رواية   انتحار تكتيكي .. الفصل الثالث 

شارك مع أصدقائك

Loading

د.  تهاني محمد

(15)

 

شعرتُ بشيءٍ غريبٍ داخلَ فمي يخترق بلعومي، حاولتُأنأحرّكَ ذراعي فعلقتُ بالأنابيب البلاستيكية التي تحيط بي من الجانبين، جلتُ بنظري من حولي، كان كل مايحيط بي هو البياض.. سقفٌ أبيض، وأرضٌ بيضاء لامعة، ملاءات بيضاء تغطّيني حتى عنقي، وفواصلٌ من ستائرٍ بيضاء تفصل سريري من الناحيتين. سمعتُ طنيناً يشبه النبضَ يطنُّ قربَ رأسي، رفعتُ بصري قليلا.. إنه يأتي من شيءٍ مربعٍ يشبه التلفاز موضوع على منضدةٍ خشبيةٍ قرب رأسي،يبث خطوطَ نبضاتِ قلبي المتعب. إذن أنا لست في الزنزانة القذرة..

لايهم أين أكون..في المستشفى أو في عالم الأرواح، المهم أنني أرى الضياءَ والنورَ خارج ظلام الزنزانة.

تراكمَ في صدري سعالٌ خانقٌ، فبدأتُ أسعلُ دون انقطاع، وألمٌ ممزقٌ يحفر في خاصرتي وبطني.

يبدو أنَّ سعالي شقَّصمتَالمكانَ الأبيضِ الساكن،إلا من طنينِ أجهزةِ مراقبةِ النبض.سمعتُ صوتَخطواتٍ تتقدم نحو سريري،كان شخصٌ بمعطفٍ أبيض يقف قربي، رفعتُ بصري نحوه، كان شابٌّ في العشرين من عمره،ببشرةٍ بيضاء تشوبها حمرةٌ خفيفة، عينان بندقيتان وشعرٌ بنيٌّ صُفِفَ بعناية إلى الخلف.نظر إلى وجهي وحدّثني بصوتٍ خفيضٍ كأنه لايريد أن يوقظَ أحداً في هذه البندقةِ البيضاء الغريبة.

.- ألف سلامة لك حسين.. حاول أن تهدأ فأنت بحاجةٍ للراحةِ التامةِ هنا في ردهةِ العناية المركزة بعد عملية رفع الكلية اليمنى.

مدَّ يده المغطاةَ بقفّازٍ بلاستيكي أبيض، ونزع عني الشيءَ المزعجَ الذي يخترق بلعومي، كان أنبوبٌ لسحبِ السوائل من معدتي.ثم أردف قائلاً:

لا داعي لهذا الأنبوب بعد الآن، فأنت بحالٍ مستقرٍ ويمكنك الكلامَ، وشربَ قليلاً من الماء على دفعات.

لم أشك للحظةٍ واحدةٍ في سمعي أو وعيي،لأنَّني أشعر أني بكامل الوعي الآن،والطبيبُ الشاب يقف أمامي، لكن بالتأكيدِ كان هناك تشابهٌ فيالأسماء،فاختلط الأمرُ على الطبيب، فظنَّأنني أجريتُ عمليةً لرفعِ الكلية، بدلاً من عملية ساقي المعوجة، وقبل أن يبتعدَ عني صحتُ بصوتٍ خرج من بطني قبل حنجرتي:

-إنك واهمٌ يادكتور، فأنا مصابٌ في ساقي، وقد دخلتُ المستشفى عدةَ مرّاتٍأثناء وجودي في الزنزانة، كانوا يحملونني بعد أن تتورمَ ساقي المكسورة ويتقيحُ الجرحُ الذي فيها،فيقومون بتنظيفها من الصديدِ والدم،ويضعون عليها الضماداتِ ويعيدوني إلى السجن، أعتقد أنك تقصد شخصاًآخرَ يحمل اسم حسين، فأنا لم أشكُ يوماً من ألم في كليتي مطلقاً.

– لا..لستُ واهماً ياحسين، إنك بالفعل قد خضعتَ لعمليةِ رفعِ كليتك اليمنى صباح الأمس،وأُدخلتَهنا تحت المراقبة المشددة.. أنا مناوبٌهنا اليوم، ولم أحضر وقت إدخالك لصالة العمليات، لكن الجرّاح المختص سلمني ملفك وأوصاني بمراقبتك، فقد كنتَ تحمل حصىً كبيرةَ الحجم، ناتئةَ الحواف، احتلّت كليتك، وأحدثتْ خراباً فيها، فكان لابد من رفعها..وماهي إلا أسابيع وستعود بصحة جيدة، فكلية واحدة تستطيع احتمال جسدك إلى نهاية العمر إذا اعتنيت جيداً بطعامك ولم ترهقها.

– أي حصى هذه يادكتور! وكيف تكون بهذا الحجم ولم أشعرْ بأي ألم حتى وأنا تحت أقدام الأجدع؟

– أي أجدع هذا ياحسين؟ أرى أنك تهذي قليلاً بسبب الألم والحمى، سأحقنك بمنومٍ لتقضي ليلتك هادئاً مرتاحا.

لم يدعْنيأكمل كلامي، وامتدت يده بخفةٍ ساحرة، يتقنُ لعبةَ الخدعَ البصرية، فسحب حقنةًكانت على المنضدة الخشبية بجواري،وملأها بسائلٍ شفّاف من أنبوبةٍ زجاجيةٍ بحجم الإصبع الصغير،ثم حقنها في ذراعي وانسحب إلى مكانه، تاركاً بياض الستائر المخيف يحيط بي وبهذياني..

*******

مددتُ يديّ لأمسك كفك البيضاء ياندى، فها أنت تقفين أمامي.. لاأدري أهو حلمٌأم حقيقة!

