رواية انتحار تكتيكي    . الفصل الأول ..

شارك مع أصدقائك

Loading

د.تهاني محمد

لتستحم روحي في نهرِ النسيان (ليثي) ..عندها سأنسى من أنا وأعود إليكِ في جسدٍ آخرَ وروحٍ غير معذبة..وسأحبك من جديد.

نهر ليثي هو من أنهار العالم السفلي في الحضارة الإغريقية، ويعتقد الإغريق أنَّ من اغتسل بنهر ليثي يخرج فاقداً لذاكرته

(1)

(رسالة)

لستُ منهم ولن أكون, لن أستمرَّ في الدوران مغمضَ العينين مثل ثور الساقية, ولن أكتب حكايتي على صفحةِ الماء، ما إن أنتهي من خطِّ حرفٍ حتى ينمحي ما قبله,لستُ جباناً يا ندى..وما سأقدم عليه ليس مبرراً للهروب,أنا فقط أرثي حالي وحال هذه البقعةِ التي تطاردها اللعنات منذ أن وُجِدتْ على ظهر هذا الكوكب المسكين، الذي يتناوب على اغتصابه المجانين مذ ولد سابحاً في فضاءٍمخيفٍ لاقرارَ له..

الصندوقُ الخشبي يلاحقني.. وحفّار القبورِيعطرُ فأسَهُ بالكافور…

إنهم يريدون منّا أن نكونَ شيئاً بلا روح، مثل قطعةِ مطاطٍ أو خشب, جماداً لا روح فيه, خاضعاً لا يغضب ولا يثور.

اعذري جنوني ياندى، سأطلق الآن رصاصتي الأخيرة.

سأخرج من تلك المهزلة،لأنَّني غير مقتنعٍ بالهلوسة البغيضة التي زُجِجْتُ فيها رغماً عني؛ مثلما زُجَّ فيها كثيرون غيري.

سأكون عندك في الموعد المحدد،عند الساعة السابعة, مساءَ الخميس,الأسبوع المقبل…

انتظريني كما اتفقنا سلفاً.. لن أخلف الموعد.

ولن أكون بهيمةً في حربٍ أوارُها المتقدُ شارفَ على عامهِ الخامس.ولهيبُهُ يزداد ضراوةً دون أدنى أملٍ في الخمود.

حسين

1985

(2)

(رصاصة)

تلالٌ متحركة,رمالٌ على مدِّ البصرِ تتلوى تحت أشعةِ الشمسِ الضاربة إلى الحمرة,ساعاتُ النهارِ تزحفُ مثقلةً مثل سلحفاةٍ معمرةٍ مصابةٍ باللامبالاة,تختبئ الشمسُ فزعةً من غسقٍ شتائيٍّ باردٍ، موسومٌ بسوء الطالع,ريحٌ تعوي,رؤوسٌ تحت خوذٍ ثقيلة، تتلصصُ عن مصيرها من خلف الساتر الترابي, شتاءٌ يزحفُ بأجنحةٍ جليدية,انتظار,كلاب تنبح,عتمةٌ تُطبقُ شيئاً فشيئاً حتى يتسربَ الظلامُ عبر المساماتِ ليحتلَّ الأجسادَ بالكامل, ينتصف الليل,قصفٌ مدفعي,رصاص,صرخات, أقدامٌ تهرول,قلمٌ يتوقف بين حرفين, ثم صرخة مكتومة, الكلماتُ تنزلق هاربةً من الورقة,ساقٌ تتقيأ دمَها، برد, ريح, صرخات, عتمةٌ برائحة الدم,أشياءٌ تتبعثر, رؤوس, أذرع, أرجل,ثلاثةُ أشباحٍ تسرع الخطى متراجعةً نحو الخلف, اثنان يسحبان ثالثهما من تحت إبطيه, أخدود من الدم يتعبهم, بقع الدم تتخثر في الرمال الباردة, الدم يرسم جناحَ فراشةٍ ممزقٍ على وجهِ الورقة التي اندثرت حتى المنتصف بين الكثبان, الرمال تزحف, رمال متحركة, هنا تبدأ في تلك اللحظة, تبدأ قصة، تبدأ.. ولن تنتهي أبدا.

(3)

(الجسر- بغداد 2015)

الواحدةُ بعد منتصف الليل..الجسرُ خالٍ إلا مني..يقبع الجسر في وحشتهِ مرتين في اليوم، حيث يهجره الجميع.. حين تحرقُ جسده شمسَ النهارِ القائظ تارة، وحين تغادره لتنامَ في غروبها تارة أخرى. يسكن الجميع إلى مضاجعهم، تاركين خلفهم جثةَ الفولاذ والإسمنت التي احتضنتْ أقدامهم طيلةَ النهار من دون أيِّ شعورٍ بالإثم..

كان الجسر الحديدي فارغا من المارة مكتظا بي وحدي .أنا وهو غريبان جمعتهما ساعة العتمة الموحشة ولسعات الحنين القارصة .لم اقو على العودة إلى منزلي هذه الليلة كعادتي في الأيام الخالية عند خروجي من مكتبة الحاج صباح ساعة احمرار الشفق وانحسار الضياء معلنا نهاية حقبة ثقيلة من عري مؤلم يسمى نهارا.

كان الليلُ سكني ووسادتي لكنه ومنذ شهر خلا لم يعد كذلك، أمسى الليل يمتصُّ دمي ويلقي بي في عمق الذكريات، حتى بتُّ أخشى ولوجَهُ في أطرافِ نهاري.

تلك الرصاصةُ اللعينةُ لم تفارقْ روحي.هل كنت جباناً حقا؟ أم مجنوناً يطلب الحرية في زمن العبيد! أم متمرداً كما كانت تنعتني أمي..أمي التي لم تخرجْ من بين شفتيها كلمةٌ لا وربما لا تعرف كيف تقولها أساساً.

