البناء الفني في قصة “حاوية زبالة “للقاصة العراقية وفاء عبد الرزاق

شارك مع أصدقائك

Loading

خديجة كربوب

المغرب

نقتحم قصة “حفلة في حاوية” للكاتبة العراقية وفاء عبد الرزاق ولانشعر أننا نهجم على عوالمها اذ توجد طبقات شعرية وجمالية تكتنف اللغة السردية ,وهذا ما يجعل المشاعر والأحاسيس تنبعث بشكل طبيعي وسلس, ويتم التفاعل مع الحدث لكن لايعني أن النص القصصي يتلاعب بالمكون الوجداني بل هناك قدرة وطاقة قوية تحرك التفكير والوعي ,ولعلنا نلامس ذلك في استهلال الكاتبة قصتها بمجموعة من الأسئلة.
– هل أنا كما أنا أم صرت شخصا لا أعرفه؟ أين هم أصدقائي؟ لماذا مَن يشبهني تصدَّت له الحياة وبقي مَن لا أشبهه؟

ثمة من لا يتشابهون لماذا لا أكون واحداً منهم؟

من أين يأتي كل هؤلاء؟ هل حدث أن جاءوا بعد تكسِّر صحون وثورة واندلاع أكواب ماء من مخمور زعق بزوجته غاضباً ثم أدرك شناعة فعلته وانزوى في غرفة نومه كحيوان غوغائي؟).أي انها ترغب في اعداد القارىء وايقاظه ليتقاسم معها الهم الانساني الذي يؤرقها وتسعى الى تأسيس أفق أخر مغاير ونص مشاغب يرفض اليقين ويشتغل على هاجس السؤال الذي يمهد للمعرفة وتمرير الوعي والتمرد والتحفيز على التغيير وتدمير المفارقات الطبقيةخاصة وأن الكاتبة راكمت بداخلها مجموعة من التجارب والمحن والأزمات بسبب ما عاشه العراق الذي تحول الى بؤرة فساد وحلبة صراع يسود فيها الطغيان والهشاشة ,وبذلك تصبح الكتابة القصصية آلية من آليات الاحتجاج والمقاومة ومناوشة القبح.
ومايستوقفنا عند وفاء عبد الرزاق هو تعدد المجالات التي تشتغل بداخلها, فهي تكتب في الرواية والشعر والقصة مع القدرة على المحافظة على خصوصيات الجنس الأدبي ,انها مسكونة بالانسان والحياة والوجود وتبحث عن كل الامكانيات والمساحات لاخراج ذلك الثقل المأساوي بهدف اعادة الكرامة للانسان واعادة التوازن والانسجام الى العلاقات الانسانية ومحو كل أشكال التسلط والظلم والتمتع بكل الجماليات ,انها لاتقتنع بجنس أدبي واحد لأنها تحولت الى كون به تعدد وتناقضات واختلافات ,وسأحاول أن أدخل الى عالمها القصصي لأقطر بعض خباياه وآليات اشتغاله وهروبه من القيود والانتصار على الحدود الضيقة التي قد تسقط بداخلها الذات ,وكل ما يحمل النص القصصي من دلالات وجماليات وكيفية تشكيل البناء الفني وطرائق السرد.
لقد اختارت الكاتبة وفاء عبد الرزاق العنوان بذكاء لأنها تعلم جيدا مدى خطورة الوقع الذي سيمارسه في نفسية المتلقي, فهو أول كيان دلالي يفشي ببعض أسرار النص القصصي ,ويجعلنا نتطلع اليه لتكتمل لدينا المتعة والحقيقة ,لكن مايثير الانتباه هو نشر الضبابية والغموض والتعقيد في ثنايا العنوان ,ونصبح لحظتها نبحث عن مسالك نلجها لمعرفة مصادر هذا التعتيم الذي يظهر النص في حالة غير طبيعية أي هناك شىء يربك الرؤية ويقف حاجزا أمام الوضوح ,ولعلنا نستشف من خلال صيغة التنكير التي تشكل منها العنوان أن القاصة تسعى الى جعل كل كائن حي يشارك في الحفلة التي يضفي عليها التنكير دلالة العموم والشيوع ,اضافة الى طبيعة الجملة الاسمية التي ترسخ معنى السكونية والثبوت ,بمعنى ان الوضع لايتغير فتتوقف الحركة الا حركة لفظة حفلة التي تقودنا الى أجواء النشاط والحيوية والرقص والفرح والدفء الانساني والديناميكية ,وتتسم بالغموض وغياب العلامات الدلالية التي قد تجرنا الى خصوصياتها.
وتأتي لفظة “في حاوية” لتعميق الأجواء الغرائبية ونصبح أمام عالم متخيل متشابك بين الممكن واللاممكن ,بين المعقول واللامعقول .
لقد كنا ننتظر أن تكون الحفلة في بيت أو فندق أو ساحة عمومية ,ولم نتوقع أن تجري في حاوية ,أي في صندوق خصص لشحن وتخزين المنتجات والمواد الخام وأيضا أعد للقمامة .نتساءل كيف سيكون الحفل داخل فضاء لايليق بالانسان ؟
انه فضاء مكاني لايخلق الارتياح النفسي والفرح ويجرنا الى البؤس والاحساس بالاختناق ,ويجردنا من كينونيتنا الآدمية ويقوم بتشييئنا وفي حقيقة الأمر ان القاصة تحاول أن تجعل من القبيح جميلا داخل العمل الابداعي وتعيد للبؤس قيمته الانسانية في ظل غياب الأمكنة وتقلص المساحات التي يتنفس بداخلها الهامش,و تهدم المفاهيم البرجوازية حول أمكنة الفرح ونظافتها وتضغط علينا بحرارة لكي نلتفت الى حاوية البشر المنسي ونبحث بداخله عن شرارة الضوء .ولانستبعد أن الكاتبة اختارت الاضافة ربما تعاطفا مع المحتفلين وابراز قسوة المجتمع الذي تخلى عن أفراده وعمل على تشييئهم ,وعندما ندقق في الأمر مليا نصل الى أن الاضافة تخلق علاقة حميمية بين المضاف (حاوية )والمضاف اليه(زبالة )اذ لايمكننا الفصل بينهما ,ما أود قوله ان القاصة لاتؤمن بالقواعد والثوابت التي أنشأها المجتمع الرأسمالي, و تؤمن بالثورة والرفض وخلخلة العلاقات الوهمية بهدف تحرير الانسان من قيود الاضافة والهامش البائس.