إني أراك أمام سريري مباشرة، تنظرين إلي بعينيك الخضراوين الزمرديتين..

هاتِكفك حبيبتي، لماذا تبتعدين عني؟! ندى.. لماذا لاتبتسمين..أرى دموعاً سوداء تقطر من عينيك…أهو هذيانُ حقنةِ الدواء المنوم؟! ندى، شكلك غريب هذه الليلة

لكن ما هذا الشيء حول ذراعيك وخصرك؟!

كان حسين يتمتمُ بكلماتٍ غير مفهومة، وخيالاتٍ غريبةٍ تتراقص أمام عينيه،تتخللتها صورٌ لندى بفستان أبيض ووجهٍ شاحب، وذراعين مقيدتين بحبلٍ متينٍ أحمرِ اللون.. وكلما كان يمدُّ يده ليمسكَها؛ تبتعدُ عنه الصورةُ الشبحيةُ، وتختفي في بياض السقف، بينما يثقلُ جفنيه النعاسُ،وتتوسدُ قطراتُ العرقِ جبينه ورقبته، فاستسلم بعدها لنومٍ عميق ثقيل.

(16)

لم يعيدوني إلى زنزانتي المعتمةمرة أخرى، ولا أعلم لماذا.. فهم لايأبهون كوني أصبحتُ بكليةٍ واحدةٍ وبساقٍ معوجَّة.

فما الذي دفعهم أن يبقوني تحت المراقبةالمشددة في المستشفى لشهر ونصف! وفي غرفة منعزلةٍ يقفُ على بابها عسكريان يتناوبان على حراسةِ غرفتي، وينصتان لحركاتي وسكناتي، هل عمدوالتنظيفِ السجنِ من آثارِ جرائمهم لسبب ما؟

وهل علي أن أصدِّقَ قصةَ الحصاةِ الكبيرةِ الناتئة التي احتلّتْ كليتي،  فرفعوها وتركوني بكليةٍ واحدة ؟

أنا لا أذكر شيئاً عن آخرِ ليلةٍ قضيتها في الزنزانة القذرة، سوى بعضٍ من خيالاتٍ متفرقةٍ تجثمُ على صدري كأنها صخرةٌ ضخمةٌ من جبال الجحيم.

أذكر ركلاتِ الثورِ الهائج أجدع،وعصاه الكهربائية التي تلسعُ جسدي، فترميني مثل كرةٍ أهتزُّ وأتدحرج على الأرض، وصرخاتي بعد كل ركلةٍ على ساقي المصاب، هذا كل شيء.

******

سلّموني كتاباً موقّعاً من جهاتٍ عسكرية عليا بأني غير مناسبٍ للخدمة العسكرية،لأنَّني بكلية واحدةٍ وساقٍ معوجَّة، ثم أخبروني أن أذهبَإلى البيت، وحذّروني من أن أفتحَ فمي بأيِّ شيءٍ له صلةٌ بماحدث في الزنزانة، وأنني سأكون تحت المراقبةِ، حتى أنهم قد يستدعوني للاستجواب في أيةِ لحظة.

هل كنت أحمقاً ضعيفاً عندما قرّرتُإطلاقَ الرصاص على قدمي،فخرجتُ بساقٍ تالفٍ وكليةٍ واحدة؟!

هل لأنَّني أفكر، بأن لاأساقَ مثل البهيمةِ، يجب أن أُقتلَ،أو أخرجُإنساناً معاقاً من سجونهم؟

ألم تنتحرِ البغالُ من شدّةِالإنهاكِ على الجبهات الشمالية؟ ألم يجنَّ كثيرٌ منا، ويسلّم نفسَه للجيشِ المعادي بعد أن فقد قدرته على الصبر في الخنادق لسنواتٍ حمراء وسوداء لا نهار فيها!

حتى الأطفال استبدلوا لعبةَ الغمّيضةِ في حيّنا بلعبةِ القاتل والمقتول، كان أكبرهم سنّاً يحملُ مسدّساً بلاستيكياً، ويتقمّصُ دورَ الرامي خلفَ الساتر، فيما يتقمّصون هم دورَ الضحية، يهربون ويصرخون ثم يسقط أحدهم أرضاً، وقد غطّوا رفاقه جسدَه بالعلمِ ورفعوه على أكتافهم يصرخون الله أكبر، فيما يتقنُ هو دور الشهيد.

هل أنا معتوهٌلأنَّني أتألم ولأنَّني غير راض؟ ولأنَّني أستنكر النذالة! لقد خلقني الله من دمٍ دافئ وأعصاب . إنَّ النسيجَ العضوي لابد وأن يتجاوبَ مع المؤثراتِ الخارجية، لذا إن شعرنا بالألم، نصرخ ونبكي، وأن رأينا النذالةَ؛نغضب.

عدتُ بعد ثمانيةِأشهرٍإلى المنزلِ، كان الشتاءُ قد حلَّ وسماءٌ رماديّةٌ ملبّدةٌ بغيومٍ سوداء تخيّم على بغداد، طرقتُ البابَ بيدٍ ناحلةٍ، ففتحتْ لي المرأةُ المسكينةُ البابَ وكان السوادُ يغطّيها من قمةِ رأسها إلى أصابع قدميها، يبدو أنها تقبّلت موتي وفقداني، ولبستْ السوادَ. لاأدري هل أخذتْ في روحي العزاء من الأقارب والجيران،أم جلستْ تنتحبُ وحيدةً في وكرنا المتهالك.

