حوار مع الدكتور خزعل الماجدي

شارك مع أصدقائك

Loading

حاوره حسن جوان *

 

*تناولت في طروحاتك الرواية التاريخية والرواية الدينية، وتوصلت الى ما يمكن وصفه بالتناقض أو عدم وجود دليل مشترك بين الروايتين، كيف يمكننا حلّ مثل هذا التناقض بين ما تطرحه الوثيقة التاريخية من يقين وما تتوارثه الاعتقادات الدينية من مسلمات عاطفية إيمانية؟

– لابدّ في البداية من التمييز بين ثلاثة أمور اضعها بالتسلسسل حسب أهميتها، أولاً الآثار القديمة وهي الأكثر اعتماداً ودقة في فحص كل شيء وليس الأديان فقط، فنحن لا نستطيع أن نفحص الحضارات ولا الأنثروبولوجيا وماضي المجتمعات إلا اعتماداً على الآثار، لكننا في المقابل، يجب أن نخضع هذه الآثار للتمحيص والتدقيق، واخضاعها للمناقشة العقلية والفكرية، فنحن لا نأخذ الرواية الموجودة في الآثار على عواهنها. وهذا المجال هو الأكثر ضبطاً في موضوع التاريخ والأديان والاساطير والحضارات. أمّا المجال الثاني فهو المرويّات التاريخية القديمة والوسيطة والحديثة، وأقصد بها المادة التي كتبت في المخطوطات، ولا سيما في مطلع العصر الوسيط، حيث استقرت كوسيلة أساسية في نقل المعلومات. هذه المرويات الموجودة في المخطوطات مليئة بالمبالغات والروايات العاطفية والأيديولوجية عن احداث ذلك الزمان، ولذلك لا ينبغي أن نأخذ بها كما هي. وهناك من يتصدى الآن لجميع المرويات المسيحية والإسلامية واليهودية التي ذكرت في هذه المخطوطات، ولذلك هي تخضع للتدقيق العلمي لأنها أقلّ مصداقية من الآثار العينية المكتشفة الخاصة بالنقوش والكتابة القديمة. المجال الثالث هو المرويات الدينية المقدسة وغير المقدسة، المتعلقة بالأديان التوحيدية وغيرها ايضاً، وهنا يجب تخليص هذه الكتب من كونها كتباً لتاريخ الأديان أو وثائق تاريخية فهي في الغالب كتب عظة ومادة لذكر الأحداث لا بحرفية وإنما بدافع العبرة، لذلك يجب ان لا تؤخذ على انها كتب تاريخ او فيزياء وكيمياء وعلوم وتأريخ فهذا غير صحيح. الكتب المقدسة لها مجالها الوحيد وهو الطمأنينة والعمق الروحي للإنسان، وأخذها للحوادث والأمثلة كعينات للإيمان أكثر منها كتباً تقدم لنا تاريخاً معيناً.

مما تقدم نستنتج أننا يجب أن نضع الأمورالخاصة بتاريخ الأديان في نصابها العلمي الصحيح وليس في الظنون التاريخية المروية المقدسة وشبه المقدسة، لان مثل هذا المنهج لن يفضي بنا الى نتائج صحيحة على الأقل في ضوء ما اكتشف من آثار لحدّ الآن.

*في حركة تطورها أو إفاداتها من موروثاتها السابقة، أشرت في حديث متلفز الى أن الأديان سارت في خطوط متصلة زمنيا،ً ولم تحدث بينها قطيعات كما يعتقد بعض الدارسين، هل يعني ذلك أن الدّين يخضع لصيرورات التاريخ وحركته دون أن يتعارض ذلك مع فكرة الوحي والنزول المفارقتين؟

– النقطة الأولى هي إن الدين ظاهرة تاريخية شئنا أم ابينا، أي أنه موجود ضمن التاريخ، رغم أنه يدّعي بأنه ظاهرة ميتافيزيقية، أو ميثولوجية أو عود أبدية دائرية الشكل، فهو حركة مستقيمة للتاريخ الكرونولوجي المتتالي، أمّا أن يقول الدين بأن هناك أحداثاً خارج التاريخ ذات طبيعة ميتافيزيقية فهذا من مستلزماته هو، أمّا نحن الذين نفحص المادة العلمية فإننا غير ملزمين بهذا، لأننا في المختبر لا نتحدث عن أشياء غير موجودة، فذلك من شأن المؤمن وليس من شأن العالم. نحن نبحث عن المادة التاريخية ولذلك يخضع لدينا الدين للتاريخ مثل أية ظاهرة أخرى، نعم هو له ميزة خاصة كونه يتصل باللانهائي وبالمقدس، وهذا يؤشر قيمته، ولكن لا يُنجيه من الخروج عن الصيغة التاريخية للأحداث فالكون كله يخضع لفكرة التاريخ ، من الإنفجار الكبير إلى يومنا هذا .

