محمد ع.درويش
يطل عيد المعلم هذا العام في ظل استمرار الحرب التي يشنها العدو على مناطقنا في الجنوب ومجازر يرتكبها بحق الإنسانية في غزة.
إلى المربي والأب الروحي، إلى ذلك الإنسان العظيم، معلمي المفكر الراحل الدكتور حسن صعب الذي نستمد منه النور والعلم والمعرفة ما حيينا.
د.صعب انت وسام شرف على صدورنا سنبقى حاملينه ما حيينا، وسنبقى فخورين بك وبجهودك العظيمة والكبيرة، يا صاحب الأيادي البيضاء، يامن غرست بنا كل المبادىء والقيم السامية والتي ستبقى مزروعة فينا.
يقول د.حسن صعب :
“المرأة التي تربي طفلها بعقل حديث، والمعلم الذي يكون تلميذه بعقل حديث، والباحث الذي يعمل في مختبره بعقل حديث، هؤلاء هم الذين يصنعون وجودنا فيعطون بفكرهم وسلوكهم البرهان الصادق على ما نحن فيه من تقدم او تخلف”. د.حسن صعب بدأ حياته ازهرياً ودبلوماسياً واستاذاً جامعياً وعميداً ومستشاراً وكاتباً من الطراز الاول، وأطل على الانماء بوهج جديد، وانتهى رائداً لانماء الإنسان كل إنسان وكل الإنسان.
د.صعب استبق الأحداث وقال إنه على يقين بأن لبنان يتحوّل من حالة الحرب إلى حالة السلم، ولكن هذا التحوّل يجب ألاّ يكون تحوّلاًّ عشوائياً بل تطويراً عقلانياً من التخلّف إلى التقدم، ومن الغابة إلى الحضارة، وإلى العيش بكرامة لجميع مواطنيه. وهي في نظره جوهر التطوير الإنمائي وادرك اننا مدعوون للتفاعل والتعاون مع الأشقاء والأصدقاء، في هذا العالم، الذي أصبح حاضرة كونية واحدة، بفضل اعجاز التواصل الإعلامي اللحظوي
واكد بأن لبنان الذي جعلوه مقبرة الإنسان، سنستعيده منارة الانسان، ونحن نعيد تأهيل إنسانه، ليحقق فيه إنسانيته تحقيقاً ابداعياً متكاملاً.
في العام 1979 دعا د.صعب الى ملاقاة الانتقال من الصحافة الطباعية الى الصحافة الالكترونية التي ستصبح بديلة للصحيفة الطباعية المكتوبة والاذاعية والتلفزيونية هذه الصحيفة التي عرّفها د. صعب “باللوح الإلكتروني” سيشغّل على نطاق كوني من محطة فضائية ذلك أن التواصل الأرضي سيخلفه التواصل الفضائي.
سنوات مضت على هذه الدعوة قبل ان تصبح حقيقة عاشتها الصحافة المكتوبة مؤخراً وانتقلنا الى عصر الاعلام الفضائي والاقمار الاصطناعية التي تسيّر كل انواع الاتصال في العالم.
وهذا ما أرتآه د.صعب لطبيعة الإنسان اليوم والذي اسماه “الانسان التلكراسي” حيث كل وسائل الانتاج هي وسائل تبادلية او تواصلية بين المنتج والموزع والمستهلك، ذلك ان تكنولوجيا التواصل الاعلامي كما اسماها، تصوغ الانسان صياغة فردية لا ككائن فردي او اجتماعي بل كوني.
السنا نعيش اليوم العولمة بكافة أبعادها الإقتصادية والاجتماعية والاعلامية.
د.صعب آمن بالعقل والحرية، واذا اعتبر ان العقل يحرر الإنسان من سلاله، آمن ايضاً ان الحرية هي الإسم الآخر للإنسان، والكمال الذاتي لا يتحقق الا من خلال الإنسان الحر.