ربحتْ بجنوني عتقَ رقبتي وخسرتُ ثلاثاً.ربحت اثنين مقابل ثلاث.هل ياترى تلك معادلة متوازنة الأطراف!اثنان مقابل ثلاث..أين الفوز في هذا أيها الغبي!حريتي ومبادئي مقابل ساقي وأحدى كليتي وحبيبتي.

قدماي تخطُّ على الجسر الحديدي. أسمع وقعهما الشاذ إنه يترك صداه في نفسي، منذ عدة عقود سقيمة.وقع خطواتي يثير في نفسي الاشمئزاز.وأنا أجرٌّ ساقي المعاقةَ جرّاً على الإسفلت المعلق في الهواء،أسمع أنيناً مكتوماً لا أعلم مصدره ربما هو أنينُ روحي الضالة،أو أنين الجسرِ الحديدي الذي يبكي غدر من مروا عليه، وداسوا جسده بأقدامهم الوقحة.

رصاصةٌ لعينةٌ أطلقتها على ساقي بيدي، معتقداً أنني سأرفع هامتي بوجه دكتاتور يُصَيّرُ حياتي بيده مثل عجينةٍ مصنّعةٍ يلعب بها الأطفالُ ويشكلون منها وحوشاً وحيوانات مسلوبةَ الروح والإرادة.ما زلت أذكر ما أقدمتُ عليه في تلك الليلة.

حيث كانت خطّتي أن أستغلَّ وقتَ هجوم العدو، وبدايةَ معركةٍ كسابقاتها، فأطلق النار على قدمي اليمنى وأحطم عظامها،كي أصبحَ معاقاً وأنسحبُ من بالوعةِ الموت تلك؛كوني لا أصلح للقتال، لكن الرصاصة الطائشة أخطأتِ الهدفَ فضربتِ الساقَ في منتصفها، وهشّمتِ العظمَ وأحدثتْ خرابًا كبيرًا من مسارِ دخولها، حتى نقطة الخروج ..

لم أعِ ما حدثَ لي على وجهِ الوضوح، لكنني بعد ثوانٍ قليلةٍ شعرتُ بإعياءٍ شديدٍ وضيقٍ في التنفس، ثم غشاوةٍ وظلامٍ يعتلي بصري، حتى فقدتُ الوعيَ ويدي تمسكُ بتلك الورقةِ البيضاء، التي كتبتُ فيها رسالتي إليك، والتي اصطبغتْ بالدم ومازال مصيرها مجهولاً حتى اليوم.

كنتُ أودُّ الخروجَ من بالوعةِ الموت..أحياناً من الأفضل أن تنتهي  معاقاً على أن تموت..

وساوسهم الخبيثة تقول.. من لم يمتْ في الحرب خائن…ففي الجبهات إما أن تكون قاتلاً أو مقتولاً. .لست من هواة القتل..ولا من عشاق الموت أيضاً..

أنا فقط…أريد ..أن ..أعيش.

ندى، يا من تركتني أغرق وأسماكُ القرشِ تقطّعُ لحمي غير المملّح، فتأكلني حيّا..تقذفك الأمواجَ اليوم بعد كل تلك السنوات، تلوحين لي مثل حوريةِ بحرٍ أسطورية،تفتح ذراعيها تطلب احتضان أشلائي المقطعةِ القابعةِ في جوفِ أسماكِ القرش اللعين…

أتعلمين شيئاً يا حوريتي؟ أنتِ لستِ سوى حمقاء تقفُ على جرفِ الحياة..ماذا تفهمين أنتِ عمّا يشعر به إنسانٌ وجدَ الحقيقة! أتظنّين أنَّ من يفهم الحقيقة أحمق؟ كلا يا عصفورتي،من أبصر الحقيقة هو من يعتنق فكراً وينشقُّ بفكره عن سيرِ القطيع .. إنه يناضل، يصارعُ الحياةَ ويقارع المقبول والعادي ليس غروراً، أو تشدقاً، أو حباً في الاختلاف، بل لانَّ المقبولَ والعادي مما تعود عليه البسطاء من الناس ما هو إلا هراءٌ أفتى به رجلُ دين، أو زعيمٌ مصابٌ بالهوس .. فإن خالفهم مثلي الرأي والفكر؛ غيبوه في سجونهم خوفاً من سريان عدوى أفكاره..ثم ينفكُّ عنه محبوه، ويهجره قريبهم، وينبذه بعيدهم، وكأنه مصابٌ بالجذامِ أو الجنونِ المخجل.. لكنني أرى أنَّ المخجلَ هو سكوتنا عن الباطل ونأينا عن الحقِّ خوفاً أو تملقا.

يبدو أنني أثرثرُ مستغلاً الظلمة والسكونَ وصوتَ أمواجِ دجلةَ الضاربةِ في جرفهِ، أقفُ وحيداً أحدثُ نفسي كالممسوس، أتلو قصتي على نفسي، فيستمع إليها النهرُ دون أن يجيب. لا أحد يجيب المجانين..أو ربما لا أحد يحفل بضحايا القدر..

القدر.. يا لها من كلمة! أتظنين أن هناك شيء اسمه “قدر” بالفعل؟

بالنسبة لي ما زلت غير متأكدٍ من وجوده..ثم ماذا لو لم يكن له وجودٌ أساساً؟وكل ما حدث ويحدث ما هو إلا خطوات أقدامنا، فيها الكثير من الحماقة وسوء تقدير.

ماذا لو كان القدر شمّاعةً أثريةً صدئةً، نعلق عليها تفاهاتنا وسوء خياراتنا !

أستطيع أن ألعبَ الآن  لعبةَ مع القدر..الحقُّ أن لي الليلة مزاجٌ كبيرٌ في الموت…

وكم أتمنى أن أودعَ الحياة هنا في هذه العتمة وحيداً..

