سيميائية العزاء العراقي( ضيم ولطم روحي!؟)

شارك مع أصدقائك

Loading

د. إسماعيل نوري الربيعي
(الموتى الوحيدون الذين يعودون، من دفناهم بسرعة) جيل دولوز
دخلت سيدة خرقاء اسمها سكيوة إلى سردق العزاء المخصص للنساء، ونادت مولولة؛ (يَمْ البيت جينا وما لقيناها)، عندها هب جمع من النسوة لإسكاتها، منبهين إلى أن الميت رجل وليس امرأة! لكنها لم تكف عن مندبتها التي راحت تكررها في كل عزاء، حتى ذهبت مثلا (قولات سكيوة). حيث التكرار في أقصاه بقصد أو دونه. توقفت ذاكرة المرأة عند تلك العيّنة، فلم تجد في خزينها المعرفي غير ذلك المفتتح الذي يؤهلها لدخول عتبة السردق. كل ما تملكه ذاكرة معطوبة وحرية مستلبة، أكلها الذل وفقر الدم والعوز والارتجال والفقد والحزن والقهر والإذلال والمهانة والقسوة.
(سكيوة) المعدمة، بطاقة دخولها إلى العزاء فاقدة الصلاحية، فكل رأسمالها جملة متكررة وعلامة غائرة، أفقدها التكرار شرط الاستقبال اللائق ضمن جمع الحزن المهيب. فالحزن يقوم على المعرفة لا اللعب، معرفة حاذقة شاملة قوامها الانجاز الشامل والكامل لتقاليد الفقد، والاطمئنان لإنهاء استحقاقات الميت كي لا يعود طيفه القلق يهدد الوعي بالحياة.
في العزاء الجنوبي يعسر على المرأة الدخول إلى العزاء، من دون توظيب مناحة محددة، ذات جرس وإيقاع ومعنى يليق بالميت. حيث الإرث الذي خلفته الثقافة السومرية، إنه البكاء والنواح بناء على الأوامر الملكية الصادرة عن كلكامش، بعد وفاة صديقه وخله أنكيدو؛ (سأجعل أهل أوروك يبكون عليك ويندبونك، وسأجعل أهل الفرح يحزنون عليك)، حزن قسري، وندب إجباري، وبكاء تحت التهديد برسم السلطة العليا! فيما تكتفي نساء منطقة الوسط العراقي، بإطلاق صوت الولولة المبهمة؛(يبوه)، تعبيرا عن المشاركة في العزاء.
حيث لا مهابة للموت
ما هو النسق الدلالي الذي يميز هذا المجال الاجتماعي الهائل الحجم الذي يطلقون عليه العراق، حيث ظاهرة الفقد التي تطغى على ما دونه وما بعده، فقد يأتي بقوة لافتة حتى لتراه شاخصا في المجمل من العلاقات والممارسات، حيث السيادة والطغيان على المعاني والرموز والدلالات، لشيء هو مفقود أو هو في طريقه إلى هذا الفقدان المريع، الذي يتبدى تارة في تعطيل أو فقدان الخدمات الأساسية أو تسيب أو تراجع أو فساد إداري أو تأجيل أو فراغ حكومي. فقدٌ لم يعد فيه سوى ما رددته (سكيوة) حول؛ أم البيت التي جئنا ولم نجدها. والذي غدا سياقا اجتماعيا عراقيا بامتياز، حيث نظام المعاني الذي راح ينتج المزيد من العلامات المتداخلة حول ثقل الفقد الكثيف. فكل شيء لم يعد له حضور، حتى بات العراقي يأتي فلا يجد كهرباء أو إسالة ماء أو حكومة شاء أن ينتخبها، أو أمن علل النفس أن يراه مقتدرا على لجم الإرهاب، أو وظيفة حلم بالحصول عليها بعد التخرج، أو مشروعا أراد تنفيذه من دون الخضوع لابتزاز القوى المتنفذة. الحاضر الأهم هو الفقد حيث علامة العزاء، تلك التي تنتصب في السرادق لتأبين الموتى، وتنصب في الوجوه حزنا على انقطاع مفاجئ للكهرباء، أو انفجار عبوة ناسفة، وتنصب في القلوب فرقا وألما على تبديد المال العام، وتنصب في الأرواح جزعا على وطن ذبيح.
كيف يمكن استيعاب دالة الفقد، في الخطاب الاجتماعي السائد اليوم.هل ينطوي الأمر على البحث في النسقية التي تكشف المعاني، أم أن المعطى الرئيس يبقى يدور في فلك البحث عن نسق العلامات وتزاحمها في فضاء التداول العراقي. ها أنت تراقب إمارات الشجن والحزن والاضطراب ماثلة في القسمات والملامح، في علامات الغضب، في التقطيب، (بالهمسات، بالنظرات، بالصمت الرهيب!)، في ملامح الألم تملأ الوجوه، في العابسين الشاردين. علامات من الأسى تحضر بقوة لافتة في الفضاء الاجتماعي العراقي، حتى لتجد الواحد منهم وقد (نصب سردق العزاء)، المادي والمعنوي، وانطوى يعيش الحزن والغم. علامات تفصح وتنذر وتخبر عن الأحوال والأوضاع. الأمر لا يخرج البتة عن محاولة الوقوف على المعنى، فالنسق الدلالي للعزاء، يتيح أبعادا واسعة نحو إدراك الدلالة العلاماتية، انطلاقا من التفحص في التمثل الجماعي، لكن الأمر يبقى يدور في ثنائية (الشكل والمضمون)، الشكل هو الحاضر الأهم، فيما بات المضمون يعاني من الغياب الملفت. والموت والفقد والخذلان والانقطاع والترهل والفساد والبطالة والحرقة والألم والكآبة و اللاجدوى والفوضى والنسيان و(ثقافة الطايح رايح)، تغدو مجرد ظواهر اجتماعية، تتوافر على الشكل الاجتماعي بكثافة تزيد عن المضمون الاجتماعي. حيث العزاء الذي يحضر بقوة لافتة.