ويمكن القول ان تجربة وفاء عبد الرزاق تندرج ضمن حساسية جديدة ,تحتفي بآليات جديدة على مستوى اللغة والشكل والمضمون ,ونجد أنفسنا أمام عوالم جمالية وتخييلية مكتظة بالدلالات والعمق الانساني .ولعل قسوة الواقع وجرأة القاصة في استكناه النبض المأساوي ,منح للنص القصصي بعدا غرائبيا موغلا في البؤس والقهر وقدرة على انبثاق لحظة اليقظة والمساءلة والمساهمة في التحريض الثوري على التسلط بكل أشكاله.

ويشكل المكان مناخا وواقعا لما يحمله من شحنات نفسية واجتماعية وثقافية ,اذ يضيء عتمة مرارة الشخصيات التي عاشت ذلك الواقع,ويمكن اعتباره النافذة التي يتنفس من خلالها النص ,ولقد تمكنت القاصة من جعله معادلا حسيا ومعنويا للشخصية بكل أبعادها النفسية والثقافية .ومن الأمكنة التي ظهرت في النص القصصي (حاوية زبالة ,برادهم ,صفيح الزبالة ,صفيحة أخرى ,سكن خارج الصفيحة ,حدود مساحة الصفيح ,بيوت الأثرياء ,مجتمع الصفيح ,بيوت ,مكانا ,شارعا ,مصنعه ).ويمكن توزيعها الى :

_أمكنة مرفوضة ومنخفضة :وتمثلها (حاوية زبالة ,مجتمع الصفيح ,صفيحة أخرى ,حدود مساحة الصفيح )وهي في مجملها تقع في أسفل الهرم الوضيع وتتميز بالسكونية والموت النفسي وتعيش هوية مظلمة غير معترف بها ,تقتات من الزبالة التي تتحول الى ملجأ وحماية في غياب الدولة المسؤولة عن تحقيق السيادة لأفرادها بشكل متساو وديمقراطي .وأمام هذا الاقصاء والتهميش يتحول المكان الى جغرافية جديدة لها حدودها بعيدا عن السلطة المهيمنة (حدود مساحة الصفيح ),وهذا الفعل يجسد الرفض وعدم قبول أفعال السلطة السياسية التي نهبت الوطن ولم تترك فتاتا حتى للقطط ,ولعل الكاتبة أشارت الى ذلك من خلال العبارات التالية :(عن عظمة أو قطعة لحم من فضلات ابنة وزير أو ابن مومس. حين لم تجد ما يغري حاسة الشم نطت راكضة تستدرج القط إلى صفيحة أخرى.)ويصبح المكان فاقدا لمعنى الحياة والكرامة الانسانية بسبب النهب والريع السياسي والعهر وفساد القيم الأخلاقية ,