مُنيتي الليلة أن أطوى كما تطوي السفينة جناحيها وتغرق في المحيط، تاركةً  وراؤها عويلاً وأسئلةً لا جواب لها..ففي قاع المحيطات تكمن كل الأجوبة.

لا إثمَ في أن أتمنى نهايتي اليوم، ففي نهايةِ الأمر كلنا سنموت..أنا وأنت.. كلنا، كما غيرنا..لا فرقَ في الوقتِ حين يكون الموتُ مؤاسياً لنا.ثم أنَّ الليلةَ القمرُ بدرا، ورذاذٌ لطيفٌ بدأ يهمي للتو من الغيمات الحبلى وهي تتكئ على كتف بعضها بعضاً… طقس رائع هذه الليلة..القمر يبدو ضخماً مثل كرة من النحاس..يهرب عارياً من ستر غيماته، ويتركها مكوّمةً على بعضها مثل خِيَمٍ تكسّرت أعمدتها ويشقُّ بصدره المكوّرِ السماءَ، ليسبغَ هدوءاً غريباً على عتمةِ الجسرِ وينسج أسراراً وحكايا.

أرى أنه وقتاً رائعاً للموت.ما رأيك يا حوريتي؟

منذ زمنٍ بعيدٍ لم أسحبْ شريطَ الذكريات من قبره..لكنه اليوم يستيقظُ مثلَ وحشٍ  أسطوري بألفِّ جناح..يفردها كلها في وجهي دفعة واحدة…يعرض محطاتي على شاشةٍ عملاقةٍ تفقدني بصري.

لا أدري إن كنت أحلم.. لم أعد أميز بين اليقظة والحلم…صورٌ كثيفةٌ متلاحقةٌ تمرُّ أمام ناظري، لكن مهلاً.. ماذا يحدث؟ إنه صوت رصاص.

يأتي من بعيد، يشق الصمت، يبدو أنَّ أحدهم يحتفل بخطب ما.لا أعتقد أنني أهذي.. إنَّ الصوتَ يقترب.. الصوتُ يقتربُ والسماءُ فوق الجسرِ ترصّعها نقاطٌ حمراء.. بالتأكيد هي ليست نجوماً…

فالنجومُ لا تطلق صوتَ الموت، إنه صوتٌ فرحٍ وأهازيج، ممزوجٌ بصوت الموت، لقد جُنَّ الناسُ ولا ريب..ففي الأيام الغابرة – حين انتهت حرب الثمان سنوات – جنَّ الناسُ أيضاً لكنه كان جنوناً رقيقاً، فراحوا يتراشقون بالماء ويغرقون بالبللِ والضحكِ الهستيري دون وعيٍ منهم، فمن كان يصدق أنَّ أطولَ حربٍ في القرن العشرين تنتهي بكل تلك الغرابة في يوم وليلة!

لكن إذا كان لها من البساطةِ أن تنتهي هكذا لِمَ تلاعبتْ بنا مثل دمى معلّقة بالخيوط..أنها لمهزلةٌ كبرى.لا بل المهزلة الأكبر أن يجن الناس اليوم، فيتراشقون بالرصاصِ ساعةَ الفرح، وتسيل دماءً بشريةً، بدلاً من دماءِ الخراف.يبدو أنَّ الخرافَ انتصرتْ في نهاية الأمر.وراحتْ تنعمُ بالسلام؛ بعد أن استعضنا عن نحرها بنحر بعضنا بعضاً.

بعض  الرصاص يتساقط حولي على الإسفلت البارد للجسر، يحدث ندوباً إثرَ سقوطهِ على هذا الجسر المسكين. ربما تنالني أنا أيضاً رصاصةٌ هاربةٌ من فوهةِ بندقيةِ مجنونٍ راح يحتفل بفوز المنتخب، أو ربما يعبّر عن موقفهِ الرجولي وهو يطلق الرصاص في عرسِ أحدِ شباب الحي… يا لهم من أغبياء!

فالرصاص ينال منهم، يسخر من الجثثِ وهي تتزاحمُ في الطابور على دكّة الدفّان المصنوعةِ من الرخام الصقيل، يغسلها بالماء والسدر، ويلبسها حلةً بيضاء، ليواري عورتها ثم ترقد، هناك في مثواها وبدون سببٍ للموت؛ على أنه “رصاصة طائشة” .

لكن من هو الطائش حقاً، أهي الرصاصةُ أم من أطلقها؟

أعتقد أنَّ كلَّ هذياني هذا ليس مهمّا، ففي النهاية كلنا سنموت تحت عنوان (المغفور له) .

ينعتوننا بالمغفور له دون أن نمارسَ الغفران فيما بيننا يوما.

والآن  هل أغفر لك أم تغفرين أنت لي؟ وهل سيغفر لي ولدي؟ إن صارحته بسرّي وسرّك النائم منذ عقدين من الزمنِ أو يزيد!

لنعدْ إلى اللعب مع القدر..مادام الرصاصُ ينهال حولي كالسهام.. ألا يجب أن أموتَ برصاصةٍ لو وقفت هنا أنازل القدر وأتحداه؟أعني أنَّ الدلائلَ العقليةَ تقول لابدَّ أن تصيبني رصاصة. لكن لو كان للقدر وجودٌ ولم يكن مقدّراً لي أن أموتَ هذه الليلة،فسوف تغير كل الرصاصات الحمقاء وجهتها وتحيد عن رأسي وصدري مستسلمةً لأمرِ القدر..

ولو لم يكن للقدرِ وجودٌ؛ إذاً من أتى بكِ يا ندى، وأقحمك في حياتي وحياة ولدي! بعد أن طوى النسيان قصتنا مثل صفيحة صدئةٍ دحرجتها العواصفُ ورمتْ بها في مقبرةٍ للقطعِ والهياكل الحديدية، عديمة الجدوى، وأبحر كل منا في قارب، فارداً شراعَهُ في وجهِ الريح، وحين انتبهنا من رحلتنا، كانت مراكبنا قد رستْ وصار كل منا في ضفة.