– حسيييييييين!!!يا ألله…

“يمة وليدي، معقولة رجعتلنا…حسين! يمة فدوة أروحلك”

كانت تحتضنني بكلِّ قواها المتبقية، تشمني، تقبّل وجهي ورأسي، تغفو على صدري كأنها هي طفلتي، ترتعش رهبةً وفرحاً، وتصرخ باسمي بصوتٍ متقطّع..ح..س..ي.. ن.. حتى أغمي عليها وهي بين يدي.

صرختُ..أمي، أفيقي أرجوك..

أخذتها بين ذراعي ووضعتها قربَ المدفأةِ، ثم رششتُ وجهها ببعضٍ من الماء الباردِ، فوجدتها تحاولُ فتْحَ عينيها المجْهدتين بصعوبة..وحين أفاقتْ من غيبوبتها سألتها:

– أمي، لماذا تلبسين الأسود، هل أخبروك بموتي وصدقّتي بخدعتهم؟

لم تجبني، كانت ما تزال في خضمِّ دهشتها، وراحت تحدقُ في وجهي، وتضمني إلى صدرها، كما كانت تفعل حين كنت صغيراً وحين كان حجرها وصدرها بيتي ومخدعي.

جلستُ متربّعاً على الأرضِ بجوارها، قربَ المدفأة،أنصتُ لقطراتِ المطرِ التي تنقرُ النافذة.. فقد أطلقتِ السماءُ غيظَها برذاذٍ قليل، ثم بدء يشتدُّ حتى صار ودقاًشديداًيبللُ واجهاتِ البيوتِ ويضرب النوافذ.

وضعتُ ذراعي على كتفها الذي تبرز منه عظامها الصغيرة، واحتضنتها.وأنا أردُّ على أسألتها الكثيرة، بما يناسبُ ضعفَ قلبها وجسدها..أخبرتها عن حماقتي وإطلاقِ الرصاصةِ على ساقي، واخترعتُ كذبةً كبيرةً عن احتجازي في سجنٍ نظيفٍ للتحقيق معي. ولم أخبرها كيف كانوا يعاملونني مثل كلبٍأجرب. يطفئون أعقابَ سجائرهم في جسدي، ويتبوّلون على جرحي المفتوحِ في ساقي حتى تقيح.

خبأتُ عنها قصة كليتي المفقودة، ورفعتُ في وجهها كتابَإعفائي من الخدمة العسكرية، كي أريحَ قلبها،مستفيداً من عدمِ معرفتها للقراءة والكتابة، فلايمكنها تمييز سببَإعفائي على أنني معاقٌ وبكليةٍ واحدة.

(17)

ثلاثةُأيامٍمرّتْ على وصولي إلى البيت، وأنا أتصل بندى، لكن في كلِّ مرة كانت والدتها هي من يرد على الهاتف، صورتها وهي مقيّدةُ اليدين، والدموعُ السوداءُ تغرق وجنتيها الناصعتين، لا تفارق مخيلتي، أعلم أنها تعتبرني خائناً لها ولم أفِ بوعدي، لكنني قلقٌ جداً، ولا أدري ماذا حل بها.

قررتُأن أتكلّمَ مع والدتها، وأسالها عن ندى، فأدرتُ قرصَ الهاتفِ وانتظرت الرد:

– أللووو

– مساءُ الخير

– أهلا بني، من يتكلم

– عفواً، أنا زميلُ ندى في العمل..كنت مسافراً لأسبوعٍ كاملٍ، وقد عدتُ اليوم.الحقيقةُ لدي خللٌ في تدقيقِ الحساباتِ، وأبحث عن الست ندى، طالباً المساعدة.

– أنت زميلها قلت لي؟!

– نعم

– إن كنتَ زميلها في نفس المكانِ، فكيف لا تعلم أن ندى تركتِ العملَ منذ شهرين، وتزوّجت، ولم تعد تسكن معي الآن، يابني، إنها في بيتِزوجها العقيد سلام في حي اليرموك.

 

ارتجفتْ يدي..انتقلتْ الرجفةُ لسائرِ جسدي، لروحي، شعرتُ بالدوار، وكأنني غبتُ عن الدنيا في دوّامةٍ بلا لون، وقعتْ سماعةُ الهاتفِ من يدي،بينما أم ندى في الطرفِ الآخر من الهاتف،وكأنها تصرخ من عالم بعيد.

– ألللووووو..ألوووو

راحتْمعاولُالأسئلةِ تحرث في رأسي.. كيف يمكن لندى أن تخونني! كيف لها أن تسحقَ تحت قدميها كل ما حلمنا به وخططنا له معا؟! كنتُ أود أن أبصقَ دمَ حزني في وجهِ عقيدها المشؤومِ، ضخم الأنف ذاك، كم مرةٍ حدّثتني عنه ندى، كان جلدها ينكمشُ وهي تخبرني بطلبهِ للزواج منها، عقيدٌ أرملٌ بلا أطفالٍ تُوفيتْ زوجته في حادث سير، يعاقر الخمر، هوايته المفضلةُ إطلاقُالرصاص على الطيورِ والحمام، وهي تحلّق وتدور تحت السماء الزرقاء، فتتساقط واحدة تلو أخرى بريشٍ ملطخٍبالدم على الرمال الساخنة للبرية.

في حي اليرموك إذن يا ندى! حيُّ الأغنياءِ وليس حياً شعبياً فقيراً نتكدس فيه مثل البهائم في المسلخ، وزوجٌ برتبة عقيد..حلقتِ نحو رغدِ العيش يا ندى،ونكثتِ عهداً حفرتُهُ في نخاعِ عظامي وأضلعي…

اخترتِ رجلاً غنياً.. ماذا سيعطيك أجيبيني؟ بعضَ الأحذيةِ والفساتين من الماركاتالعالمية، عطوراً مستوردة، أرائكاً وثيرةً فارهةً وسجاداً فاخراً، أريكةَكيلوباترا، المصنوعةَ من ريشِ النعام، أم فراشَ هارون الرشيد العائم؟!

