولا حاله أفضل من حالنا، لكن أمي كانت تعد عمرا بمقامِ ولدها، وتردّدَ دوما أمام أختي فضائلَ عمر وشهامته، حتى اقتنعتْأختي بالزواج. ثم أنها كانت تمكثُ في كل صفٍّ دراسيٍّ سنتين حتى تتمكن من اجتيازه.

أما أنا فقد أعطيتُ موافقتي على هذا الزواج متأخراً، بعد أن أعيتني كل الحيل في تحبيبِ الدروس إلى أختي،التي لا تكره شيئاً في الدنيا ككرهها للدراسة.

فليكنِ الزواجُ حياةً أخرى لها،يبدو أنها لن تخفقَفي استيعابها.

كنتُ أزورُأختي كثيراً، فهي لم تبتعد عنا بعد زواجها، بل قد غيّرتْ مكانها فحسب، من بيتنا إلى بيت جارنا عمر، ولم أشاهدها في كل زياراتي تلك في حالة من عدمِ الرضا أبداً، يبدو أنَّأمي كانت تتميزُ بفراسةٍ كبيرة حين أكّدتْ لنا أنَّ زواجَأختي بعمرَ سيكون زواجاً سمته الودُّ والرحمة.

أمي لا تعرف القراءةَ والكتابة، لكن فطرتها كانت نقيةً، لم تلوثْها أفكارُ التطرّفِ والعدوانية، فلم تبالِ بكيفية ذراعي عمر حال صلاته، أكان يسبلهما أو يكتّفهما..كان يكفيها أنه يصلّي، وهو متوجّهاً إلى نفسِ القبلةِ التي نتوجّه نحن إليها عند صلاتنا…

هناك من يولدون بفطرةٍ سليمة، ثم يدلقون على بياضها المشعِّ نجسَ المياهِ الآسنة من تعصّبٍ غير مبرر. دوماً تنمو يرقاتُ البعوضِ والديدانِ حين يكون الماءُ راكداً في البرك والمستنقعات..من المثيرِ للدهشةِ أنهم يصرّون على إطفاء ظمأهم بالشربِ من المستنقعات، وكأنَّ ما فيها من عفنٍ رانَ على قلوبهم، فلم يعد بمقدورهم رؤيةَالماء الزلال.

(23)

لم يكن حالي يختلف كثيراً عن حال أمي، فقد كنا نتناوب أنا وهي القلقُ على مستقبلِ أخوي اليتيمين، وحين أكملَأخي دراسته وتخرّج من ثانويةِالصناعة، وأصبحتْ لديه خبرةٌ جيدةٌ في عملِ الكهربائيات للأبنية؛ مدَّ له زوجُأختي يدَ العونِ، وعرضَ عليهِالعملَسويةً مع المقاولِ البدين عبد السلام في أعمالِ تشييدِ الدورِ والمحالِ التجارية، كفريقِ عملٍ واحد، فيأخذ أخي بعملِ خريطةِ الكهرباء للأبنيةِ المشيّدةِ، ويقوم زوجُأختي بصبغِ الجدران والأبواب.

عرضُالعملِ هذا كان فرصةً غير متاحة للجميع، فحين تجدُ عملاً في بلد خنقه الحصار، وجفّتْفيه أمعاءُ الناسِ من الجوعِ لن يرفضهامتعالياً.. أيّاً كان نوعها.

ولا أدري كيف أصبحا أخي وزوجُأختي مثل توأمٍ متماثل.ربما هي ذائقتهما المشتركة،أو عملهما محاذيان لبعضهما طيلةَ النهار، أو روحُ الدعابةِوالنكتةِ التي تضجُّ بها روحيهما.

أو ربما هي تلك السمراءُ واسعةُ العينين،شقيقةُعمر التي طيّرت لبَّأخي وحولتْه إلى مجنونِ ليلى.. ترقدُ الهالاتُ السوداءُ تحت عينيه، ويشحبُ وجهه كلمّا مرّتْ سيرتها على لسان أمي.

كان ارتباكه يفضحُهيامُه بها،وحين رمقته أمي بنظرتها الثاقبةِ مثل نظرةِ خبيرٍمحترفٍ لكشفِ الجرائم، وفاجأته بسؤالها عن اهتمامه وسرِّ خجله وصمته وارتباكه حين تزور ليلى منزلنا، وهل هو واقعٌ في حبها؛ كانتِ ابتسامته العريضةُ تكفي لتحملَأمي نفسها وتلفُّ حولها عباءتها السوداء التي تغلق عليها خزانتها ولا تخرجها للنور إلا في الأعياد والمناسبات السعيدة،أو الحزينة وتنتعل(شحاطتها) السوداء الجلدية، ذات الحلقة الفضية في وسطها، وتحلُّ ضيفةً عزيزةً على أمِّ عمر، زوج أختي، طالبةً منها يدَ ابنتها الجميلةِ ليلى لأخي مرفقةً طلبها بجملة:

(لن أشربَ قهوتكم، إلا بعد قبولكم طلبي)

تزوّجَأخي من ليلى صاحبةِ العينين السوداوين الناعستين، وسكنَ في الطابقِ العلوي من بيتنا بعد أن أضافَ له حماماً صغيراً بجانبِ غرفةِ نومهِ وصمّمَ هو بنفسهِ الكهرباءَ وشدَّ مصابيحه وطلا عمر له الجدران والأبواب.فأصبحنا بعد زواجِأخي وأختي مثل قبيلةٍ تسكنُ في حيٍّ واحد، نجتمعُ في يوم الجمعة في بيتنا في الطابقِ الأول، الذي أسكن فيه أنا وأمي وسلمى زوجتي

وأولادي.