يقولون إنَّ اللحظةَ التي تسبقُ الموتَ يفهم فيها الآن سان سببَ وجوده.يا ترى ما كان سبب وجودي في حياتي هذه؟ هل كلُّ عذاباتي وحياتي كانت جسراً لولادة عاشقين صغيرين؟ رسم لهم اللهُ حكايةً لا تقل غرابةً عن حمل زوجة النبي إبراهيم العاقر،أو انبثاق ماءِ زمزمَ من تحت قدمي طفل رضيع وسط صحراء لا يشقُّ سماءها طيرٌ ولا تدبُّ فوق رمالها الساخنة بهيمة !

وماذا عن حيواتي السابقة وعوالمي الأخرى، التي قد أكون عشتها قبل ربعِ أو نصفِ قرنٍ أو يزيد،أو ربما مازلتُ أعيش فيها الآن ، بشخصيةٍ مختلفة..أكنت معذباً هناك،كما أنا الآن ؟أكنتُ فيها قاتلاً أم قتيلا؟ ألم يعتقد كثيرٌ منّا بخلودِ روحهِ، وتناقلها عبر الزمن من جسدٍ إلى جسد..أو ربما لحيوانٍ ما، أو شجرة، أو حتى طائر البلشون المكتئب؟ ما سبب وجودي يا الله؟ في هذا الزمن تحديداً؟ فحياةٌ بلا سبب؛ نهايتها موت بلا نتيجة. أين هي تلك اللحظة، اللحظة التي تسبق موتي، فيتجلى لي كل ما خفي عني من أسباب..أين ؟أفكاري تضرب بعضها في رأسي، وكأنها تتأرجحُ في مقطورةٍ فوق سكة حديد, أو حُشرَتْ في خلّاطِ شرابٍ يدوي، تتفكك تمتزج ..وتضيع مني كل الخيوط.

  • البلشون: هو مالك الحزين.

(4)

 

كان ليدها ملمسَ الحريرِ الهندي, يعبق منها عطرُ أزهارِ الياسمين الشامي,أناملها البيضاء الحريرية تداعب خصلاتِ شعرهِ المجعد، وتحاول تفريقها وبعثرتها بشقاوة، أمسك بيدها الصغيرة وجذبها إلى شفتيه الدافئتين، وبدأ يقبل كلَّ إصبعٍ من أصابعها، ثم يمرر باطنَ كفِّها على وجهه، ويستنشق عبيرها، كأنه يشمَّ عبيرَ ضريحٍ مقدسٍ،أو رقبةَ رضيع حديث الولادة.

تسمّرتْ عيناه على البريقِ المنبعثِ من عينيها الخضراوين الواسعتين. عينان تشعُّ بضوءٍ وخضرةٍ فاقعةٍ لا توجد حتى في أعين القطط ! تنافس في  خضرتها غابات الأمازون، تحيطهما رموشٌ كثيفة حالكة السواد، ويعلوهما حاجبان سوداوان كثّان مثل وترٍ منتصبٍ في قوسه، متأهبٍ للرمي، يحمله سحرهما إلى تلك الغابات البعيدة, يخترقه,يخلع قلبه من صدرهِ وتتوقف حينها عقارب الساعة ويتبعثر الزمن.

كانت عيناها تبتسمان، قال لها:

– ندى،لابد أنَّ ذلك البيتِ الشعر ينظم من أجل عينيك أنت.

انفرجت شفتاها عن ابتسامةٍ عذبةٍ فاقَ سحرها ابتسامةَ عينيها.

فعاود حديثه بشيءٍ من الدهشة:

– صدقيني إنَّ ذلك البيت قيل في عينيك أنت، فلن أصدقَ أنَّ السياب قد رأى يوماً عينين أجمل من عينيك ليقول فيهما:

(عيناك حين تبسمان تورق الكروم…وترقص الأضواء كالأقمار في نهر )

جلجلتْ ضحكتها في الأرجاء، وملأتْ أذنيه بغنجٍ رقيق، ثم سحبتْ كفَّها من بين كفّيه بنعومة، وهمست في أذنهِ بصوتٍ يشبه التغريد:

– كفاك غزلاً وشعراً،إنَّ نظراتك تربكني.

هيا، قم،فقد تأخّر الوقتُ وشارفتِ الشمسُ على المغيب..لابد أن نلحقَ الباص الذي يمر بعد خمس دقائق من أمام المتنزه، لا أريد أن أتأخر عن البيت حبيبي.

أمسكتْ بكفّهِ وجرّته وراءها مهرولةً بين أشجار الكالبتوس العملاقة،التي تصطفُّ على الجانبين،وتنساب من خلال أغصانها أشعةُ الشمسِ الحمراء وهي  تنسحبُ خجلةً خلف الأفق، تاركةً وراؤها سماءً قرمزية داكنة.

كانت تسرع بالجري وهو يلاحقها لكن ساقه ارتطمتْ بجذعٍ مغروسٍ يرتفعُ ربعَ مترٍ عن الأرضِ،لشجرةٍ قطعتْ وبقيتْ آثارها منتصبة.وفي العتمة المتزايدةِ لنهاية الغروب، لم يلحظ حسين ذلك الجذعَ المشرئبَّ، فضربه بساقهِ وصرخ متألما:

ندى، توقفي.. قد جُرِحَتْ ساقي بشيءٍ ما..ندى، لا لا..لا تضغطي هكذا على الجرح.. حبيبتي، ابعدي يدك أرجوك…أبعديها…آآآآه.