النقطة الثانية هي أن الدين ظاهرة اجتماعية، رغم أنه يربط المجتمع بسياق غيبي، ونحن نراقب حركة المجتمعات وكيف تبنّت الدين واستعملته وكيف أنّه تطوّر عبر السياق التاريخي الاجتماعي.

النقطة الثالثة هي أن الدين ظاهرة انثروبولوجية، بمعنى أنه من ظواهر الإنسان رغم أنه يدّعي أنه ظاهرة ثيولوجية ( إلهية ) ، فالانسان هو محور الأديان. نعم هناك من يقول أن الله هو محور الأديان وهذا صحيح من حيث تقرره الأديان لنفسها، أما بالنسبة لعالم الانثروبولوجيا فالانسان هو محور الظاهرة لأن الأديان تدور حوله بدليل أن النباتات والحيوانات لا أديان لها. نحن في النهاية نذهب في المختبر وراء المادة العلمية، أمّا أنّ هذه المادة تتعارض مع فكرة الوحي فهذه مسالة طبيعية، لان هذه الأمور تقول بها الأديان عن نفسها، ونحن في حال خرجنا من المختبر فلنا أن نؤمن بهذا أو لانؤمن ، وهذا يتبع اختيارنا ، فالعالم المؤمن متروك لما يؤمن به خارج المختبر الذي يشترط التعامل مع معطيات محددة.

*في المرحلة الأيونية كانت الفلسفة ما قبل سقراط مفعمة بالأسطورة والتعددية، كما في المراحل المبكرة من الحضارة الرافدينية. لماذا أدّى زواج الدين بالأسطورة ، لدى الحضارة الشرقية، الى ولادة الدين، بينما أدى لدى الإغريق الى ولادة الفلسفة، ولم يأت الدين اليهم سوى لاحقاً ومن خارج أنساقهم؟

-اسمح لي أن أقول بأنّ سؤالك فيه مشكلة حقيقة، تستدعي ضرورة فهم تاريخ الأديان، فهذه هي الطريقة الوحيدة لحل هذه المشكلة، ما أريد قوله هو أن الإغريق وبلاد الرافدين بدءآ بالدّين ، وكان الدّين عندهما معاً يحتوي على الأسطورة، حيث لم تكن الأخيرة شيئاً منفصلاً عن الدين حتى تاتي إليه وتتزاوج معه، فالأسطورة هي المكوّن الثاني من مكونات الدين. إذاً كانت نقطة الشروع واحدة لدى الإثنين، ولكن الاختلاف أن الإغريق كتبوا أساطيرهم بطريقة أدبية غير مقدسة على يد هوميروس وهسيود ولذلك كان في هذه الكتابة الأدبية الكثير من المرونة بحيث كان بالإمكان اختراقها والتعامل معها بدنيوية، واستنباط الفلسفة من الأساطير وكذلك المسرح والمنطق، فكان الخروج لدى الاغريق عن الأسطورة والدين أمراً سهلاً. لكن ما حصل في وادي الرافدين والشرق كله هو أن الأسطورة كانت مندمجة اندماجاً مقدسا لا فكاك منه داخل الدين ، والى يومنا هذا.

*الأسطورة هي نصّ مقدّس بحسب تعريفك، وهذا يجعلها محاطة بالحماية والثبات. ماهي العوامل التي تؤدي الى انهدام اسطورة ما  أو ازاحتها لصالح اسطورة أخرى وهل هذا يشبه مبدأ نسخ الديانات لبعضها على اعتبارها احتواء أرحب وأكثر معاصرة؟

-أقول أولاً : ان تنوع الأديان وظهور اديان جديدة ونشوء صياغات جديدة للأساطير هو السبب في ان “تنهدم” هذه الأسطورة كما تعبّر، ولكنه في الحقيقة ليس سوى تنوع جديد لصالح الأسطورة، على سبيل المثال إذا نظرنا الى اساطير وادي الرافدين عندما اخذت تنتشر في أماكن أخرى صيغت منها- لاسيما أسطورة ديموزي وإنانا- أساطير أخرى بطريقة أخرى تناسب المكان واللغة والتراث الذي حلت فيه، فهناك ايزيس واوزيريس في مصر، و وبعل وعنات ثم ادونيس وافروديت في الشام .