كان يحدث بعضُ الهمزِ واللمزِبين أخي وزوجِ أختي عمر، حين يرى من يصلي مسبلَ اليدين والآخرَ مُكتِّفَ اليدين،أو حين يرى أحدهما يسجدُ على تربةٍ صغيرةٍ بحجمِ قطعةِ البسكويت،والآخرَ يلصقُ جبهته على سجّادةِ الصلاة.

ورغم أنَّ”ويلٌ لكلِّ همزةٍ لمزة”إلا أنَّ الاعتدادَ بالرأي كان مشكلةً كبرى، تثير الجدلَأحيانا.

ولم تكن اجتماعاتنا يوم الجمعة على الغداء تخلو من بعض التقاذف بالكلمات بين أخي وعمر،إلا أنَّ ذلك لم يتعدَ حدودَ السخرية والجدل الأحمق بين شابين، يثير كل منهما الآخر حتى يدفعه للغضب ثم يختتما جدالهما بنوبةٍ من الضحك،فيبدو وجهُأخي المحتقنِ، كأنه حبةُ طماطم في أواخر موسمها،أما عمر بحاجبيه الكثيفين، واللذين زاد التقطيب من بشاعةِ منظرهما،يبدو مثل صقرٍ عجوزٍ حانقٍ مغتاظ.

(24)

كانت أمي تشاركنا غدائها الأخير في جمعتها الأخيرة،حين قرَّرَ ملكُ الموتِ النظرَ في وجهها، وأمرَ روحَها الطيبةَ بتركِ الجسدِ الترابي المتعب والتحرر منه نحو حياة أخرى نجهلها.

حينها كانت أمي تجلس بيننا متربعةً على البلاطِ البارد، في الجمعةِ الثالثة، من شهر تموز، تمسكُ بيدها كوبَ الشاي الساخن، وتنصتُ لحديثِأخي الطويل، حول رجلٍ كان قد صادفه في أحدِ المباني التي يعمل فيها لمدِّ الأسلاك الكهربائية على الجدران.

قال أخي:إنَّالرجلَ كان أحد العائدين من الأسر، فقد أخذه الجنودُ الإيرانيّون أسيراً هو ومجموعةً كبيرةً من الرجال في إحدى المعارك التي اشتدّتْأيام الحرب العراقية الإيرانية، وظلَّأسيراًهناك سنواتٌ طويلة،إلى أن عاد بعدانتهاء الحرب بسنوات،ولم يكنِ الرجلُ قد تزوّجَ قبل أن يذهبَ للحرب، وكان اسمه ضمن عدادِ المفقودين، لذا كان من الأفضل لمصالحِ أخوتهِالثلاث، الذين كانوا يديرون العملَ معه في محلٍّ لبيعِ الأقمشةِ في حي الكاظمية؛أن تكون كلمةُ مفقود تعني متوفي.. ليكون  تكالبهم فيما بينهم واختلافهمذريعةًلبيعِ المحل الكبير، وتصفية الحسابات كلها.وحين عادَ الرجلُ من الأسر الطويل لم يجد شيئاًليعتاشَ منه.. ولا مال ليديرَ به تجارة جديدة، وقد أدارَ له أخوته ظهورَهم.. بعد أن كانت بيوتهم عامرة بسببه هو.

فأخوة يوسف لم تزلْ قصته تتكرر.. ولطالما كان الذئبُ مظلوماً، وبريئاً من دم يوسف.

قد عاد الرجلُ من أسرهِ الطويل في حال لا يحسد عليه، فهو قليلُ الكلامِ، لا يكاد ينطق بجملةٍ حتى يقطعها راكناً إلى صمتهِ مرة أخرى، منعزلاً، منغلقاً على عالمه الخاص،وكأنه ما زال في سجنه الذي عزلوه فيه، هو ورفاقه بعيداً عن العالم الخارجي، لا راديو، لا تلفزيون، لا صحف.. وكانوا يكثرون من جلبَ الكتبِ الدينيةِ لهم، حتى أقاموا مكتبةً خاصة بها داخل المعسكر.

يقول هذا الرجلُ الذي عاد من أسرهِ – وكأنه عادَ من الموتِ – أنهم كانوا يعاملوننا في الأسر على أننا كفّارٌ، أو ضالّون، أو علمانيون، أو أتباع آديولوجياتِ النظام الكافر، حتى أنّا كنا نصوم ونصلي مثلهم.

 

لم يكن أمام الرجلِبعد عودته وقد استحالَ حالُهُ ومالُهُ إلى إرثٍ تفرّقَ بين الأخوةِ؛إلا أن يحملَ نفسَهُ ليعملَ في طلاءِ الجدرانِ مع عمر، الذي لم يبخلْ عليه بالتوسّط لدى أبي سلام المقاول ليوافق على تشغيله معه.

كانت أمي تستمعُ لقصةِ الرجل وتُحوقلضاربةً كفّاً بكفٍّعلى ما آل إليه حالُ الرجلِ المسكين، فانتبهت إليها وقد شحب لونها،ووضعتْ يدها فجأةً على صدرها، وهمستْ بصوتٍ ضعيف:

– ولدي حسين، أشعر بضيقٍ في صدري.. وكأنَّ ثقلاً كبيراً يجثم فوقي..