_أمكنة مرغوب فيها :وترمز اليها الكلمات التالية :(بيوت الأثرياء ,المنازل ,سكن خارج الصفيح )وفي الحقيقة انها أمكنة السلطة التي تجسد مشروعا تربويا وأصولا نبيلة ,وتعيش على امتصاص دماء المقهورين والمسحوقين ,و لاتستحق تلك المكانة لأن فضاءاتها الداخلية بها مزيج من العدوانية وحب الذات والنفاق والقسوة وتدمير الآخر وتحويل حياته الى جحيم وزبالة .وأمام هذه الأنساق الثقافية المتصارعة فيما بينها لاتستسلم أمكنة البؤس والجوع ولاتتعطل لديها المعرفة بل تنخرط في فعل الثورة ( أعاند الريح )والبحث عن أمكنة خارج القمامة (لأتخذ مكاناً أو شارعاً لا تتسيد فئرانه.)مفعمة بالجرأة والانسانية والروح النضالية التي تختلف جوهريا عن الفئران التي تتسيد بسبب سيطرتها على الاقتصاد .ومن هنا تصبح أمكنة الصفيح أكثر نبلا وأخلاقامن أمكنة الثراء والجبن ,وبالتالي تسعى الكاتبة الى ايصال خطاب ثائر يدعو الى الانقلاب على المجتمع الاستهلاكي الذي لايعير الاهتمام للانسان ويسعى الى تدميره ليستمر في استغلال خيرات الأرض .والى جانب ذلك نلاحظ أن القاصة لم تعمل على تسمية أمكنتها بل اكتفت بالنعت كمجتمع الصفيح وحاوية زبالة ,وهذا في حد ذاته يمكن اعتباره بمثابة علامات دالة على المكان وخصوصياته من حيث الشكل والتأثير ,اذ يفتح أمامنا باب التأويل المتعدد وبالتالي فحاوية الزبالة هي جزء من مجتمع القصدير والتي تعكس لنا أجواء العفونة والاختناق والجوع وترمز الى الذات المقهورة التي تفتقد الحرية والحقوق والاعتراف بكينونيتها الانسانية ,وتتحول الحاوية الى طاقة داخلية لمقاومة مجتمع الثراء.

والى جانب المكان يحضر الزمن ليكتمل الكيان السردي والوجود المتخيل ,اذ لايمكن أن نتصور العمل القصصي بدون ذلك المكون الذي يسدي مجموعة من الخدمات .فهو من يكسب الحيوية والتدفق والحياة لفعل السرد ويولد بداخلنا الرغبة في سبر أغوار الشخصيات والأمكنة , اضافة الى قدرته على خلق الانسجام والاتساق داخل القصة. وتمتلك القاصة وفاء عبد الرزاق قدرة فائقة على خلق الحركة الزمنية وتوليد الايقاعات التي تعكس النبضات النفسية والفكرية للشخصيات ,و لاتتوقف عن ضخ الحياة في روح النص القصصي .وهذا ما يجعله قريبا من الصورة السينمائية .ولعل طبيعة النص القائمة على التوتر والاضطراب جعلت القاصة لاتخضع لوتيرة زمنية منظمة فهي تمزج بين الجمل الاسمية والفعلية فنكون أمام ايقاعين هما:

_ايقاع البطء الذي تخلقه الجمل الاسميةوتجرنا الى وضع سكوني لايدعو الى التفاؤل والانفراج ,فكل طبقة اجتماعية تحافظ على وضعها ,فمجتمع الصفيح يركن في العفونة والجوع والقهر في حين يظل الأغنياء يعيشون الاستقرار ويمتلكون كل مقومات الحياة ولهم ثوابت وقناعات تتمثل في انحدارهم من الأصول النبيلة.