أتعلمين شيئا؟…كنت سأعطيك أنا كُلّي.. نعم كلي..

لكن ماذا ستفعلين برجلٍ لا يمنحك سوى قلبه، رجلٌ معاقٌ ..مثقوبُ الجيب، حرُّ الفكر، يلعن القيودَ ويستنكرُ أن يُساقَ الرجالُ سوقَ البهائم؟ ربما أنتِ محقّةٌ يا ندى،فماذا سيمنحك قلبُ عاشقٍ مفلس، يحملُ في كفّهِ فتاتِ الخبزِ للحمام، بدلاً من بندقية الصيد على كتفه، رجلٌ يُطعمُ الطيورَ، وينصتُ لهديلِ الحمائم، وتغريدِ العنادل.. يزدري صيدها، ويشمئزُّ من لؤمِ صيادها.

(18)

ساقونا إلى الجبهاتِ قسراً، كُنّا بين مؤمنٍ ومعتقدٍبما يقاتل ويدافع عنه، وبين رافضٍ منساقٍ جبراً، لكن عندما تمتدُّ وتطولُ الحربُ مثل لعبةِ جرِّ الحبلِ ويُسحقُ الرجالُ كأنهم أسرابُ نملٍ لاتساوي شيئاً في نظرهم؛ لاتصدِّقُ بعدها أنَّ من يقفُ على الجبهاتِ هو مؤمنٌ بحب الوطن..إنه يقف رغماً عنه، فسياطهم تلوحُ في وجهه، وسجونهم تغصُّ بالفارّين من الخدمةِ العسكرية، شبابٌ تفتّحوا مثل الرياحين والأزهار حين أبصرتِ ضوءَ الشمس،ساقوهم مثل الخرافِ ليدافعوا عن مجدِالزعيمِ، وكان جزاءُ رفضِهم؛وصْمُهم  بعلاماتٍ فارقةٍتدلُّ على التخاذلِ والخيانة.

كانوا يقطّعون آذانهم وألسنتهم، ويوصّمون جباههم بخطٍّ أسودٍ غليظ، كي يبقى العارُ يلاحق رجولتهم مدى الحياة.

لكن أيٌّ عارٍ هذا؟ هل أصبح حبُّ الحياةِ ورفضُما لا نؤمنُ به عارا؟

نحن في السنةِ السابعةِ من الحرب، والرفاقُ والقادةُ يعيشون في القصورِ يقتسمون أوهامَالنصرِ الكاذب.

خرجتُ من سجونهم معاقاً، حبيبتي استباحها ضابطٌمن ضبّاطهم برتبةِ عقيدٍ في الجيش، يؤمن بما يؤمنون به، وهو – بالتأكيد – يحملُ شارباً أسوداً طويلاً على وجههِ مثلَ شواربهم، وينظرُإلى الناسِ باستعلاءٍ كما ينظر زعيمهم.الكلُّأصبح نسخةً من الزعيم، يرتدي البذلةَ العسكرية ويرفعُ أنفه ورأسَهُ بكبرياءٍ مزيّف، يضحك كما يضحك الزعيمُ، ويمشي كما يمشي، ويتكلم بمفرداتِ الحزبِ، والثورةِ، والحرية، والاشتراكية، كما يتكلم هو.. إلا سيجاره الكوبي الفاخر لم يجرؤ أحدٌ على حملهِ بين شفتيه تحت شواربهِ مقلداً الزعيم، ربما لو فعل سيغمسون رأسَهُ في المنفضةِ بدل السيجار.

كلهم رؤوسٌ فارغةُ ترددُ شعاراتٍ مستهلكةٍ كي يحتفظوا برتبهم العسكرية،والنجومِ الذهبيةِ على أكتافهم.

لم نكن مواطنين.. كُنَّا مجموعةُ خرافٍ بيد جزّارها.

سرقوك مني ياندى…

صار نهاري مظلماً، وليلي طويلاً، أتقلّبُ بنارِ شوقي إليك، محاولاً التغافلَ عن جرحي،والتناسي، حتى ينفدَ ما تبقّى لي من النسيانِ في قعرِ الزجاجة، فأبدأ برجمِ تلك الزوايا المظلمةِ حتى أملاها بشظايا الندم.

سرقوك مني حبيبتي…

الآن فقط فهمتُ معنى تلك الرؤيا المشوّشة، وأنا بين الحلمِ والواقع،أترنَّحُ على سريرِ غرفةِ العنايةِ المركّزةِ الأبيض.

يداك المقيّدتان..دمعك الأسود.. فستانُ الزفافِ الذي كنتِ ترتدين.. سرقوا عشبَ عينيك ياحبيبتي، وحوّلوه إلى حقلٍ يابس أضرموا النار فيه.

إنهم يضرمون النارَ في كلِّ خضرةٍ حولهم، في كلِّ رأسٍ تدورُ فيه فكرةٌ تعارضُأفكارهم.

هشّموا كليتي اليمنى..لاأعرف على وجهِ التحديدِ ماالذي حصل في سجنهم الأسود، واحتلوا حبيبتي برتبهم وأموالهم..

أشعلوا النار في قلبي ياندى، ناراً لن تنتهي، فهم ماهرون في إشعال النيران..وهاهي مشتعلةٌ منذ سبع سنوات.. ولا أظنها ستخمد.

(19)

(الهدنة )

لم أتمنَّ أن أمتلكَساقين قويتين، وجسداً شابّاً كما تمنيته هذا اليوم، الفرحةُ تقفز من صدري وروحي، تسحبني إلى أصواتِ الزغاريدِ هناك.كلُّ جاراتي خرجنَإلى الشارعِ يزغردْنَ ويرقصْنَ بحركاتٍ مضحكة، لكنها من القلب، فقد حصلَ ما لا يخطر على البال.