وفي لحظةٍ واحدةٍ طرقَ سمعَه صوتٌ غليظٌ يصرخُ على عجلٍ فيسحبه من غيبوبتهِ المؤقتةِ ويعودُ بهِ من هذيانهِ إلى واقعهِ الممزوجِ بوجعِ ساقهِ وجلبةِ الرجال الذين يحيطون به..رجلٌ ما يصيح به:

– ملازم أول (حسين علي تمام )لا  تتحرك، ابقَ هادئاً،إنَّ ساقك مهشمةٌ بفعلِ رصاصةٍ أصابتك، ساعدنا كي نوقفَ النزيفَ ونتبينَ موقعَ الضرر.

 

تمتم بكلماتٍ غير مفهومة، فصاح أحدُ الرجالِ من حوله:

– يبدو أنه يطلب الماء..حسين أنت عطشان؟ تكلم أتريد ماءا؟ حسين ، ابقَ متيقّظاً أرجوك، حسين…

 

في لحظةٍ خارجةٍ عن الزمنِ تلاشتْ كلُّ الصورِ من أمام عينيه، صورةُ ندى تلاحقها أشجارُ الكالبتوس الباسقة، وجذعُ شجرةِ المتنزهِ المقطوع.بدتْ تتراءى له خيالات صورٍ لرجالٍ بوجوهٍ سمراء وشواربٍ سوداء طويلة،وشفاه ذابلة، ثم صمَّ السكونُ أذنيه، وملأ الظلامُ الحجرةَ فتماهى الحلمُ والواقعُ في غيبوبةٍ  طويلةٍ لم يع حسين كم من الزمنِ دامت ْليجدَ نفسه بعدها ملقىً على سريرٍ في غرفةٍ كبيرةٍ تزدحم برجالٍ كثر،بعضهم يرتدي المعطفَ الأبيضَ ويحمل أنابيبَ وأدوات لم يتمكنْ من تمييزها أيَّ نوعٍ تكون، وآخرون مستلقون فوق الأسرّة وهم ببدلاتهم العسكرية، وأنابيب المصل معلقة في أيديهم،أو تخرج من صدورهم أنابيبُ بلاستيكية شفافة، يمر فيها سائلٌ أحمر يصب في قناني  اسطوانية  صغيرة مسندة على الأرض، وصوت الصرخات ينم عن ألمٍ عميقٍ ينبعث من كل مكان في الغرفة.

حاول حسين أن يفهمَ ما يحدث، ومن المظهر العام للسقف والجدران، وأشكال الرجال، والأدوات والروائح النفاذة للمعقمات، وكومة الضمّادات والقطن، وأشياء معدنية حادة لامعة؛ تجمّعتْ في ذهنهِ المشوشِ صورةٌ ترجمها العقلُ الذي يستند في تحليلهِ على الشيفراتِ المخزونة في الذاكرة، وعرّفها له بأنها مستشفى عسكري لمعالجة الجرحى، وقبل أن يحاولَ سحبَ صوته من حنجرته المتخشبة كي يسألَ السؤال التقليدي (أين أنا.. وماذا تفعلون بي؟) شعر بأنَّ السريرَ راح يتحرك وينزلق بسرعةٍ كبيرة في رواقٍ طويل،وانصبَّ في أذنِهِ صوتٌ أجشٌّ يصرخ من خلفه بالرجل الذي يدفع السرير قائلاً:

– بسرعة… إلى صالة العمليات الكبرى … إنه كسرٌ تهشّمي في عظمِ الساق، وقد يكون هناك قطعٌ في الشرايين، ضغطُ دمهِ يكاد يصل إلى درجةِ الصدمةِ، والنبضُ بدا يختفي.

……………………………………………………………………………………..

(5)

أخبروني أنهم حملوني من حيث كنت في المحافظة (ع) إلى  المستشفى العسكري في بغداد.

تلك المحافظة المنكوبة التي ذاقت الويلات فقط لأنَّها ولدت بمحاذاة الجحيم، ومن يُولد على تخومِ اللهبِ سيحترق بعضٌ منه لا محال، حتى لو لم يسقط في خنادق النار.

أنا راقدٌ هنا منذ عشرةِ  أيامٍ يا ندى,لا بد أنك تظنين الآن  بأنني خائن.. خذلتك ولم أكُ شريفاً ورجلاً كما اعتقدتِ.لكن كيف لي أن أخبرك بما حدث ومن يحمل رسائلي إليك؟

هل ستنتظرينني يا ندى؟

مثلما كنتُ دوماً هناك في انتظاري أمام قاعة المحاضرات كل صباح.. تقفين منتصبة بجسدك الذي يقطعني نصفين كضربةِ حسامٍ بتّار لا يرحم، كنت التهمُ تفاصيلك المذهلةَ تلك من بعيد، وحين أوشكُ على الوصولِ أتصنّع دورَ التلميذِ الخجلِ من أن يرفعَ نظره إلى جسدِ معلمتهِ الحسناء. كم اشتقت لسني الجامعة تلك، حيث كنا نحمل الأحلام زاداً، وجذوةَ الأملِ لنا ملاذا.

هل ستنتظرينني كعهدي بك؟ بابتسامتك التي تزهرُ فوق شفتيك المطليتين بلونِ الوردِ في أول تفتّحهِ! شفتاك الممتلئتان الشهيتان وكأنهما نصف تينة ناضجة.

أنا أستغيث في عرضِ صحراءِ المستحيلِ يا ندى، وأستجدي أثداءَ البراري لترضعَ طفلَ حبي البكرِ ولو شيئاً من علقمِ الصبر الطويل.

أرضي اليبابُ عطشى ،وسمائي تظلّلها غمامةٌ كسيحةٌ، وأنا لا أملك شيئاً من مقاومةِ نبتةِ الصبّار وصبرها على الجفاف وقلبي لم يرثْ قسوةَ البدو الرُّحَّل.