قفزتُ من مكاني، وقرْفصْتُأمامها أمسح وجهها بماءٍ بارد، لكنها سرعان ماسقطتْ على جانبها الأيمن، مغمضةُ العينين، وقد توقفَ صدرها عن العلو والهبوط معلناً توقفَ تنفسِها.. صرختُ بها أمي.. أمي… بماذا تشعرين.. هل أذهب بك إلى المستشفى؟!!

كان الجميعُ قد تحلّقَ حولي، وأنا أحتضنُ جسدَأمي، واضعاً رأسي على صدرها.. مرةًأحاول الاستماعَ لدقاتِ قلبها، وأتحسسُبسبابتي رسغها مرة أخرى، باحثاً عن أيِّ أثرٍ للنبض، لكنها كانت قد غادرتنا إلى غير رجعة.

بعد وفاةِأمي أصبحَ البيتُ معتماً، كمن أطفأ سراجَهُ الوحيد، وراح يغطُّ في ظلمةٍ موحشة.

كنتُأمرُّ على خزانتها الخشبيةِالمصنوعةِ من خشبِ الخيزران، والمنقوشةِ بيدِ نجارٍ ماهر، يحسنُّ حفرَ الأخاديدِ والمرتفعاتِ على ألواحِ الخشب، حتى تبدو الزهرةُ التي حفرَها بأوراقها الكبيرة، والفراشةُ الحائمة حولها كأنها روضةٌ نبتتْ فوق لوحِ الخشبِدون أن تمنَّ عليها الشمس بالضياء.

كنتُ أقضي ساعاتِ حزني في غرفةِ نومِ أمي، أفتحُ بابَ خزانتها، وأبحثُ عن عباءتها السوداء المعطّرة برائحة المسك،تلك الرائحةُ التي تعبقُ من طيّاتِ ثيابِ العجائز الطيبات في الجنوب، حيث حرارةُ الشمسِ قد لفحتْ وجوههنَّ الودودة، وملأتْ قلوبهنَّ بعاطفةٍ لو وزَّعتها على الكوكبِ بأسرهِ ما كانت لتنفد.

أحتضنُ عباءتها وثيابها، وأشمّها طويلاً،فتعود بي رائحةُأمي إلى دفءِ ساعاتٍ مضتْ،حين كنتُ أقتربُ منها لأقبِّلَ رأسها ويديها.

عطرُ عباءةِ أمي، وخزانتها الخشبية، وغرفةُ نومها الصغيرة التي تركتها كما هي والتي لم أغيّرْ أيَّ شيءٍ فيها؛ كان يخففُ عليَّ عذابُ الفراق.لكن عذابي لفراقِ تلك التي غابتْ عني، ولم تترك لي أثراً منها لم أجد حلَّاً له.. ولا بلسمٌ يداويه، سوى علقم الصبر.

فحتى صورتها الوحيدة التي كنتُ أحتفظُ بها في جيبِ بذلتي العسكرية أيام الحرب العراقية الإيرانية، فقدتها في رحلتي الدهماء بين المستشفى والزنزانة.

لكن عينيها محفورتان في مخيلتي، وحبتا الكرزِ في شفتيها لم تذبلا في قلبي رغم الغياب.

وكثيرا ما كان يشتدُّ بي الشوقُ لخضرةِ عينيها ويجافي النوم جفني، فأقضي ساعاتِ الليلِ مع أقداحِ الشاي والسجائر، وأنا أدندن بصوتٍ خفيض تشوبه الحسرة:

من تزعل.. توحشني الدنيا واتخيل غيرت ظنونك

ومن ترضى.. يظل شوك البيه يذوبني بنظرات عيونك

بس حبك قدري المكتوب.. تدري شكد حمّلني ذنوب…

*******

قلبي يئنُّ يا ندى.. يئن…

وذاكرتي أرهقها الغياب..

ومنفضةُ سجائري تستغيثُ متّخمة..

لا الصبرُينفعني..ولا النسيانُ يواسيني…

مذاقُ المرارةِ في فمي..

والسكرُ في فناجيني..

ألا يا عشبيةَ العينين..

هل من موتٍ رحيمٍ يوافيني؟

(25)

مارينززززز

الوقت ربيعاً.. شمسٌ دافئةٌ تشقُّ اضطرابَ الغيوم، ورجالٌ من كوكبٍ آخرَ يحتلّون العاصمة.

صباحٌ جديد، وفزعٌ جديد.. خلاصٌ مدفوعُ الثمنِ سلفاً، فشعبٌ محكومٌ بالحديدِ والنارِ؛ لن يحررَ نفسَهُ بنفسِهِ…

ومادمتَ لا تقوى على تحريرِ نفسك، فاستعدْ لدفعِ ثمنِ الحريةِ للغريبِ، الذي مثّلَ دورَ المنقذ والمخلص، وابتلعتَ أنت الطعمَ دون أن تعي حقيقةَ عبوديتك الجديدة.

في ليلةٍ واحدةٍ انهارَ نظامُ حكمِالثلاثين سنة، اختفى الزعيمُ دون أن يجدَأحدٌ له أثراً، وذاب الرفاقُ مثلَ حبّاتِ رملٍ في نهر..