من هذا المفهوم انطلق د.حسن صعب في تجربته السياسية داعياً الى تعزيز الثقافة الإنتخابية بواسطة وسائل الاعلام وكان شعاره الحرية والكرامة والاستقلال.
وقد دعا في محاضرة القاها في العام 1960 الى ابعاد القيد الطائفي عن الحياة السياسية والى ضرورة الغاء الطائفية عن قانون الإنتخاب اضافة الى دعوته الى تجديد الحياة السياسية ودعم الوجوه الجديدة.
ما طرحه حسن صعب العام 1960 نعيشه اليوم فهو الذي دعا مشاركة المرأة الفعالة في الحياة السياسية وذهب أبعد مما يطرح اليوم حول الكوتا النسائية، اذ اعتبر ان الانتخاب الصحيح هو الذي تشارك فيه المرأة مشاركة فعالة مع الرجل.
حسن صعب الذي كان يعتبر ان الحياة العامة لا تقوم إلا على أساس الحرية الفردية والوحدة الوطنية والعدالة الإجتماعية دعا الى تعزيز قيمة المواطن، فمفهوم المواطنة بالنسبة اليه هو الذي يعزز الوحدة الوطنية والمساواة بين الجميع.
وشخصية حسن صعب تجسد شخصية المواطن العربي المنشود، القادر على التوفيق بين تراث الماضي ومستجدات الحاضر، وعلى إغناء الفكر الديني برجاجة التفكير العلمي.
وكان الإنماء همه الاول والأخير، يتحدث عنه ويدعو اليه في كل محاضرة يلقيها وكان يرى في الانماء عملية تطوير لكل جوانب الحياة تشمل القيم وأساليب الانتاج والانظمة السياسية والاوضاع الاجتماعية. بل كان يعتبره ثورة عقلانية كفيلة بتفجير القوى الخلاقة والطاقات المبدعة في كل مواطن واستثمارها علمياً من أجل توفير حياة أفضل له وتقدم مطرد.
والانماء، في رأيه لايقتصر، كما يعتقد البعض على النواحي الاقتصادية والمادية، وانما يشمل كذلك عملية بناء أو إحياء حضاري. إنه ثمرة تفاعل دائم بين المادة والفكر يفضي دائماً إلى التطور والابداع الحضاري في مختلف المجالات، وكان في أبحاثه عن الانماء يستحضر حالة العرب المتردية ويؤكد أن الإنماء يعني قيام حركة في المجتمع العربي، قادرة على ان تُعيد اليه قدرته على التجدد ذاتياً وتفتح أمامه باب الابداع والتطوير. وهذا لا يتأتى إلاّ بتحرير الانسان العربي من العوز والجهل، وتحرير العقل العربي من رواسب السلفية المتحجرة التي ترفض الاجتهاد والتجديد.
وكان يردد في كل مناسبة أن الإنماء هو إنماء الانسان، كل الإنسان، وان إنماء الاقطار المتخلفة لايتم إلاّ بوجود مؤسسات فيها قادرة على توفير الضمانات لإحترام حقوق الانسان وحرياته الأساسية، وتحرير الإرادة والأرض والتراث من التبعية أو السيطرة الأجنبية، والإسهام في مسيرة الحضارة الإنسانية، والإستفادة من إبداع الغير دون محاكاته، والإعتماد على أفضل ما في التراث دون التقوقع فيه.
معلمي د.حسن صعب علَّمَتنا بلوغَ أَوَجَ قوَّتِنا.. بكَ النّجاحُ يُصافِحنا وبكَ نحتَضن العُلا بِشموخ، أيُّها المُعلِّمُ حسبُكَ أن تكونَ رسولاً إنَّكَ أهلٌ للشُّكرِ والتَّقدير..
لكَ مِنَّا جليلَ الثَّناءِ على عطائِكَ اللاّمُتناهي”.