هناك من يقول: أن على هذا الكوكب اللعين عليك أن تستخدم كل ذكائك، كي تعيشَ وكل غبائك كي تتعايشَ، فما هذه الأرض إلا رقعة شطرنج,كلهم بيادقُ وأنت الملك,حرّكْهم حسب خطتك ودعْهم يظنون أنك تسير حسب إرادتهم. أعتقد أنني تذاكيتُ قليلاً، ورسمت خطتي لكني إلى الآن  لا علم لي كيف ستنتهي اللعبة.

حسناً؛ فلتنتهِ كيفما شاءت، فقد نفدتْ ذخيرتي من الصبر على أية حال.

هل ستفهمين يا ندى أنني قد صمدتُ خمسَ سنوات أقاتل في حرب خدعنا فيها جميعا !.

قد خدعونا بنزاهةِ تلك الحربِ كما يخدعون الصغارَ بكذبةٍ هزيلةٍ فيخبرونهم أنَّ المرأةَ تلد الأطفالَ من سرَّتِها وليس من مكان آخر. يخجلون من تسميته لن، فنصدقهم بخبلِ الطفولة وبراءتها.

لاشكَّ أنكِ مازلتِ تذكرين ذلك اليوم البغيض يا حبيبتي، فهو مازال عالقاً في رأسي مثل شظيةٍ خبيثةٍ تأبى أن تفارقَ العمقَ وتخرج للسطح، يوم ودّعتك ولحقتُ بأقراني إلى ساحاتِ القتالِ، يومها كان موقعي في الخطوط الأمامية لقطعاتِ المشاةِ المقاتلة.لقد قاتلتُ ببسالةٍ يا ندى، لكنني اكتشفتُ أنَّ تلك الحربَ ما كانت إلا خدعة.

فزعيمنا الذي يحكمنا بالحديد والنار رمى بنا لنكون وقوداً يُحرقُ في لعبةٍ سياسيةٍ قذرةٍ لم نفهمها حتى الآن ، لكنني فهمتها منذ سنواتٍ خلتْ يا ندى.فهمتها بعد أن قاتلتُ دفاعاً عن أمي وعنك وعن النساء والأطفال حيناً، ومدينتي وعن بغداد والشمال والجنوب وكل شبر من وطني حيناً.يمكنك القول أنها لحظةُ وعيٍ حادة..تشبه الاكتشافَ السحري لما يحيطنا من كره مظالم..

لكن تلك الحقيقة التي أوهمونا بها لم تكن تعني له شيئاً يا ندى، إنها محض كذبة..إنه يقاتل لترسيخَ مجدهِ الفردي الهتلري فحسب.

هوسُهُ بالخلود لن يتوقفَ حتى لو قُطعتْ رقبةُ آخرَ ذكرٍ رضيعٍ في هذه الأرض المنكوبة،

صدقيني حبيبتي ..تلك هي حقيقة ما نحن فيه. إنه جنونُ العظمة لا غير.

هَوَسُ السيطرةِ والخلودِ حتى لو كلَّفَهُ ذلك أن يدفعَ بالشعبِ كلهِ في محرقةِ الحربِ التي طالتْ ألسنتها اللاهبة ُلتلتهمَ غاباتٍ خضراءَ بأكملها.

نحن نذهب لحقولِ الموتِ مجبرين..

وهذا ما يفعله الزعماءُ الدمويون في شعوبهم، إنهم يخالون بأنهم عظماء، لا بل حتى الشعوبِ المسحوقةِ تحت ثقلِ عظمتهم تخالهم عظماءً أيضاً، ويحسبون أنَّ لهؤلاء العظماءِ المتفردين كلُّ الحقِّ في ارتكابِ أبشعِ الجرائمِ دون أن يلقي أحدٌ عليهم اللوم فقط لأنَّهم عظماء منذ الولادة.

ألم تقرئي كيف يهذي ذلك المحمومُ الذي ارتكب أولَ جريمةٍ له في حياتهِ وراحتْ تلاحقُه الكوابيسَ والحمى، ثم هو يحدث نفسَه بأنه رجلٌ غيرُ اعتيادي ويحقًّ له ارتكابَ القبائحِ مادامت تفضي في نهاية الأمرِ إلى السبيلِ، لكل ما هو عظيم ومفيد للإنسانية، فكانت مفردةُ”الجريمة”في نظرهِ لا تعني سوى خرق القانون، فلا جرائم يرتكبها العظماء، ولو كانت الجريمةُ تستحق العقاب؛ فلابد إذاً من محاسبةِ الكثيرين ممن أفادوا البشريةَ وانتزعوا السلطةَ نزعاً بالقوة،ثم أنَّ هؤلاء نجحوا في  جرائمهم،فأصبحوا في نظرِ الناسِ على حق.إن لم تتعرفي عليه حتى الآن ؛ أنصحك بالإسراع في قراءة روايةِ الجريمة والعقاب لمسبار النفس البشرية “دستويفسكي” ستجدين ذلك المحموم هناك وهو يصفُ نظريته بخصوص نوعين من الناس، العاديين وهم الذين لا يحق لهم إلا الطاعة وغير العاديين أو العظماء،وهؤلاء الذين خلقوا للسيادة، لهم الحق في كل شيء “قد يطلقون المدافع على طولون، أو يحدثون مذبحة في باريس، وينسون جيشاً في مصر ويضحّون بنصف مليون رجل بلا فائدة في حملةٍ على موسكو وهذا ما فعله نابليون، ثم يقام لمثل أحدهم النصب بعد موته، فلهؤلاء يباح كل شيء.. إنهم ليسوا رجالاً من لحم، بل هم من البرونز”.

هكذا يفكر الزعماء.. وهكذا ترتكب المذابح، وتشتعل الحروب، دون أن يعي الناس العاديون شيئا..الناس البسطاء الذين يجيدون التصفيقَ والتهليلَ بعد أن يعلنَ الزعماءُ النصرَ وتشيدُ لهم التماثيل وسطَ نافورات الدم التي سفكوها.