قد انتهتِ الحربُ.. يا إلهي! لا أكاد أصدق.. لستُ وحدي المجنونةُ هنا من الفرح، فقد جُنَّ الجميع.

إنهم يتجمّعون في كلِّ مكان.. الأزقةُ والساحاتُ تكتظ بالناس، يرقصون بجنون، ويضحكون بهيستيريا… انتهتْ حربُ الثمان سنوات في يومٍ وليلة.

حسين.. حسين..هيا يا ولدي، اخرجْ واحتفلْ مع الجيران، فلم يبقَ أحدٌ في بيتهِ سوى العجائز أمثالي، ولو لم تمنعْني مفاصلي المتهرئةُ من الخروج؛ لخرجتُ ورقصتُ مع الناسِ حتى الصباح…

– نعم يا أمي، انتهتِ الحرب، انتهتْ الخديعة، انتهتْ أطولُ حربٍ في تاريخِ القرنِ العشرين، والتي كان ممكناًأن تنتهي منذ أول سنةٍ لها. دعيهم يرقصون.. دعيهم، قد جُنَّ الناسُولا ريبَ،فالمجنونُ لا يعلم لماذا يضحك، ولماذا يبكي أحياناً أخرى..

شششششش اسكتْ ياحسين، مابك! أتريدُأن يرموك في السجن مرة أخرى؟

اتركِ الناسَ وشأنهم، إنهم يحبون الرئيسَ ويفدونه بدمائهم.

-أضحكتيني والله يا أمي، حتى أنتِ يا حاجّة! تتكلمين مثل الأهازيجِ الوطنيةِ التي صدَّعَ رؤوسنا بها التلفازُ والمذياعُ ليلَ نهار.”بالروح بالدم نفديك يا…..”.

اسمعي يا أمي، إنَّ الرجلَ لايقوى على البقاءِ ساكناً هكذا دونَ حروب، فأين سيجدُ مجدَهُ وعظمتَهُإذا عشنا بسلام! انتظري وسوف ترين، إنها محضُ هدنةٍ تافهة، يخدعُ بها المساكين،لكنه سيسوقنا إلى حربٍ جديدة.. أنا واثق من ذلك..

لكن مع من ستكون تلك الحرب ومتى؟ وحده الله يعلم.

هل تعلمين كيف دخلنا الحرب ياحاجة؟ دخلناها بعد أن تراجعنا عن اتفاقٍ مبرمٍ في سنة 1975وحاربنا ثمانية سنوات، ودفعنا آلافَ الضحايا، ثم انتهتِالحربُ بعد أن عدنا واعترفنا بتلك الاتفاقية مرغمين.

– لا أفهم ما تقول يا حسين، على ماذا اتفقنا، ولماذا نقضنا الاتفاق؟

– وأين ذهبت أنا يا حاجة.. صبّي لنا الشاي وسأقصُّ عليك الحكايةَ، لكن أعديني أن لا تأتيك الكوابيسُ ليلاً.

غادرتنيأمي،ودخلتْ تعدُّ الشايَ في المطبخِ، وبعد عشر دقائق عادتْوهي تحملُ بيدها أكوابَ الشاي التي تفوح منها رائحةُ الهال ووضعتها بيننا ثم بادرتني قائلة:

– احكي لي الآن الحكاية..

–  يا للعجائزِ كم تعشقن القصص والحكايات.

– اخرسْ يا ولد، أنا لست عجوزاً..ألم ترَ ضفائري؟َ خذْ قلبها بيدك إن وجدتَ فيها شعرة  شيبةً واحدة؛ تكلم ساعتها بما تشاء.

– حاضر يا ست البنات، اسمعي:

كان ياما كان في قديمِ الزمانِ ولا يحلو الحديثُإلا بذكرِ الرسولِ عليه أفضلُ الصلاة والسلام..

– ما بك يا ولد، هل تراني طفلةً صغيرةً تحكي لها حكايات ما قبل النوم؟ هيا تحدّثَ كالرجالِ. أريد أن أفهمَ في السياسة كما تفهمون أنتم.

– الله الله يا أم حسين..تتهمينني بأنني أحشر أنفي في السياسةِ، وأقرأ الكتبَ التي تتلفُ عقلي وتفكيري، وتبين أنني ورثتُ هذا عنك.

اسمعي يا أمي اتفاقية 1975 تُسمى باتفاقية “الجزائر” وقد وقعها نائبُ الرئيس العراقي والذي هو الرئيس اليوم.مع شاهِإيران الذي كان يحكمها آنذاك،وكانتْ بحضورِ الرئيس الجزائري “هواري بومدين” ولذا سُمّيتْ باتفاقية الجزائر.

– طيب عرفنا الاسم الآن.. لكن على ماذا اتفقنا؟ هل تشاجر معنا هذا الشاه على نفطٍ،أممال؟

– لا.. لا هذا ولا ذاك، بل كان بيننا وبينهم خلافٌ عميقٌ بعمقِ التاريخِ على النقطةِ الفاصلةِ في مياهِ شطِّ العرب، والتي ترسم حدودنا مع حدودهم الدولية، وهذه النقطةُ تُسمى نقطة خط القعر، وتعني النقطةُ التي يكون فيهاالشطُّبأشدِّ حالاتِ انحداره.وهذا الكلام رفضه العراق تماماً وقال:إنَّ شطَّ العربِ كلهُ مياهٌ عراقية ولادخل لإيران فيه.

شربتْأمي  كوبَ الشاي الساخنِ، وشمّرتْ عن ساعديها استعداداً لحديثٍ طويل:

– هذا الكلام صحيح..