شبكة التأويل
كيف يؤول العراقي علامة العزاء؟ ينصب العراقي المناحة حين لحظة الفقد. ترى العزاء في سحنته، في جلسته القلقة، في وقوفه اللامستقر، في عينيه الزائغتين. في؛ (يا يابه، يا بويه). ولكن باعتياد هذه اللحظة، تتحول هذه الطقوس إلى مجرد علامة تداولية، فاقدة التأثير العميق الذي وجدت من أجله ينوح ويرسم طقس العزاء من أجل التواصل مع محيطه.
يجعل من هذا الفقد طريقة للإشهار والإخبار والإعلان، إنها عملية نقل (التصور الذاتي) بحسب تصنيف أمبرتو إيكو إلى الآخرين. لكن التماثل في الخضوع لذات المؤثر، تجعل من كل هذا، عبارة عن علامة أيقونية يتوافق فيها (الشكل والمضمون). إنه الخضوع لأحوال التنوع الاجتماعي في الممارسات والعلاقات والتجربة، في سحنات الوجوه في طريقة التعاطي مع الواقع، عبر انتشار ظاهرة التدين، أو الإعراض عنه، في التكثيف من نسج علاقات القرابة أو الانقطاع عنها. في الضحك الهستيري، في العويل الطويل الذي يقطع نياط القلب، في حث التراب على الرأس. في تقطيع الثياب، وفي نفش الشعر (كلها طقوس أداها كلكامش حزنا على أنكيدو)، هي أوضاع البحث عن الأشكال الاجتماعية، وطريقة ترصدها في فضاء اجتماعي محدد.
نرصد العلامة الاجتماعية أم هي التي تترصدنا؟! في الصرخة التي تند عن المرأة حين تشهق قائلة (عزه العزّاني)، حين تواجه شرا مستطيرا مفاجئا، في لوعة الرجل حين يقصّر في أداء واجب اجتماعي ولسان حاله يقول؛ (سخام السخمني)، حيث الكناية عن نصب العزاء، باعتبار السخام رديف السواد والحزن العميق الذي يعتلج في نفس المقصّر. في أكوام المزابل التي انتشرت في المدن العراقية حتى غدت مكونا بنيويا ودلاليا على الأوضاع المزرية التي يعيشها الفرد العراقي. في المياه الآسنة والرائحة العفنة التي تفوح في أحياء كانت توصف بالراقية، في الفواصل الكونكريتية التي تعزز أوضاع التقسيم والتوزيع والمحاصصات بين الأحياء السكنية.
في السلوكيات اللامسؤولة التي يرتكبها المسؤول بحق أبناء الشعب، حين يتغاضى عن تجاوزات رجال الحماية في موكبه. في العدد الوافر من الأحزاب والكتل السياسية، في التكاثر الأميبي للصحف اليومية والأسبوعية، في الاندفاع الغريب نحو الحصول على لقب دكتور وبطريقة غير شرعية (حيث لمسة مريدي الاحترافية في التزييف والتزوير)، في الخطاب الارتجالي للقنوات العراقية الفضائية، والتي تكاد أن تكون فضائية لكل مواطن! في اللغة الركيكة وغياب البديهة لدى جمهرة من المقدمين والمعلقين التلفزيونيين، في اللباس الرث الذي يرتديه عامة الناس في المدن، في الهزال الذي طغى على الوجوه والشيب الذي غزا الرؤوس، ولا عزاء لهدر سنوات العمر. في البذاءة والعبارات الغريبة والهجينة التي راحت ترددها الأفواه من دون اقتصاد، وعلى شاكلة (بوري، علاسّة، قفاصة، بطة، حديقة)، ولاعزاء اللغة. في تسلل القيم الغريبة والمستهجنة. في السلوكيات الشاذة، في الحركات الغريبة، ولا عزاء لخراب النفوس. كل هذه علامات اجتماعية لها الدور العميق في حفز الذاكرة الدلالية، ولها الدور المكين في حفز الرؤى والتصورات والقيم السائدةـ، حيث التأثير المباشر في البنية العقلية والنفسية. إنها العلامات التي تدعونا هي نحو قراءتها وتفكيك أنساقها الاجتماعية. إنه العزاء الكامن في النفوس، في العقول، في الثقافة، في الواقع,أن تعيش العزاء، فأنت عراقي بامتياز. فيما تبقى” الله ما تسمع هلي، شلون بغرامك مبتلي”، تغطي أرجاء الفضاء المبتلى بالغم والهم والقنوط.
شارك مع أصدقائك