هل سمعتِ بداءِ السوداء، الذي أصيبتْ به البغالُ في الجبهة الشمالية؟ لا شكَّ أنك تسخرين مني الآن ، وتقولين إنَّ البغال هي محض بهيمة لا تشعر ولا تضجر وإلا لماذا ننعت أحياناً الشخص عديم الشعور بالبغل !!…إن كنت تظنين ذلك فأنت مخطئة حبيبتي…

تلك الحرب الطويلة لم يفلتْ منها مخلوقٌ دون أن يصابَ بلوثةٍ عقليةٍ أو رغبةٍ جامحةٍ في الآن تحارِ أو يختصر على نفسهِ الطريقَ واللغطَ الكثيرَ، فيفتح صدرَهُ للرصاصِ ويسقط صريعَ حربٍ مبهمةِ الدوافع.. نعم يا حبيبتي، تلك البغال التي تشعرين بالقرف منها كانت تملك حسّاً أكثر مما يمتلكه بعض البشر، وحين وصلتْ إلى حدٍّ فاقَ قدرتها الحيوانية الهائلة على التحمل؛ كانتْ تقف على حافة الجبلِ، تنظر نحو المنحدرِ تتأملُ الوادي لحظاتٍ ثم ترمي بنفسها في الوادي السحيق دون أيِّ تردد، كانت تنتحر ببسالة! البغال لم تكن غبية، كانت تعلن رفضها لظلم البشر وغبائهم اللا متناهي.

هل تدركين إلى أي مدى يصلُ ظلمِ الإنسان يا ندى..لا لن تدرك يمامةٌ مثلك بشاعةَ هذا العالم، إنه أبشع من وجهِ قسِّ يمارس الشذوذ خفية، أبشع من لحظاتِ الاغتصابِ الجماعي لطفلةٍ مُشرّدةٍ من قبل متسوّلي وسكارى الأزقة ليلاً.

أليس بشعاً أن نمشّطَ الأراضي المزروعةَ بالألغامِ بين الحدودِ بأجسادِ الحميرِ، فنتركها تركض على التراب الملغّمِ تتفجر ويتناثر لحمُها ودمُها ونحن نراقب بعينين وقحتين وليمةَ الحمير تلك؟ ثم نحتفل بنصرنا ونسير على لحمِ الحميرِ المحروق بعد أن صارت الأرض آمنةً خاليةً من الخطر! ما الذي تعرفينه عن بشاعة الحرب يا حبيبتي، بل ما الذي تعرفينه عما يشعر الجندي المخدوعُ بخدعةِ حبِّ الوطنِ والدفاعِ عنه؟ هل قرأتِما قاله ماركيز عن الوطن؟ أنا أحبُّ ماركيز إنه عبقري ولا شك، لكنني أمقتُ بطلَ روايته “الحب في زمن الكوليرا” لقد كان رجلاً غريباً يعبد امرأةً ويسحقُ تحت قدمهِ الأخريات، كان يعوّض عن خذلان حبيبتهِ له، فراح ينغمسُ بعلاقات جنسية عديدة، حتى تلك الفتاة الصغيرة التي أودعها والدها لديه لم تسلم من قضيبه المشتعل! عشقته الطفلة البريئةُ وسلّمت له جسدَها يمرح فيه كيف يشاء، حتى أوصلها إلى قتل نفسها والخلاص من حياتها بعد أن تحسّست منه الجفاء، كان بطلُ روايتِه نتناً، رغم أنَّ الروايةَ رائعة.

*من رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي

نسيت أن أخبرك ما قاله ماركيز عن الوطن، فلقد أخذني الـتأمل بعيداً مع بطلِ روايته غريب الأطوار ذاك..

يقول: إنَّ الوطنَ خدعةٌ صنعتها الحكوماتُ كي تدفعَ الجنودَ إلى الحربِ مجاناً.

ما رأيك حبيبتي ، هل الوطن خدعة؟

فلنفترضْ أنني ولدتُ في أستراليا، أو كندا، أو الصين، أو أي بلد آخر غير بلدي هذا.. تأمّلي معي ولا تجزعي من ثرثرتي، فأفكاري تطيح برأسي وتثقل كاهلي، تخيّلي أننا ولدنا هناك وشربنا من مياهِ أنهارِ تلك البلاد..استنشقنا هواءها، وملأنَّا رئاتنا بأوكسجينها، ثم أننا تمرّغنا بترابها وتشرّبنا بعاداتها.. نحمل جنسيتها كمواطنين، عندها أي أرض ستكون وطن لنا؟ هل البلادُ التي ولدنا وترعرعنا فيها، أم تلك التي ننتمي إليها بفعلِ العِرْقِ والعشيرة؟

لا أعتقد أنك تملكين إجابةً لسؤالي، فحتى أنا لا أملك جواباً يشفي غليلي، سؤال يشبه دوامةَ البيضة والدجاجة، أيهما وجد أولاً في هذه الحياة، أو هو يشبه مولودٌ له اثنان من الأمهات، أمه التي حملتْ به فحسب، وهو ليس من خلاياها بل كانت رحماً حاضناً له لا أكثر، كان بيضةً مخصبةً من مبيضِ امرأةٍ لا تمتلك رحماً، تحلم هي وزوجها بطفل، تلاقح حيوانُه المنوي مع بيضتها، وزرعتْ في رحم امرأةٍ أخرى، وهكذا ولد الطفلُ من رحم امرأةٍ وتغذّى على حليبها وتشرّب رائحة جسدها، ثم وجد نفسه قد غادر حضنها عنوةً، وطواه حضن أمه البيولوجية صاحبة البيضة يا ترى من سيكون وطنا لذلك الطفل ذو الأمين..من منهما تستحق ولاءه؟

لكن لماذا أشغل رأسي المتعب بهذه الترهات؟

قد فقدت حماستي يا ندى،لأنَّني اليوم لا أجد مبرراً لتلك الحربِ وامتدادها كل هذا الأمد سوى الجنون والهوس بالخلود، اكتشفتُ أننا جنودٌ في لعبةِ شطرنج على طاولاتهم، يحركوننا وفق رغباتهم كي يشبعوا غرورهم البغيض..