إنَّأسمَهُ شطُّ العرب، هذا يعني أنه ملكنا نحن العرب.

-تريّثي قليلاً يا أم حسين، ولا تأخذْك الحماسةُ، دعيني أكملُ حديثي بالله عليك

اسمعي يا أمي:

في سنة 1975قامتْالحكومةُ العراقية بتوقيعِ الاتفاقيةِ مع إيران، ووافقتْ على (نقطة القعر) في شطِّ العربِ لرسمِ الحدود بيننا.

لكن حين حدثتْ الثورةُ في إيران وقُتلَ الشاه تراجعنا عن تلك الاتفاقية، فشبَّ النزاعُ بيننا من جديد.

– يعني صارتِالحربُ بسبب البلوةِ السوداء.. نقطة الصفر

– نقطة القعر ياأمي.. القعر

– أوووه يا حسين دوختني.. صفر أو قعر ما دخلنا نحن..المهم انتصرنا

– انتصرنا!..على من ….ياحاجة على من انتصرنا أخبريني؟ دخلنا أطولَ حربٍ في القرن العشرين، وخرجنا منها دون أن نحدثَ تغييراً في التاريخِ، سوى تسجيلٍ عددٍ قياسي من القتلى والمعاقين.

أتعلمين من نشبه نحن يا أمي؟

– من يا حسين ؟

– نحن نشبه فيلاً حِيكتْ عليه مؤامرةٌ من أجلِ ترويضه.. انهالوا عليه عشرةُ رجال، أو يزيد، ضرباً بالعصي والهراوات، وحبالهم تقيده بالكامل، ثم دفعوا به نحو حفرةٍ عميقةٍ، وحين سقط فيها مغلوباً على أمره؛ راحوا يضاعفون ضرباتهم عليه حتى أصابهالإنهاك الشديد.عندها يأتي رجلٌ من خارج تلك المجموعة من الرجال الذين أشبعوا الفيلَ ضرباً، وقد ارتدى لباساً مميزاً، فيرفع ذراعه، ويأمرُ الرجالَ بالتوقّفِ عن ضربِ الفيل، يطيعُ الرجالُ أمره ويخرجون من الحفرة، تاركين الفيلَ فيها. وهكذا تعادُ هذه المسرحيةُ كل يوم، فيعذِّبُ الرجالُ الفيلَ بهراواتهم، ثم يأتي الرجلُ المنقذُ ويمنعهم عن فعلهم المشين، وقد تستمر تلك المسرحية عشرة أيام أو أكثر، حسبما يحدده الرجل المنقذ، وبعدها يأتي يومُ ختامِ المؤامرة، يومُ خلاصِ الفيلِ على يد المنقذ الذي يأتي في اليوم الأخير، فيرفع ذراعَهُ، عندها يرمي الرجالُ عصيَّهم ويخرجون من الحفرة تاركين الفيلَ والرجلَ المنقذَ فيها. يمتطي المنقذُ ظهرَ الفيل، ويأمره بالخروج من الحفرة بمساعدةِ الرجال، فينحني الفيلُ صاغراً، مطمئناً، مذعناً لأمر منقذه وسيده، ويسيرُ الفيلُ، والمنقذُ يعتلي ظهره.. وقد آمنَالفيلُ المخدوعُواعتقد تمام الاعتقاد ببراءة منقذه، وحسنِ نيّتهِ، وسعةِ فضله، ومن المحال أن يرفضَ لمنقذه أمراً بعد اليوم، أو يخالجه الشكُّ في صفاءِ سريرته.

-أووووهكفاكهذيان ياحسين..ما بك يا ولدي أنت تهذي كمن تلبّسه جِنٌّ خبيث.. تعال معي عند الشيخ أبي محمود، دعْهُ يرقّيك بآياتِ الله، فيُخرجَ منك كلَّ خبيثٍ تلبَّسك.

-قد أصبتِ والله يا أمي..

-ماذا ! هل وافقتَ أن تأتيَ معي عند الشيخ أبي محمود؟

– كلا يا أمي المسكينة الطيبة، أنا لا أتحدث عن شيخكم، لكنك أصبتِ في نعتِ كلِّ من فهمَ الحقيقةَ بالمجنون، نعم إنَّ من يكتشفَ الحقائقَ لن يسمحَ بأن يعتلي ظهره منقذٌ دجّال.

********

لم تكن أمي تعي غير ما تسمعه من الهتافاتِ الحماسيةِ التي يضخّها لنا التلفازُ والمذياعُ ليلَ نهار.وماذا يريد الناسُ البسطاءُ أمثال أمي سوى السلام! بل ماذا يريد الناسُ غيرُ البسطاءِ أمثالي سوى السلام! ألم يكن هناك حلٌّ لننعمَ بالسلام! أم إنَّ تلك الكلمةَ نُزعتْ من القاموس لأنَّها خرافة، مثل طائرِ العنقاءِ، أو حورياتِ البحرِ ذواتِ الأثداءِ العاجيةِ والشعور الطويلة؟

وربما  تطالنا الخرافةُ نحن أيضاًطلابُ السلام في يوم ما.. فتقصُّ الجداتُ حكايتنا على مسامعِ الأطفالِ، تحت ضوءِ الفوانيس الخافتِ في رداء العتمة، بين الجبال العالية، أو في خيمِ البدو الرُّحَّل مع طقطقةِ فناجين القهوة المرة!

(20)

نتان وديعتان.. لملمتِ الناسُ فيها جراحَها، وملأتْ رئاتها من الهواء النقي غير الممزوج بالدخان والبارود، ولملمتُ فيها أنا بعضاً مني، محاولاً ترميمَانكساراتي، ومدارياً ألمي.

خبَّأتُ عينيك العشبيّتين في ذاكرتي.