_ايقاع السرعة:لتكسير الايقاع البطىء عملت القاصة على تشغيل الجمل الفعلية التي تنشر الحركية والحيوية والتدفق والاستمرارية وتعكس الايقاع النفسي للشخصيات ,و عندما نتأمل الأفعال التي حضرت في سياق مجتمع الزبالة(سمعت / جاهدوا/ لتتصلب /ورموا/ /نطّت قطة واختبأت /قررتُ / أفاتح / لا يزعج الجيران ولا يغيّر لا يجرؤون ، أن نحتفل/لنرقص أ/ احتضنوا/ ارقصوا /دوروا ، مجـِّدوا لستم )نجدها تقوض حركة السكون وتمثل حالة من عدم التوازن والاستقرار ,وتحيلنا الى الكينونة المهمشة والمتلاشية والتي تصطرع بالشعور المأزوم صوب ماهية الانتماء ,وتسعى عبر الرقص تمرير التراكمات النفسية الموجوعة بداخلها أملا في العثور على الاحساس بالخفة والحرية في تحريك الجسد المثقل بالبؤس .ومن هنا نستشف أن القاصة لها طاقات فائقة في الترسيم الشعوري الدقيق للمشاهد والعوالم الانسانية,اضافة الى ذلك لم تتبع النسق الزمني المتتابع ,اذ عملت على استحضار المفارقات الزمنية التي لازمت السرد,واختارت الاستباق الذي يقودنا الى استشراف المستقبل ,ووضعته في بداية النص القصصي وكأنها تعد القارىء الى الحدث وتجعله مشدودا لما سيأتي ,دون أن تكشف عن تفاصيل العوالم القصصية,وتكون تلك الاستباقات التساؤلية رغبة في ايقاظ المتلقي وتشريبه هم التوتروالتفكير بهدف ادماجه في العملية السردية والانسانية . ولاتقف عند تلك الحدود بل تنوع آليات التقطيع الزمني وتلجأ الى الوصف كمحطة استراحة وتجديد الأنفاس خاصة وأن النص يشتغل على الهامش الذي فقد ملامح هويته الآدمية والوطنية واختلط بعالم القطط المشردة الجائعة .أي ان وفاء عبد الرزاق تحدث نوعا من الثقوب لكي نتحمل الوجع الانساني ونلتقط ملامحه ومعالمه كوصفها للشخصيات ( نطّت قطة شاردة من مطاردة قط واختبأت بين علب كوكاكولا وسفن آب،تعثرت بزجاجات النبيذ ………/.أنا فارغ شربوا مائي ورموني والباقون لهم رائحة الجثث، ).ومن ثمة فهي توجه القارىء الى التركيز على الموصوفات ورسم بعض الملامح النفسية والاجتماعية وتبطيء الزمن للتعرف أكثر على المفارقات العميقة التي تتحكم في المجتمع الانساني.

ويمكن القول ان الملمح الأبرز في النص القصصي هو قدرةالقاصة على وضع حواجز جمالية بين الواقع والحقيقةوتمكنها من خرق الواقع وخلق شخصياتها التي تحرك مجرى الأحداث وتتسق مع رؤية الروح القصصية وأهدافها .وما يلفت الانتباه هو ضمير المتكلم الذي تطل من خلاله الشخصية المحورية التي ترفض محو وجودها وتسعى بكل الوسائل اعادتنا الى عالم الانسان المهترىء والمتآكل والمستبعد من الحياة والأرض ,وتستحضر ذاتها التي تعيش خارج حدود هيمنة الثقافة الضدية .ورغم التشويه الذي تتعرض اليه من طرف طبقة الأغنياء أصرت على استبطان عوالمها النفسية القائمة على البراءة والقهر والاغتراب والرغبة الجامحة في الحياة ,واعتمدت على الرقص والسكر وتمجيد الذات المهمشة كآليات لخلق المتعة والاحساس بكينونتها الزاخرة بالألم ,انها تحاول أن تضع مفارقات بين الهامش والمركز لاسقاط تلك الانطباعات السيئة التي يحملها الانسان عن مجتمع الصفيح .فيصبح الأول يفيض ويزخر بالصفاء الروحي ووحدة السجية والفطرة والبؤس والاصرار على عدم قبول الفكر الاستغلالي واختيار الهامش كمساحة انسانية يمارس فيها ثورته ورفض الانصياع لسلطة النسق الثقافي الذي يمتلك المال والمعرفة المغشوشة .أما الثاني فيستحوذ على وسائل الانتاج والمتعة ويستمد وجوده من النهب واهانة مجتمع القصدير .وهذه المفارقات الفكرية والنفسية خلقت صراعا داخل المجتمع ونسفت مشاعر الطمأنينة والسعادة الحقيقية .وتنضاف شخصية الفئران المتسيدة لتمارس بدورها فعل الازعاج ومضايقة الانسان المقهور والمساهمة في رسم وتوسيع مساحة القبح والقرف .وفي حقيقة الأمر هي ترمز الى النماذج الانسانية المسكونة بالخوف والتي لاتستطيع مواجهة السلطة المهيمنة فتفضل افراغ شحنتها النفسية في عالم المنسيين وخداع نفسها لنفسها بالبطولة المزعومة وتحقيق السيادة ,

