قراءة في رواية ( انتحار تكتيكي ) للكاتبة د. تهاني محمد

شارك مع أصدقائك

Loading

( حين يسكنك الوطن .. تتسامى على كل شيء )

# عبد السادة البصري
( أنا فقط أرثي حالي وحال هذه البقعة التي تطاردها اللعنات منذ أن وُجِدت على ظهر هذا الكوكب المسكين ، الذي يتناوب على اغتصابه المجانين مذ ولد سابحاً في فضاء مخيف لا قرار له … ص7 )
عندما تكون الحكاية عن وطنٍ سكن ناسه ، وأخذ منهم كل شيء دون أن يمنحهم أي شيء ، تقف مندهشاً لكل كلمة تقال ، بل تغوص بين الحروف سابراً عمقها وباحثاً عن كوّة أمل لما تفتش عنه وتحلم به ، مثلما يريد بذلك الكاتب حين يأخذك معه برحلة استقصاء وبحث من جديد فيما حدث ويحدث في هذا الوطن !!
من العتبة الأولى للرواية ندرك أننا أمام عمل استذكاري من نوع آخر ، إذ أن الكاتبة تهاني محمد لم تعطنا مفتاحاً معروفاً لروايتها، بل أوهمتنا أن هناك انتحار بشكل لم نقرأ عنه ، لهذا أجبرتنا على سبر أعماق هذا الانتحار وماله وما عليه ، بثريّا نصّها الموسوم ( انتحار تكتيكي ) وهل هناك انتحار بهذا الشكل ، هذا التساؤل الأول الذي يواجهنا عند الشروع بقراءتها !!
تبدأ الحكاية برسالة من بطل الرواية ( حسين ) إلى حبيبته يخبرها بأنه جزع من لعبة الحرب اللا معنى لها سوى الموت والخراب وسيقبل عل إعاقة نفسه بإطلاق الرصاص على ساقه ليخرج من الجيش وتؤرخ الرسالة في سنة 1985 .وتأتي الرصاصة الموعودة لتبدأ الحكاية ، وبانتقالة عبر ثلاثين سنة 2015 تكون النهاية التي أرادها ( حسين ) لنفسه قائلاً :ـ ( مَنْ أبصر الحقيقة هم مَنْ يعتنق فكراً وينشقُّ بفكره عن سير القطيع .. ص11 ) ما يؤكد رؤية البطل إلى كل الأوضاع التي مرَّ ويمرّ بها الوطن اذ يشير في مكان آخر إلى :ــ ( أرى أن المخجل هو سكوتنا عن الباطل ونأينا عن الحق خوفاً أو تملّقا ..ص11 )بعد ذلك تعود بنا الكاتبة حيث الحياة الشبابية لبطلي الرواية ( حسين وندى ) عندما كانا طالبين جامعيين وبداية حبهما الذي رسما له نهاية هي زواجهما رغم كل شيء ، وما أن يتخرجا ويساق حسين إلى الجيش ليكون واحدا من الذين زُجَّ بهم في أتون محرقة لا فائدة منها سوى إرضاء غرور حاكم مستبدِّ لا يعرف غير الحروب والعنتريات الفارغة ، لكنّه ييأس من انتهاء هذه الحرب ليتّخذ قرار إصابة نفسه برصاصة لتقعده عن المشاركة فيها لعدم قناعته بها تماماً ( لقد قاتلت ببسالة يا ندى ، لكنني اكتشفت أن تلك الحرب ما كانت إلاّ خدعة ..ص23 ) ،وتمر الأحداث بين المستشفى والاعتقال وشراسة التعذيب ونسبة الشرّ والحقد الذي يسكن نفوس رجال النظام الفاشي ليعبرها بعد رفع كلية من جسمه عائداً إلى أمه بعد غياب ثمانية أشهر بساقٍ معطوبة وكلية واحدة ونفس تعبى ، وفي الجانب الآخر تكون ( ندى ) محاصرة بألم غيابه وإلحاح خالتها وتذكير أمها لها بفقرهم وحاجتهم إلى الدعم المادي من قبل خالتها وابنها الضابط الكبير الأرمل الذي يريدها زوجة له مهما كلّف الأمر لتنصاع في النهاية لهم وتتزوجه لينجبا ابنة واحدة فقط (سارة ).
في خضمّ الأحداث وتداعياتها نقف متسائلين مع الكاتبة وأبطالها حين يرددون :ـ ( لا أدري لماذا يبقى الله صامتاً عن كل جرمٍ وظلمٍ في دنيانا هذه ؟؟ ص65 )