الجيشُ الأمريكي، وقوّاتُ التحالفِ تتجول في كلِّ مكان، رجالٌ ببذلاتٍكاكية، ونظاراتٍسوداء غريبةِ الشكلِ، تعتلي أنوفَهم الحمراء، وجوهٌ شمعية، أجسادٌ رشيقة، وبطونٌ ضامرة، تحت صدورٍ عريضة، وعضلاتٍ مفتولة.. طالما كنا نشاهدهم في الأفلامِ ونتعجّبُ من طولهم الفارع، ولونِ البحر في تلك العيون، التي أخفوها بنظاراتٍ كبيرةٍ،ورؤوسٌ تقبعُ عليها خوذٌ مرقّطةٌ،تجعلهم يبدون مثلَ كائنٍ فضائي حطَّ تواً على ترابِ العراق الممزوجِ بالبارود.

حملاتُ مداهماتٍ واسعةٍ، تجتاحُ الأحياءَ السكنيةَ، بحثا عن إرهابيين ومتطرفين…

دباباتٌ و أرتالٌ محمّلةٌ برجالٍ ذواتِ وجوهٍ شمعيةٍ، يصوّبون رشاشاتهم بخوفٍ وفزعٍ إلى المارّة، يشقّون السيرَ وهم ينظرون إلى الأمام، وأسلحتهم مصوّبةٌ نحو السياراتِ وقد يضربون السياراتِ بقناني الماءِ بعنجهيّةٍأمريكية لايمكن أن تُخطئ، ويواصلون شتائمهم بحقِّ كلِّ من يرونه في الشارع، وقد كتبوا على مؤخرات همراتهم “أذا اقتربتَ بمدى 100 م ستكون عرضةً للقتل” وعبارةٌأخرى كُتبتْ بخطٍّ فسفوري يشعُّ في العتمة “منطقة القتل أقل من 100م”

القتل..كلمةٌ صار تداولها أكثرَ من تحيةِ الصباح والمساء..

عبواتٌ مزروعةٌ في الطرقات، شوارعٌ خاليةٌ من هويتها، مدنٌ بأكملها قُلِبتْ رأساً على عقب، جثثٌ تلقى في القمامةِ كل صباح، عصاباتُ خطفٍ وقتل، ملثَّمون مجهولو الهويةِ والانتماء، جثثٌ تلقى في دجلةَجعلتْه يتقيَّأ مياهه..

يبدو أنَّ هناك موضةً جديدة، تسري مثل الحمّى في بلدٍ صار على جرف الانهيار، حتى شاكر والد زوجتي صار يجاري موضةَ العصر الرابحة، عندما أتى لزيارتنا قبل أسبوع، فاجأتني هيأته الجديدة، فقد خلعَ البذلةَ العسكرية التي يلبسها الرفاق، واستبدلها بجبّةٍ وعباءة، وغطّى صلعته اللامعة بكوفيةٍ بيضاء، والتصقتْ سبحةٌ من الكهرب الأصفر في يده اليمنى، فلم تكد تفارقه، وهي تلتفُّحول مركزها مثل أفعى.. كانت يده اليمنى تقّلبُ حبّاتِ الكهرب دون توقّفٍ، ويتمتمُ بكلماتِ شكرٍ واستغفار، كما يفعل الزاهدون، ولاحظتُ خاتماً بفصٍّ أبيضِ اللون في بنصرهِ الأيمن، يومها ضحكتُ حتى أصابني سعالٌ شديد، وغضبَ مني شاكر،ناعتاً إياي بالملحد، فقط لأنَّني سألته عن سببِ تديّنه المفاجئ.

كان مثلَ الحرباءِ يغيّر لونَه حسبَ المحيط ..

أذكرُ أياماً كان الرفيقُ شاكر يافعاً أو أقلَّ هرماً مما هو عليه اليوم، كان يتبخترُ بمشيتِه وسط محلتنا، وأرنبةُ أنفهِ ترتفع بزهوٍ حتى تكاد تلامس السماء، كان يردُّ التحيةَ بإيماءةٍ من رأسه الأصلع، إيماءةٍ متكاسلةٍ متثاقلةٍ على هؤلاء الذين يسوقهم سوءُ الحظِّ، فيلتقون به على قارعة الطريق ذهاباًأو إيابا..وبما أنَّ الواجبَ الوطني يحتِّمُ على كلِّ مواطنٍ شريفٍأن يحترمَ الرفاقَ؛ فكان من الجرمِ على تلكم المساكين أن يشيحوا بوجههم عنه،أو يتماهلوا في تحيتهِ وتبجيلهِ، وعليهم أن يبتلعوا تلك الإيماءةَ الباردةَ التي دفعتها صلعتُهُ اللامعةُ الموقرة إليهم، فهي صلعةُ رفيقٍ حزبي كبيرٍ ناضل أيامَ النضال السلبي والإيجابي،والتركوازي،والمائي، والبرمائي، إلخ… من المسمياتِ الرفاقيةِ الثورية. كان الرفيق شاكر يخدمُ الوطنَوترابَه،ُ ويرهقُ جسده الجاف مثل سمكةِ الزوري في اجتماعاتٍ حزبيةٍ مكثّفة لتوعيةِ الشبابِ لما تحمله الثورة من فكرٍ وهوية، والخائنُ هو من يأبى التلاحمَ مع المناضلين والنضال، ثم إنَّ شاكر يحمل على كاهلِه مسؤوليةً ثقيلةَ الوزن، ذوتْ تحت ثقلِها عظامُهُ وتسطَّحتْ عضلاتُ ذراعيه وساقيه وردفيه، مع أني اذكرُأنَّ ردفيه يابسان منذ الأزل، لا عضلَ ولا شحمَ فيهما,يشبهان مؤخرةَ قردٍ مصابٍ بمجاعةٍ مزمنة,وحين أرى مؤخرةَ الرفيقِ شاكر وهو يسرعُ الخطى أمامي في الطريق أحياناً؛ لا تنفكُّ مؤخرةُ القرد الذاوي ترتسم قبالتي، ثم بكثيرٍ من القرفِ والغثيان يذهب خيالي ليقارنَ بين المؤخرتين، فتبدو لي مؤخرةُ القردِأجملُ من مؤخرةِ الرفيق شاكر؛ كونها غير مغطاةٍ بالشعر.