أما ثانيا فأقول أن سبب هذه الإزاحة هو التداول الشفاهي للاسطورة والذي يغير دقة النصوص المكتوبة، وهذا يلعب دوراً خطيراً في إزاحة وانعطاف الأساطير عن منطقة نشوئها الأصلية، ويساعد على تناسلها بشكل عشوائي، منتجاً أساطير جديدة تحسب أيضاً على انها مقدسة لاحقا.

أمّا العامل الآخر فهو تغير العصر التاريخي لها، فأساطير العصر القديم لها قوام ونسيج خاص، وموضوعها كان الآلهة بشكل خالص، لكنها في العصر الوسيط ، وبعدما حسم موضوع الإله الواحد الذي ليس له اساطير، لم يعد من الجائز وضع قصص له، فذهبت الأساطير نحو الأنبياء والملائكة والقديسين ونحو التاريخ، وبذلك أصبح العصر الوسيط ينتج أساطير تاريخية يؤسطر فيها التاريخ، ولهذا جاء التاريخ في غالبه مزيفاً. أما في العصر الحديث فقد ذهبت الأسطورة الى الواقع، فانتجنا اساطير الملوك والفنانين والمشاهير، أما في الزمن المعاصر فقد ذهبت الأسطورة الى مناطق الاستهلاك، فأصبحت الإعلانات والدعايات الضوئية والإنترنت ونظرية المؤامرة والأطباق الطائرة وغيرها هي اساطيرنا الحالية التي نعيشها. الاسطورة بقيت موجودة لكنها مواربة لا يمكن القبض عليها وسجنها مطلقاً.

*كان الاستشراق ولا يزال بمنهجه وأهدافه القديمة والجديدة محل حذر وريبة لدى الدارس العربي، رغم وجود بعض الدراسات الاستشراقية التي تميل الى بعض الانصاف للتاريخ والمجتمع العربي. هل يمكن النظر الى مدارس الاستشراق خارج رؤيتها الاستعمارية أو العولمية الجديدة؟

-يجب التفريق ،اولاً ، بين عمل المستشرقين والأكاديميين، فالأكاديمي استاذ يجلس في قاعة درس بعيدة عن الشرق ، في أحد اصقاع العالم ، ويقوم بتدريس تاريخ الشرق وحضارات وأديانه ، وهذا لا ينطبق عليه اسم مستشرق مطلقاً، ومن هنا أتى خلط كبير بين الأكاديمي المتخصص والمستشرق. المستشرقون هم مجموعة كبيرة متنوعة مكونة من صحفيين ورحالة ورسامين وأدباء ومفكرين ومؤرخين وغيرهم، كلهم موجّهون توجيها خاصاً نحو الشرق لفحصه ثم السيطرة عليه عن طريق معرفته ، وهذا تمايز تام بين النوعين. وهناك –عوداً الى سؤالك- استشراقان، واحد قديم يعود الى العام 1873 وانتهى 1973 بمعنى انه استمر قرناً كاملاً. وهذا وصل الى ذروته الأكاديمية في هذا التاريخ الأخير، حيث بلغ مرحلة أكاديمية ممتازة، وطرح جانباً جميع الأقاويل القديمة عن الشرق بما فيها كلمة استشراق نفسها وأبدلها بالدراسات الآسيوية والشرقية. وهكذا انتهى استعمال مصطلح الإستشراق نفسه ، وبقيت مؤتمرات الاستشراق متوقفة حتى أحداث سبتمبر 2001، حين ظهر نوع يُدعى (الاستشراق الجديد) ، الذي بدأ بعدوانية ظاهرة مقطوعة الصلة بالاستشراق الناضج القديم ، حيث وظف طاقته للترويج لفكرة ان الإسلام يهدد العالم وان الحرب القادمة هي مع الإسلام الذي ينتج الإرهاب، وبالتالي ظهر استشراق جديد مدبب أعاد نهش جسد الشرق بطريقة مجحفة ومؤدلجة. ما أود قوله هنا هو حيثما يكون الاستشراق ، قديما وحديثا ،  عندما يكون مؤدلجاً فيجب فحصه والردّ عليه بموضوعية.