ورغم كل شي يبقى الوطن ساكناً في النفوس والحنايا ، فحين تنتهي الحرب ويعود كل شيء إلى مكانه يبدأ الناس نهارهم من جديد ، لكن العقل الاستبدادي المهووس بالحروب والدم لن يستكين إلاّ بحرب أخرى ( سنتان وديعتان .. لملمت الناس فيها جراحها ، وملأت رئاتها من الهواء النقي غير الممزوج بالدخان والبارود ..ص89 )، يتزوج حسين نزولاً عند رغبة أمه بعد أن تركته ( ندى ) وتزوجت مرغمة ابن خالتها الضابط الكبير ، ويخلّف ولداً اسمه ( علي ) ومعه أخوة وأخوات ، لكن ( الهدنة القصيرة انتهت، ولم تمر على سعادة الناس بانتهاء الحرب سوى سنتين،وفي صيف قائظ لشهر أغسطس جُرِرنا إلى هوّةٍ سحيقة تسمى غزوا …ص91 ) ويبدأ الحصار الاقتصادي ومعاناة الناس الكبيرة بسببه ويجيء عام 2003 بإعصاره الذي غيّر كل شيء ، الأخلاق والنفوس والضمائر ليبدأ الوطن رحلة أخرى من الموت المجاني والخراب والطائفية واللصوصية والفساد والانفلات الأمني وبعثرة كل الأحلام على رصيف مصبوغ بالدم ، لكن وعلى وفق ما قاله الفيلسوف أوشو :ـ ( تتداخل الحياة بعضها بعض ، كالضفيرة ، وكل شيء فيها هو جزء من شيء آخر .. ص123 )لتبدأ حكاية أخرى بين ( علي وسارة ) الأستاذ الجامعي الذي أحبّ طالبته وبادلته الحب رغم ما سيمرّ من أحداث وعقبات أرزتها المتغيرات قد تغيّر مجرى حياتهما إلاّ أن إصرارهما على أن يكونا زوجين يعيدان بناء الوطن أكبر من كل صخرة كأداء تقف عائقا في طريقهما ، لا الفارق المادي في العيش ولا الطائفية المقيتة ولا أي شيء ، إنهما الوطن الذي ينهض كالعنقاء دائما من بين رماد كل الأزمات والحروب وعنجهية الحكام وفسادهم ، وفي لحظة اللقاء بعد فراق وانقطاع تام لأكثر من ثلاثين سنة تعود الذكريات والقصة وكأنها حدثت للتو بين ( حسين وندى ) ليعيدا لومهما لبعضيهما على ما مضى لكن للكاتبة رأي آخر :ــ ( الماضي والمستقبل هما في أذهاننا نحن فقط ، لا وجود حقيقي إلاّ للحظة هذه.. الآن ..ما تفعله الآن سيصنع المستقبل ويفتدي الماضي ..ص173 ) لتكون النهاية ابتداءً لحياة جديدة أخرى بعيداً عن المنغّصات وفتح نافذة مشرعة على مستقبل الأجيال القادمة ، حيث الوطن الروح وكل شيء ..( خالتي ندى تحتضن الطفلين وتبكي ، فتركتها وخرجت مهرولا أبحث عن أبي وصوت خالتي ندى يأتي من ورائي وهي تصيح ــ سأسميهما حسين وندى ..ص190 )!!
وفي ختام رحلة الوطن المنهوب التي أخذتنا فيها الكاتبة ( د. تهاني محمد ) نقف عند مفترق طرق لندرك أخيرا أن الوطن الذي يسكن أرواحنا مهما ادلهمت عليه الخطوب لن ينكسر أو يموت أبدا :ــ ( من النافذة المفتوحة لغرفة النوم بدأت خيوط الشمس الأولى تتسلل وتشقّ العتمة ، مشكِّلة شلالا من نور تسبح فيه كائنات صغيرة غير مبالية بضجيج الكون ،ثم تراقصت في الشلال فراشتان تسبح أجنحتهما الصفراء الذهبية ببقعها السوداء ، في عالم ضبابي سحري يأتي من بعيد ، من الجانب الآخر ، حيث تسكن الحقيقة خلف أسوار الانتظار . ص192 )
لتمنحنا الروائية فرصة تأمل أخرى لوطن أرادوا له الموت لكنه كالعنقاء دائما ينهض من بين الرماد !!
تهاني محمد سجّلت بروايتها هذه سيرة هذا الوطن لأكثر من ثلاثة عقود ونيف كي نكون شاهدين على ما جرى ويجري فيه ..إنها رواية حقيقية بالتأكيد لأننا كأجيال عاصرنا ما قبل 2003 نعرف أن كل ما جاء فيها من أحداث قد جرت فعلاً هنا وهناك من أرض الوطن وعشنا كل تفاصيلها حتما ، شكراً لك يا تهاني وأنت تسجّلين بعدسة قلمك ورؤياك ما مرّ علينا وقاسيناه من ألم وحب وأحلام وردية وووو…… الخ .
شارك مع أصدقائك