كانتِ المسؤوليةُ شديدةَ الوطأةِ على والدِ زوجتي المناضل أيامَ نضالهِ في صفوفِ الحزب,فكان يجتهدُ في صنعِ بيئةٍ ملائمةٍ للقادةِ الكبار في الحزب والثورة، ليتمكنوا من متابعةِ نضالهم وتضحياتهم الجمَّة في سبيلِ الوطنِ وأبناءِ الوطن الكسالى,ولأنَّ كلَّ رجلٍ مناضلٍ يكون مثقلاً بالهموم؛ لذا يتحتمُ على الشعبِأن يسعى في مؤاساتهِ وتوفيرِ كلِّ وسائلِ الراحة له,فكان الرفيقُ شاكر على أهبَّةِ الاستعدادِ لخدمةِ القادةِ المناضلين، الذين هدّتْ خدمةُ الوطن أجسامَهم، حتى صارتْ تغلي الدماءُ في عروقهم ليلاً، وتحتقنُأعضائهم التناسلية بمائها الحبيس، وصار من الواجبِأن يعبِّرَ الرفيقُ شاكر ومن حذا حذوه عن حبِّهِ لخدمةِ وطنِه، فكان يأتي بالراقصاتِ والغجرياتِ، وصغيراتِ العاهرات، ممن لم يُستهلكْ جمالُهن َّولحمُهنَّ الأبيض بعد,ثم يشرفُ بنفسهِ على جلساتِ النضال تلك، ولياليها الحمراء الدامية بكلِّ مايمليه عليه الوطن من إخلاص من المساء وحتى انبلاج الفجر الصادق، وبعد أن يتبيَّنَ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجر بوقتٍ طويل,وحين يطمئنُّ على القادةِ والمناضلين، بعد أن أعياهم الهزُّ الرقصُ وقد انطرحوا مخمورين على الأسرّة في أحضانِ العاهرات، اللواتي كنَّأيضاً يخدمنَ الوطنَ وأبناءَ الوطن حين يفتحنَأفخاذهنَّ ويمكننَّ القادةَ العظامَ من أن يقذفوا في فروجِهنَّ ماءهم العظيم؛ ينسحب عندها الرفيق شاكر، عائداًإلى بيتهِ يعلو الزهوُ صلعتَهُ، ويتلألأ عرقُ الكبرياء على جبهتهِ الضيقة، فقد أمضى ليله ساهراً، يحرس الوطن ويتفانى حدَّ الموتِ في تبجيلِ الثورة والحزب، الذي لو أخبره أحد يوما أنَّ الشمسَ ستشرقُ من مغربها لصدَّقه، على أن يصدقَأنَّ تلك الثورةَ وقيادةَ الثورةِ ستنهارُ بضربةٍ زلزاليةٍ واحدة لا ارتدادَ فيها، عكس قوانين الضرباتِ الزلزاليةِ المتعارفِ عليها,وستأخذ معها – في انهيارها-كلَّ ما كان يتمتعُ به الرفيقُ شاكر من وجاهةٍ وسلطة، ثم تجبره الليالي السوداءُأن يختبئ مثلَ جرذٍ مذعورٍ في منزلِ أحدِأقربائه غربَ بغداد.. منزلٌ من ثلاثةِ طوابق، وسطَ مزرعةٍ وارفةٍ، تزدحم بالنخيلِ وأشجارِ البرتقال والليمونِ والرمان، فمهما حصلَ من هرجٍ ومرج، وحملاتِ مداهماتٍ واعتقالاتٍ من قوات التحالفِ وأفرادِ المقاومةِ في بغداد؛ فإنَّ ما قد يحصلُ في مزرعةٍ نائيةٍ أقلُّ بكثير،أو يكاد يكون لا يذكر,لذا كانتِ المزرعةُ بأسوارها، وأجمتها الخضراء، ونخلاتها الباسقة، مخبئاًآمناً لوالد زوجتي شاكر، الذي وقع عنههالآن لقب الرفيق.. وصار نكرةً مهددةً بالسحقِ تحتَ الأحذيةِ الأمريكية،أو العراقية. ظلَّ في عزلتهِ الريفيةِ هناك يتأملُ ويترقَّبُ, ويقرأالأحداثَ عن بعد، ويحلّلها تحليلاً منطقياً يتيحُ له أن يمسكَأولَ خيطٍمن خيوطِ البكرةِ المتشابكةِ، يمكِّنُهُ من العودةِإلى بغدادَ؛ لمواصلةِ نضالِهِ، وخدمتهِ للوطن.. ولكن حسبما تقتضيه الظروفُالمؤاتية، والحالةُ الجوية، ودرجةُ الحرارة والرطوبة,حينها سيختار الزيَّ المناسبَ للدورِ المناسبِ، ومن ثمإلى ساحةِ النضالِ بطلٌ قياديٌّ جديد، بتاريخٍ نضاليٍّ جديد، تدمع له الأحداقُ، وتسيل له الأنوفُ، ويعظُّ له الناسُ الأصابعَ على شدَّتِهِ وطولهِ وعتمةِ لياليه.