*عراقولوجيا هو علم دراسة العراق- العراقيات – كما أفردت لهذا بحثاً. وهو نظير علم المصريات والهنديات وغيرهما. لماذا تأخر هذا العلم عن النهوض بالتوازي مع مجاوراته، ولماذا تقف كثير من الدول والجهات موقفاً سلبياً من حضارة العراق والتي قد تصل الى التعتيم عليه او محاولة نزع الأصالة عنها بإحالات شتى؟

-أقول بصراحة أن العراقيين هم الذين خذلوا العراق أكثر من محيطهم وغيره، لعدة أسباب ، أولاً لاختزال العراقيين حضاراتهم باسم واحد وهو (حضارة وادي الرافدين ) وانا لا اراها كذلك، ودافعت بشراسة عن ذلك، لاني أرى بان هنالك اربع حضارات أصيلة ومؤسسة في وادي الرافدين، وهي السومرية والأكدية والبايلية والآشورية، وهناك أربع حضارات مشتركة مع دول أو مناطق أخرى ، وهي الأمورية والحورية والآرامية مع بلاد الشام ، والعيلامية مع الأحواز المحتلة من قبل إيران ،هذه الحضارات المشتركة أهملها العراقيون، ومنحوها “هدية”  للآخرين وهي موجودة على ارضهم وهذا تقصير كبير من المؤرخين العراقيين.

النقطة الثانية في الموضوع هو ضغط الحضارة الإسلامية على حضارات الرافدين ومحاولة تقزيمها وإهمالها واتهامها بالوثنية وبعدم الفاعلية. وهنا اشكال خطير. فأنا أعتقد أن الهوية الرافدينية هي التي صنعت الملامح الأولى للعراق ، ثم جاءت الحضارة الإسلامية لتكون بغداد عاصمة الحضارة الإسلامية لخمسة قرون.

والنقطة الثالثة وآقولها- آسفاً- ان التوتر الشيعي السني ساهم كثيراً في شرذمة تاريخ العراق وعدم جعله موحداً، في حين إن كلّ كلمة وصفحة وعالِم وأثر وملمح ثقافي وحضاري في العراق هو جزء من حضارة العراق مهما كانت طوائفه واثنياته ومدنه.

ثم نأتي ونقول أن كل دول الجوار تحاول ثلم حضارات وادي الرافدين وربطها بها ، ولزمن قريب كان بعض المؤرخين المصريين يسخرون من كون الحضارة السومرية هي أول حضارة في التأريخ .. وغير ذلك كثير .

*ما الذي جعلك تركن الى اختيار شخصية سردنيبال كرمزية مركزية وتوظيفها مسرحياً في واحد من أهم نصوصك المسرحية المعروضة  في بغداد مؤخراً؟

-أردت أن أوصل رسالة للحاضر تقول: إنّ الفساد والخيانة وسيطرة الفاسدين  وإشاعة الطائفية وانتشار السلاح ستؤدي الى الخراب والزوال، وأن المهنية والشرف وإقامة الدولة المدنية القائمة على العدل والمساواة وأسس العلم الحديث هي الحل. يجب أن يوضع العراق على الطريق الصحيح للتمدن والتحضر والعلم والثقافة والحرية، وأن يتخلص من شرور التخندقات القومية والمذهبية والدينية، لان شخصية سردنيبال تعطي هذا الانطباع، فهو شخص حرّ شعر بأن بلده في آخر اللحظات المؤدية لانهيار حضارة آشور، بعد أن انهكتها الحروب والدمار والخراب والخيانة والفساد، لقد فات أوان الإصلاح ودخل الأعداء آشور ، فقام بجمع كل هؤلاء الخونة ووضعهم في غرفته وأحرق نفسه وأحرقهم جميعأ معه، وهذا يعني أنه نوع من الإنتحار..وهذا مصير لانتمناه لحاضرنا ، لكننا يجب أن نتّعظ منه !

*أما زالت السنة العراقية لدى الشاعر خزعل الماجدي “تلدُ احزاناً” أم أنه يضمر أملاً غير مرئي في القادم من أيامه وأيام البلاد؟

-أقول وبكل صراحة انا متشائم. نعم ، سيلد العراق أحزاناً قادمة، طالما أنه منقسم على نفسه ونظامه تحاصصي والفساد والسرقة تستشري به، ولا وجود لحرية الراي فيه، وطالما بقي مثقفوه مهادنون ومجاملون للسلطة. لست متفائلاً بما سيأتي ولا أنظر من خلال ثقوب التهدئة التي تحصل هنا وهناك أحياناً. لكنني أتمنى أن ننتهي من هذه المرحلة ونطويها إلى الأبد ، ونفتح باب التحضّر والعلم والنزاهة على مصراعيه في بلادنا .

*- نشر في (جريدة الصباح) بتاريخ 18   / 1 / 2022

شارك مع أصدقائك