وبالتالي تضعنا القاصة أمام ثلاث مجموعات :

المجموعة الأولى :وتضم الشخصية المحورية ومجتمع القصدير والسكارى

المجموعة الثانية :وتحتوي على الأغنياء

المجموعة الثالثة :وتشمل الفئران

مايستوقفنا في المجموعة الأولى هو غياب أسماء الشخصيات وهذا يضعها في دائرة المجهول وفقدان الهوية و لانعرف عنها شيئا الا من خلال الشخصية المحورية التي تقدم لنا بعض الامارات والمخبرات التي تضىء العوالم النفسية للشخصيات المقهورة وتجسد لنا عمقها الانساني المنسي.

وتتسم المجموعة الثانية بكل الصفات السلبية والمتمثلة في الشر والقبح والخواء الخلقي والانساني وتجاسرها على الوجود الانساني والعمل على اقصائه.

أما المجموعة الثالثة فتتفرد بكينونتها النفسية والفكرية ا,و تتمكن من ايجاد حيز لها داخل الحياة ,ولعل الخوف هومن يدفعها الى الاحتياط ,وأخذ الحذر والتمسك أكثر بالحياة والاشتغال في الخفاء والسرية.

وتتحكم في هذه المجموعات علاقة التعارض والصراع وتحتفظ الشخصية المحورية بعلاقتها المبنية على التطابق والتكامل مع مجتمع القصير انطلاقا من الانتماء الطبقي لكن تتفرد بوعيها وسلوكياتها ورغباتها وتطمح الى الخروج من العالم المقهور. ولعلنا نلامس ذلك من خلال ملفوظاتها :” منذ هروبي من صفيح الزبالة …./أنهض وأقع متخيلا ….:/.

ما أتمناه أن صانع شبيهتي بُطلة لا تكون امرأة شاذة حيث هنا لا عذر.”بمعنى انها تحمل بداخلها بذرة التغيير والانقلاب على القواعد الذكورية التي لاتنتج الا الشذوذ والمسافات بين البشر,ويبدو أن القاصة تمكنت من بلورة رؤية العالم عن الطبقة المسحوقة وصياغتها بطريقة كاشفة وجريئة تحفز القارىء على الانقلاب على السلطة المهيمنة والدخول في عالم التحدي والعطاء .