في الريفِ، وفي وسطِ المزرعةِ المتراميةِ الفيحاء، كان الرفيقُ شاكرُ يأخذُ مجلسَهُ مع قريبهِ، صاحبِ المزرعة، تحت ظلالِأغصانِأشجارِ الحمضيّات، وشجرةِ التوتِ العملاقة بأغصانها المتشابكة، حيث تجاهدُأشعةَ الشمس، كي تشقَّ طريقها بين الأوراق والأغصان، وتسقطُ بخيوطٍ حريريةٍ دافئةٍ على العشب الذي يفرشُ الأرضَ تحتها,وتهبَ نسماتٌ رقيقةٌ تداعبُأوراقَالأشجارِ الخضراء، فيعبق عطرُأزهارِ القرنفل والقدّاح، مختلطاً برائحةِ الهواءِ والعشبِ الرطب,كانتِ المقاعدُ البلاستيكية تصطفُّ ويُفرشُ الحصيرُ على العشبِ، حيث يحتشد عليهما الأصدقاءُ، والشيوخُ، والوجهاءُ في مزرعةِ حسّان قريب شاكر,حسان رجلٌذو وجاهةٍ وغنى، وعلاقاتٍ متداخلةٍ مخيفة، مثل أذرعِالأخطبوط, وجههُ القرمزي الممتلئ ،ولحيته البيضاء كالقطنِ النظيفِ المنفوش، وتلك الطاقية البيضاء التي يضعها فوق رأسه المدوّر؛ يعطيك انطباع بالراحة والاسترخاء المزيفين حين تنظر إليه لأول مرة , لكنك إن أمعنت النظر جيدا في وسط عينيه الضيقتين، اللتين احمرَّ بياضهما دونما مرضٍ،أو تحسس، ستجد أنَّ الرعبَ والشكَّ يزحفُ نحو روحك، فتلكما العينان لا تعرفان الرحمة، ولا يمتّان لعيونِ بني البشر بصلةِ قرابة،إلا في شكلهما الظاهري، لكن ما ينبعث منهما من خبثٍ ومكر؛ تجعلانهما عينين شيطانيتين – إذا صح التعبير-  رغم أنَّ لا أحداً منا أبصرَ الشيطان،أو عينيه يوما,لكننا مجازاً نشعر بخسّةِ النظرةِ الشيطانيةِإن نظرنا في عينين مثل عيني حسان.

(26)

في جلساتِ السمرِ تلك، التي يختلط فيها دخانُ السجائر بعطرِأزهارِ القرنفل، وسط المزرعةِ وطقطقةِ(استكانات) الشاي المتلاحقة،كانت الأحاديثُ تزدحمُ حول النهضةِ الجديدة للبلد، وعنِالمناضلين الجدد، الذين وصلوا تواً إلى أرض الوطنِ لخدمةِ ترابهِ المقدّس، وأحياناً كان حسان يستقبل في مزرعتهِ ضيفاًأو ضيفين، وربما ثلاثةً من المناضلين الجدد، رفيعي المستوى، فتتلاحمُ الأيادي، وتسخنُ الضمائرَ، وتشحذ الهمم من أجلِإيجادِ حلولٍ سريعةٍ تنقذ البلدَ من سقوطهِ في الهاوية, حصل الرفيق شاكر على ثقةِ أحدِ المناضلين في تلك الموجةِ الهوجاءِ الجديدة، فأعجبتْ ذلك المناضل، صفةُ الورعِ والتقوى التي بدتْ على هيأةِ شاكر بعد الاحتلال,وهو متسربلٌ بالرداءِ الأبيض الناصع، والعباءةِ البنّية المعطّرة بالمسك، التي وضعها بهيبة على كتفيه العظميتين اليابستين,وتلك الدائرةُ الصغيرةُ السوداءُ التي حطَّتْ رحالها وسط جبهتهِ تشي بطولِ سجودهِ، والتصاقِ جبهتهِ بالأرضِوبليالي تهجّدهِ وعبادته.