نعم، أعلم أنك ملكُ رجلٍ آخر.. تنثرين الربيعَ في زوايا بيتهِ بخضرةِ عينيك.

أتذكرين حين كنتُ أغني لك؟

ما زلتُ أدندنُ بتلكِ الكلماتِ حين يغشي خيالك وحدتي، ويحملُ لي نسيمَ الصباح شذاك:

يانبعة الريحان حني على الولهان..  حني على الولهان..

جسمي نحل والروح ذابت وعظمي بان ذابت.. وعظمي بان

من علتي ال بحشاي ما ظل إلي من راي.. ما ظل ألي من راي

دائي صعب ودواي ما يعرفه إنسان.. ما يعرفه إنسان..

الخيالُ هبةٌ من الحياةِ، تتعطفُ بها على كلِّ عاشقٍ مفلس. ستسكنين أحلامي يا ندى ما حُييتُ؛ إنه وعدُ عاشق.. ولن يخلفَ العاشقُ المجنونُ وعده.

 

*******

تزوجتُ بعد أن انتهتِ الحرب، وبعد أن أقسمتْ أمي أنها ستضربُ عن الطعامِ إن لم أتركْ جنوني وأتزوج، كانت ترتعدُ خوفاً عليَّ، وتعتقدُ بأنني جننتُ بسببِ حبسي في الزنزانة، وبسببِ وحدتي، أهيم على وجهي دون زوجة أو حبيبة.. يا للعجائز، كم يملكن من خيالٍ واسع!

 

ليس خيالهن فقط هو الواسعُ، بل شبكةُ اتصالاتهنَّ العجيبةِ، والممتدةِ من حيٍّ إلى حي، فقد كانت تعرض عليَّ كلَّ ليلةٍ خارطةً لبناتِ الحي، وتطلبُ مني أن أختارَ زوجةً منهنَّ، وقد كانت تذكّرني بفعلها هذا، بصاحبِ محلِّ الستر الرجالية، وهو يضعُ أمامي ستراً بألوانٍ وموديلاتٍ مختلفة،منتظراً مني أن أختار سترتي.

أظنُّ أن شريكَ حياتنا هو من ينادينا، ولسنا نحن من نبحثُ عنه.. شيء ما فيه سيجذبك، سيقول لك اقترب، أنا بيتك؛ وهذا عينه ما حدث معي.

كنت أصادفها كل صباح عند خروجي لعملي، فتاةٌ شقراءُ بضفيرةٍ تنسدلُ حتى ما بعد خصرها الرقيق، عيناها البنّيتان تملئاني بالراحةِ والسكينة، أحسستُ أن عينيها تخبرني بشيءٍ تحاولُ هي إخفاءه، وميضٌ يفضحُ مشاعرَ حبٍّ يغمرُ روحها، لكن لسانها يرفض التصريح.

زوجتي سلمى امرأةٌ طيبة، تعملُ باحثةً اجتماعية في المدرسة الثانوية للبنات، الواقعةُ على رأسِ الزقاق الذي يقع فيه بيتنا، كان زواجي ضرورةٌ من ضروراتِ الحياةِ الكثيرة، ولم يكن بدافع الحب.لكنني الآنأكنُّ لها مشاعرَ الودِ والامتنان، فقد جاهدنا معاً طيلة سنوات زواجنا، وأنجبتْ لي أولَ طفلٍ بعد سنةٍ واحدةٍ من زواجنا، أسميته علي، على اسم والدي، ولأحققَالرغبةَالملحّة لوالدتي.

مشكلتي الوحيدة في زواجي هذا هو والد زوجتي، إنه بهلوانٌ متمرس، رجلٌ انتهازي، لا يحمل ولاءً سوى لنفسه وأمواله.

فكلما قدّمَ كشفاً بأسماءِ رجالٍ رفضوا الانتماء لحزبهِ؛ يُكافأ باعتلاءِ السلّمِ درجةًأخرى.

الأستاذ شاكر والد زوجتي، رجلٌ قصيرُ القامة،أصلعُ الرأس، له عينان كعيني الصقر، ولسانٌ مثلُ شفرةٍ حادة.يتجنبونه الناس حفاظاً على ماءِ وجوههم، ويتملّقون له آخرون خوفاًوطمعا.

كلما رأيته وددتُ لو غسلتُ صلعته بالرمال الساخنة..

فالهدنةُ القصيرةُ انتهت، ولم تمر على سعادةِالناسِ بانتهاء الحرب سوى سنتين. وفي صيفٍ قائظٍ لشهرِأغسطس جُررنا إلى هوّةٍ سحيقةٍتسمى غزوا.. غزو دولةِ الكويت، الجارةِ القريبة جداً.

إنه المهرُ الذي علينا أن نقدّمَه كي يرضى الزعماء، نقدّمُ حياتنا التي لانملك سواها؛ كي يحققَ الرؤساءُ مجدَهم الفردي.

لكننا لسنا في زمن المعلّقات ، ولا زمنِ الفتوحات، إننا في زمنٍ تحكمُهُ الولاياتُ المتحدة، وتحفر البئرَفيه إسرائيل.. ليسقطَ فيه الأغبياء.

فها نحن في بئرٍ مظلمة، نعيشُ في قاعِها منذ عُوقبنا بحربِ الخليج الثانية،جزاءَ غزونا للدولة الجارة..عُوقبنا على فعلٍ لايدَ لنا فيه.

وبدل عملٍ واحدٍ، صرتُ أعمل صباحاً ومساءً كي أسدَّ حاجتي وحاجةَأولادي الأربعة اللذين رزقت بهم في سنواتِ الحصار والجوع.