لقد أحست الكاتبة وفاء عبد الرزاق ببؤس العوالم السردية مما دفعها الى اعادة انتاج علاقة الوعي بالعالم والتي تنبني على الدهشة والانغماس الكلي في المضمر الانساني الخفي ,وهذه عملية ليست سهلة بل تتطلب العديد من المكونات الجمالية والفنية وتأتي في مقدمتها خلق لغة شعرية قادرة على سبر تفاصيل الهامش والسلطة المضادة لأن اللغة المباشرة التقريرية عاجزة عن التقاط التناقض ,والصراع والفوضى والقلق والاغتراب الذي يتحكم في العالم البشري .ومن هنا حضرت اللغة الشعرية لتقطر الغموض والقبح والبراءة التي تعتري الظاهرة الانسانية المعقدة وتمتص نثرية السرد وتمنحه الحيوية والحركية خاصة وأن القاصة غيبت تقنية الحوار الذي قد يشحن النص القصصي بالروح التصاعدية والكاشفة للخبايا الانسانية والمساهمة في نمو الحدث وتسريعه ,لكن عندما ندقق في الأمر نجد فعل تغييب الحوار ينسجم مع غياب التواصل بين الهامش والمركز وأيضا غياب الحوار بين الكائنات المهمشة لحظة السكر ,أي ان الخمرة تخلق بداخلها الارتخاء والهدوء وتلك هي اللحظة التي تتوق الوصول اليها بعيدا عن ضجيج وصخب الحياة البائسة.ولاغناء النص االسردي عملت القاصة على تنويع الضمائر التي تعد مكونا جوهريا في صياغة المنظور النفسي والتعبيري ,وحضر بقوة ضمير المتكلم المفرد الذي لم ينسحب رغم الضغوظات الاجتماعية والنفسية بل أثبت ذاته وعبر عن همومها وتطلعاتها ,ولعله من أقرب الضمائر الى النفس البشرية ويضفي سمة الواقعية والصدق على ملفوظاته ويجعل المتلقي أكثر انجذابا وتعاطفا مع محنة الأنا المقهورة وعنف ونعثر على المتكلم أيضا بصيغة الجمع التي تمحو الفوارق بين المهمشين وتذيبهم في الأنا الجماعية بهدف خلق القوة والكثافة والوحدة للتمكن من مواجهة الآخر العائق .ويصبح السارد المفرد هو صاحب الفاعلية في التأثير وتحريك الضمائر الأخرى حسب حاجيات السياق الدلالي ,ولقد خصص حيزا لضمير الغائب الجمعي رغبة في استبعاد جماعة الأغنياء باعتبارها مصدر معاناة الانسان , واختار نفس الضمير للحديث عن السكارى ووهو ضمير يكتسي بعدا مغايرا ويجسد به بعد تلك الفئة عن الحياة واليقظة والارتماء في عالم السكر بهدف التخلص من الواقع المسكون بالقسوة والعنف .ومازال السارد مطمئنا لضمير الغائب الذي ينسجم مع غياب الدفء الانساني ,ويمكنه من خلق التشويق ومتابعة الحدث ,فنراه ينتقي ضمير الغائب المؤنث في سياق القطة والفئران فنكون أمام مؤنث خارج دائرة الانسان ورغم ذلك تتقاسم الصيغة القمامة والمكان مع المهمشين ,وتضفي لمسة سوريالية على الأجواء .ونشير الى أن السارد لايسير على وتيرة واحدة ,اذ يعدل عن صيغة الغياب ليضعنا أمام ضمير المخاطب الجمعي .وهنا تتمتع الشخصية المحورية بالفاعلية والنفوذ والسلطة المجردة من نبرة الاستعلاء والأوامر التي تستعبد الانسان ,وتروم الى تحفيز المهمشين الى التغيير وتحريك الجسد الخامل والبحث عن الفرح والتمرد على السلطة التي نهبت حقوقهم وعملت على تشييئهم.ومن تمة كانت للضمائر سمة فنية في النص السردي واستطاعت مكاشفة المخبواءت النفسية والفكرية واحالتنا على التعدد والصراع وابراز الخلل الذي يفقد المجتع الانساني توازنه .

وختاما فالتجربة القصصية عند وفاء عبد الرزاق أضافت للابداع رافدا جديدا ووضعتنا أمام كتابة مشاغبة ومستفزة وحركت بداخلنا هاجس السؤال ,فنحن لانخرج فقط بالمتعة بل تولد بداخلنا الاحساس بالذنب وتمزق شرنقة الصمت عبر المفارقات التي تفضح الواقع ومايزخر به من اعوجاج واختلالات والهدف هو اعادة الانسجام والتناغم للعلاقات الانسانية بدل الفوضى والصراع وخدش المشاعر الانسانية والحكم على الانسان بالموت البطىء .والى جانب ذلك خلقت القاصة تقنياتها الخاصة عبر استهلال القصة بالأسئلة التي تحفر في خبايا الانسان وتنشر نوعا من الحيوية والتشويق واستثمار بعض المكونات السينمائية التي تجعلنا نحول القصة الى مجموعة من المشاهد واللوحات الصادمة والقريبة من الغرائبية وقسوة آرثو ,ونعيد النظر في مفهوم القبح والجمال وننفض الغبار عن الهامش الذي قد يتراءى لنا من خلال المظهر الخارجي قبيحا ومقززا وهو في حقيقة الأمر يزخر بالجمال الانساني في حين تتجرد الطبقة الغنية من اللانساني .ومايميز وفاء عبد الرزاق أنها اشتغلت على الهامش بلغة شاعرية ومفردات ترتفع عن السوقية وقاع الشارع على خلاف بعض الكتاب الذين تناولوا الهامش بمعجم لغوي يقتات من العهر ,بمعنى كانت تشتغل بحدة على العوالم النفسية للمقهوين وتسعى الى تقديم صورة نفسية واجتماعية وثقافية عن المسكوت عنه الذي تحاول السلطة المهيمنة تشويهه وتلطيخه .

شارك مع أصدقائك