كانت دموعُ زوجتي سلمى ترهقني، وبكاؤها على والدها، يقلب البيتَإلى مقبرةٍيعلوها العويلُ على الموتى، وفراقِ الأحبة, لذا كنتُ أحملُ نفسي وزوجتي مكرهاً، رغم سوءِ الوضع الأمني والاشتباكات هنا وهناك، وأذهب بها حيث المزرعة البعيدة، فنمكثُ هناك ليلةًأو ليلتين، تقضيها سلمى في الحديث مع أبيهاوأقاربها، وأقضيها أنا في التسكّع بين الحقولِ والمزارعِ وأشجارِ التوت,كان يدعوني والدُ زوجتي للجلوسِ معه حين يستقبل الحاج حسان رجالاً رفيعي المستوى ومجهولي التاريخ النضالي,رجالاًببذلاتٍ لامعةٍ، وذقونٍ حليقة، ورجالاًآخرين بذقونٍ طويلةٍ ومسبحاتٍأطول, وآخرين يرتدون لباسَ الشيوخِ وعباءاتهم مع الكوفية البيضاء والعقال,كان المتوافدون على مزرعةِ الحاج حسان من كلِّ نوعٍ، وكلِّ زي، يبدون مختلفين في المظهر واللكنة، لكن هناك ما يجمعهم ولا ريب, كنتُ أستجيبُ لشاكر أحياناً، وأجلس لدقائقَ أحتسي الشاي، وأدخّن، وأستمع لما يقولون, وأستطيعُأن أجزمَأنَّ من يسمعُ لذلك الحديثِ؛ سيرى الجنائن المعلقة قد بُنيتْ من جديد في كل زقاق, وأنَّ فرجَ اللهِ لآتٍ على يد هؤلاء، لكن جرّبْ فقط أن تنظرَ في عمقِ عيونهم، وستفهم أنَّ الغرقَ هو الآتي، وليس الفرج,لذا كنتُ أنسحبُ مسرعاً من تلك الجلساتِ الوطنية جداً، وأطلقُ ساقي للريحِ بين المزارع، مستنشقاً الهواءَ النقي الذي يحمل معه رائحةَ العشبِ الرطبِ، وخبزِ تنورِ الحطب,وحين ترتوي زوجتي سلمى من رؤيةِأبيها؛ نعود إلى بغداد، حيث نقطع الطريق إليها بزمنٍ مضاعفٍ بسببِ الأرتال الأمريكية التي تُوقفُ السيرَ،وتقوم بعملياتِ تفتيشِ الركّاب، رجالاً ونساءً، من الرأسِإلى القدم.

(27)

كنتُ أعتقدُأنَّ جميعَ الناسِ تمتدُّأصولهم إلى (آدم) حسب النظريةِ الدينية،أوإلىأجدادهم القرود،أو أحدِ الكائنات أحادية الخلية،التي تطوّرتْ شيئاً، فشيئاً،حسب نظريةِ التطور ل “دارون” ولم أكنْ أعلم أنهم مقسّمون إلى أنواع،ولهم أصولٌ أخرى.

لكن ما حدث بعد احتلالِ بغداد،أو تحريرها، قُسِّمَ لنا الناسُ إلى فصائلٍ بشريةٍجديدة.

شيعةٌ وسنةٌ على أنواعٍ متعددة، ثم فصائل الدين النصراني بأنواعها، والصابئة والإيزيديون، وكثيرٌ من المعتقداتِ الأخرى، التي يتحددُ من خلالها نوعُ الفصيلِ البشري.

ثم اصطفَّ الناسُ كلّاً حسب فصيلته، فأصبح لدينا خمس.. سبع..أو ثمانيعشرةفصيلة، بدل شعب واحد، ثم بدأتْ تلك الفصائلُ بالتناحر فيما بينها، فصار هلالُ العيدِ يظهر في أيامٍ عدة، وينقسمُ عيدُ الفطرِ والأضحى إلى عيدين أو ثلاثة، حسب الطوائف والمعتقدات.

ولم أكنقد تنبّأتُ مسبقاً بموسمِ التناحر هذا، لذا وقعتُ في الفخِّ حين أسميتُ ابني البكر عليا.

لأنَّ القتلَالآنأصبح حقاً مشروعاً بين الفصائل..

وكل ذلك القتلُقد اكتسبَالشرعيةَ بصرخةِالله أكبر…قتلٌ مباحٌ ليس بالضرورةِ أن تمتلك دافعاً دينيا.. قد يكون الدافع الكره، الغيرة، السرقة، الانتقام للشرف، القتل للقتل فقط…لن يسألك أحدٌ لمَ قتلتَ؟ إنه جنونُ القتل، جثثٌ مكدّسة..والمدافنُلم تعد تتسع.

أذكر في ليلةٍ من الليالي، كنتُ عائداً من عملي، فأوقفتني إحدى نقاطِ التفتيش المنتشرة في مداخلِالأحياءِ والأزقّة البغدادية.خمسةُ رجالٍ ملثّمون يحملون سلاحاً ويرتدون السواد،

ولم يكن بمقدوري التفريقَ،إن كانت نقطةُ التفتيشِ تلك وهميةً من متطرفين،أمنقطةٌحقيقةٌ،أفرادها من الشرطة أو الجيش؟.

لكنني مجبرٌ على التوقّفِ وإطفاءِ محرّكِ السيارةِ والإجابةِ عن أسئلتهم. كان السلاحُ موجَّهاًإلى صدري، حين سألني أحدهم ما اسمك؟

في تلك اللحظةِ تحشرجَالكلامُفي حنجرتي، واحترتُ بالإجابة.. فإن قلتُأنَّ اسمي حسين، قد أُقتلُ على يدِ الفصيلة المخالفة، وإن قلتُأن اسمي عمر، سأقتلُ على يدِ النوع الأول.