كنتُ أشتري الملابسَ المستعملةَ،أنظّفها وألبسها؛ كي أتمكنَ من أن أوفّرَ لأولادي ملابساً جديدة، إنها لعنةُ الغزو.. سنواتٌ من الحصارِ لم تبقِ لنا مانسترُ به أجسادنا..

باعَ جاري السجادةَ الوحيدةَ التي يجلس عليها في الشتاءِ ليدفئَ عجيزتَه اليابسة.واشترى بثمنها طحينا ورزّا.

كان بعضُ الناسِ يُقْدِمُ على الانتحارِ حفاظاً على كرامته من الهدر، كانوا يفضّلون الموتَ على أن يمدوا أيديَهم للناسِ ولذلِّ العوز.

في أحدِ الأيامِ سمعنا أنَّ رجلاً من البصرةِأقدم على قتلِ بناته الأربعةِ من شدّةِ الفقر.. فضّلَ قتلهنَّ على تشردهنَّ وضياعهن,أحياناً يتمنّى أحدنا الموتَ من شدّةِ بؤسه, كلما شاهدتُ الأطفالَ بثيابهم الرثّة في الطرقاتِ؛ أتذكّر تلك اللوحةَ الحزينةَ للرسامِ الدانماركي “هانز أندرسون” وهو يصوّر صبياً صغيراً متشرّداً، شاحبُ الوجهِ، ناحلُ الجسمِ، قد أخذَ منه الجوعُ مأخذاً,يختبئ خلف الجدار من البردِ والعواصفِ في قريةِ صيدِ الأسماك، ويظهرُ الموتُبهيأةِ رجلٍ عجوزٍ مخيف، محدودبُ الظهرِ، يضعُ يدَه اليمنى على رأسِ الصغير، فيما تحمل يدُهُ اليسرى منجلاً يخطفُ به الأرواح..كان اللونُ الترابي يخيّم على اللوحة، وملامحُ الطفلِ والعجوزِ تبيّن أنَّ الموتَ قد يكون رحمةً للصِبيةِ المتشردين.

سنواتُ الحصارِنشّفتِ البطونَ،وكشّفتِ العورات…

إننا في القاع نقتاتُ الحصى والرمال.

لا أدري وأنا في جوعي ومعركتي مع الحياة.. هل كانت تعاني مثلي!

هل زوجةُ العقيدِ جرّبتِ الجوعَ والمهانةَ في هذه السنواتِ العجاف؟

ياترى..أين أنتِالآن يا ندى؟

هل أصبحتِأمّاً، هل أنجبتِ بنتاً لها لونُ عينيك العشبيتين؟

لا أعلم هل يحرّم اللهُ عليَّأن أشتاقك، وأتلهّفُ لنظرةٍ واحدةٍمن عينيك؟

أبنائي يكبرون يا ندى، ولدي عليّ بدأتْ تتفتحُ زهرةُ صباه وشبابُه هذه الأيام، لو رأيتيهالآن  لقلتُأنَّ له لونُ عينيَّ العسليتين، ونظرةُ الإصرارِوالتمرّدِ نفسها.

هل مازلتِ تذكرين عيني ياندى! أم طَوتِ الأيامُ ذكراي،وصار وجهي نسياً منسيا..

(21)

 

كنا نفترشُ الأرضَ في غرفةِ المعيشةِ نتحلقُ حولَ صحنٍ من الخبزِالمنقوعِ بالبهارِ والماءِ والملحِ،كانت قد وضعته زوجتي وسطنا أنا والأولاد.كان هذا النوع من الطعام هو ما نلجأإليه حين ينفد كل مالدينا من مخزونٍ للرز والخضروات، وغالباًما كان ينفد بعد أول أسبوع من الشهر.مددتُ يديَّإلى صحنِ الخبزِ المطبوخِ، فلسعتِ السخونةُإصبعي،فأبعدت يدي بانتظار أن يبردَ الطعامَ قليلا،ثم جلتُ بنظري على أولادي الجالسين معنا، وانتبهتُإلى أنَّأصغرَهم سنّاًلم يكن في موضعهِ،فهممتُ بالسؤالِ عنه وقبل أن أبدأ سمعتُ صراخاً يأتي من صوبِ المطبخ، فركضتُأتفقّد الصغيرَ خوفاً من أن يكون قد ارتكبَ حماقةً، وراح يلعبُ بنار الموقد، وحين وصلتُإلى هناك شاهدتُ ولدي وقد أمسكَ بعنقهِالأجدعُذو الحدبة، الذي كان يعذبني في زنزانتي! ورأيتُ سفوداً مشتعلاً في يدهِ اليمنى، وقد علّقَ فيه قطعةً كبيرةً من اللحمِ المشوي، لكنِ الدم ما زال يتقاطر منها.وحين دققتُ النظرُ جيداً في قطعةِ اللحمِ؛أدركتُأنها على شكلٍ كليةٍ شويتْ على النار حتى تفحّمت، ولم يوقفْ تفحّمها نزفَ الدمِ منها.ثم راح يحاول إطعام ولدي الصغير من تلك الكليةِ الفاسدةِ،حينها صرختُ بصوتٍ كالرعدِفأدار المسخُرأسَهُ الكبيرَنحوي وعيناه تشتعلانمثل لهيبِ الجحيم الأسود،بينما كان ولدي يصرخُفزعاًشعرتُ بقدميه الصغيرتين تركلني في خاصرتي، رغم أنه لم يتحركْ من موضعهِ وكفُّالمسخُمطبقةٌ حول عنقه الصغير.

وحين أمسكتُ بطفلي من كتفيه، محاولاً سحبه من بين ذراعيّ وحشٍ الزنزانة ذاك؛ رفعَ طفلي من حدّةِ صراخهِ.عندها سمعتُ زوجتي سلمى تنادي باسمي حسين.. حسين..ما بك؟

شارك مع أصدقائك