فالقتل هنا هو للقتل فقط، إن كنتُ علياًأو حسيناً.. وإن كنتُ عثمانَأو عمر، وحتى إن كنتَتُدعى جورج،أو زياد،أو حتى سرمد؛ يمكنهم قتلك ورميك على قارعة الطريق، لتأكلك الكلابُ دون أن تفهمَ سببَ قتلك.

ليلتها قبل أن أنطقَ باسمي، وأبرز لهم هويّتي، رددتُ الشهادة في سرِّي، واستسلمتُ للموت، لكنِ الرجلُ الملثّمُ نظرَ في هويتي ثم رفع بصره، وأطال النظرَ في وجهي، بعدهاأشار لي بحركةِمن رأسهِ دون أن يتكلم، وأمرني بالتحرّكِ والذهابِ فورا.

أعتقد أنني نجوتُ من الموتِ تلك الليلة لانَّ الرجلَ لم يكن له مزاجٌ في القتلِ،أو ربما كان متّخماً حدَّ التقيؤ من جثثِ النهار التي تكدّستْ على قارعةِ الطريق.

(28)

سكبتْ لي الشايَ الساخنَ، في الكوبِ الخزفي، الموضوعُ أمامي على طاولة المطبخ، ثم جلستْ قبالتي تنظر إليَّ كمن يريد أن يلقي بقنبلةٍ، أو رمانةٍ يدوية.

كان وجهها ذابلاً، وزرقةٌ باهتةٌ تحيطُ بعينيها الوديعتين، يبدو شكلها كمن قضى ليلتهمُسهدا.

بادرتها أنا بالحديث، لأخففَ من وطأةِ الكآبة التي حلّت بيننا:

– ما بك سلمى؟ تبدين متعبة، هل أزعجتك كوابيسي المتكررة، وصراخي الذي يخترق سكون الليل؟ لا تنكري وتكلمي مباشرة، هل تحبّين أن أذهبَ للنومِ في غرفةِ أمي – رحمها الله – كي تستريحي في نومك؟

– وهل تعتقد يا حسين أنَّ ما يتعبني هو قلة النوم، أم هو خوفي عليك مما أنت فيه.

ألا يوجد حلٌّ لحالك يا حسين، فأنت لم ترَ نفسك كيف ترتعش مفزوعاً بين يدي كابوسك المتكرر،وسجّانك، وأنتَ تصرخُ باسمهِ في العتمة، حتى الأولاد باتوا يسألونني عن كوابيسك تلك! وقد صارحني ابنك علي برغبتهِ الملحّة في علاجك عند طبيب نفسي.. فما رأيك يا أبا علي ؟

(وكأنَّ سلمى صفعتني بيد ابني علي )

– سلمى أرجوك، انسي أمري، أنت وعلي، سأحلُّ المشكلةَ هذه الليلة، فغرفةُ نومِ والدتي تنتظر من يدفئ فراشها البارد.

_كلا …لن أوافق على أن تترك سريرك …وقد أخبرتك أن قلبي يضيق كلما شاهدتك على هذه الحال  ..أما كوابيسك تلك فقد أصبحت موسيقاي المفضلة التي أستمع لها كل ليلة

– حسنا إذاً..سأتكلم مع وحشِ الزنزانةِ أن يعزفَ لنا أغنيةً لأمِّ كلثوم هذه الليلة حين يزورني في كابوسي..قولي سيدتي ماذا تريدين أن تسمعي لستِّ الكل؟

****

مسكينة سلمى,فقد كانت تحتملُ معي عذابي، وتتقاسمه مثلَ رغيفِ الخبز,كانتْ تنظرُإليَّ وتبتسم،وعيناها تنطقُ بخوفٍ وقلقٍ لم تقوَ على مداراته. هناك حاجزٌ غير مرئي، يقف شامخاً بيني وبين زوجتي,حاجزٌ بوجهين,مثل جدارٍ بوجهين ملونين بألوانٍ متنافرة, في صفحةِالجدار قبالتي، كانتْ عينان خضراوان واسعتان مرسومتان تحدقان بي طيلة الوقت, تراقباني, تخلعان قلبي,تقفان بين التحام قلبي، وقلب زوجتي,أما واجهةُ الجدارِ التي قبالة سلمى، فقد كانت مطليةً باللونِ الرمادي، أو ربما لا لونَ فيها,حاجزٌ غامضٌ- حسبما تراه سلمى – دون أن تنطقَ، أو تشكو منه يوما, لكن عيناها كانت تشي بها,تنظر لي بحيرة، وكأنها تعاتبني على سرِّ الجدار الذي تجهله، ولا تجرؤ على البوح به، أو سؤالي عنه, كان فمُها مُطبقاً بشدةٍ وبمرارة، على خيبةٍلا تريدُ الخوضَ فيها,لم أخبرْ سلمى يوماً عن جرحي الغائر، وعن العينين الخضراوين اللتان لا تفارقان قلبي وروحي، حتى صارتا جداراً صلداً لا تطاله الندوب,ولذا كنا نكتمُ صراخنا الداخلي حين نجلسُ منفردين أنا وزوجتي,لا أحدَ مِنَّا يريدُ تحطيمَ الجدارَ بمعاولِ الأسئلة,لا أحدَ مِنَّا كان يمتلك الشجاعةَ للنزولِ إلى منجمٍ مظلمٍ باردٍ مليءٍ بالأفاعي، مغلقٌ منذ عقود طويلة,أو ربما منذ أن التحمَتْأجسامُنا كزوجين

شارك مع أصدقائك