فالرجال يقاتلون دوماً للدفاع عن شيء مقدس يؤمنون به، لكن حين نكتشف أننا جنودُ في لعبة شطرنج؛ ستفقد البلادُ رجالها.

أطلقتُ الرصاصةَ على قدمي، كنتُ أريد أن أحدث خراباً مقبولاً إلى حدٍّ ما، كي أنسلخَ من جنونِ حربٍ لم أعدْ أقوى على مواصلتها، لكن يبدو لي أنَّ حتى الرصاص الذي زودونا به يحمل جنونهم وحبهم للخراب، فقد هشّمتْ تلك الرصاصة الملعونة ساقي، وأقعدتني هنا مربوطاً

بأنابيب المصل والدم، معلقَ الساقِ المهشمةِ عظامها، قد حاول الطبيبُ ترميمَ الخرابِ في ساقي، ثم وضعوها في قالبٍ من الجبس الأبيض، الذي كتبت عليه أول حرف من اسمك (ن) يا نون نسوتي كلَّهنَّ, وقطعتي الناقصة.. وفيك أكتمل.

آه..لا أدري متى يمكن لذلك الخراب أن يرممَ نفسَه من جديد، قد أخبرني المقدّم سامر وهو الجراحُ المسؤول عن العلاج هنا، أنني ربما أستغرق عدّةَ شهورٍ لتحاولَ عظامي المهشّمةُ التماسكَ، ويمكنني الوقوفَ على ساقي مرة أخرى.

لكنني اشتقتُ لغاباتِ النخيلِ في عينيك، ولون اللوز الناضج في حدقتيك اللامعتين ..

ها قد طرّزتُ صفحتين كاملتين من صفحاتِ دفتر الرسائل..كتبتُ لك تفاصيلاً لا شك أنك تجهلينها، لا تخذليني يا ندى.. كوني وفيةً لحبنا، وابتهلي إلى الله ليمنحني القوة كي أعود..

سأحاول أن أجد شخصاً أثق فيه يحمل رسالتي إليك.

نلتقي قريباً يا عصفورتي

وداعاً

حسين

لكن ما هذه الجلبة هناك ؟

صوتُ ركلةٍ قويةٍ على الباب أدّتْ إلى فتحها على مصراعيها، وارتدادُ ظلفتيها بسرعة لترتطم بالجدارِ الصقيل خلفها.

حوّلت نظري باتجاه تلك الجلبة.. إنهم أربعةُ رجالٍ قد اقتحموا الردهة التي يرقد فيها الجرحى،ها هم يتقدمون نحوي بالتحديد يتوسّطهم رجلٌ أربعيني طويلُ القامة، مفتولُ العضلات، شديدُ السمرة، يتدلى شاربه الأسود اللامع على شفتيه من الجانبين، حتى يكاد يلاصق ذقنه الحليقَ. ويتبعه الرجالُ الثلاثة ببدلاتهم العسكرية، وشواربهم السوداء الداكنة التي تشبه شاربَ قائدهم لكنها أقصر منه بقليل، ربما قصروها احتراماً وتبجيلاً لشاربِ قائدهم الطويل المتدلي.

 

إنهم يحيطون سريري، هم الأربعة وانتفاخ مسدساتهم التي في قرابها يظهر بوضوحٍ على الأحزمةِ الجلدية السوداء، الممسكة بسراويلهم العسكرية القاتمة.

فوق الحافة المعدنية للسرير وضعَ الرجلُ الطويلُ قدمه اليمنى، واستندَ باسترخاءٍ تام على الأرض بقدمه اليسرى..

كان لمعانُ حذائهِ الأحمر يشبه نصلَ سكينٍ حادٍّ ملطخةٍ بالدم..ومثله كان لمعان أحذية رجالهِ الثلاثة الحمر..والتي تشبه في مظهرها حذاء الرئيس الأحمر..فقد كانوا جميعهم نسخةٌ مصغرةٌ من الرئيس..بدلاتٌ زيتونيةٌ نظيفةٌ، أنيقة، أحذيةٌ حمرٌ لامعة، وجوهٌ يطلُّ منها التسلّطُ والتجّهمُ والخيلاءُ، تعلوها شواربٌ سودٌ وأذقان يُولغ في حلقها وتلميعها..نعم الكل كان معجبٌ بالزعيم ويضمر له الكراهية في الوقت ذاته، الكل صار مولعٌ بالسلطة، ويتمنى لو كان هو الزعيم بتلك الرهبة التي يلقيها حضوره في النفوس، وبتلك القصور المتناثرة في كل مرتفعٍ ومنخفضٍ في هذا البلد. قصورُ الرئيسِ التي يخدم فيها أبناءُ الشعبِ ويسهرون على راحة الرئيس، الوطن للرئيس وعائلةِ الرئيس وعشيرةِ الرئيس.. والقبور للشعب.

كان الرجلُ الطويلُ ينظر بعينين محمرّتين متوقدتين إلي، ثم أخرج علبةَ سجائره نوع “مارليبورو” غير مستعملة، فتحها برفقٍ كأنه يداعب خصلاتِ شعر فتاتهِ الخجلةِ ليزيحها عن وجنتيها.

أخرج من العلبةِ سيجارةً وأشعلها بولاعتهِ الذهبية المزركشة، وسحب نفساً عميقاً ثم نفثه بزفرةٍ قوية، فتصاعدتْ حلقاتُ الدخانِ الرمادية مكونةً غمامةً صغيرةً فوق رأسه الكبير، كنت أتطلع إليهم بعينين زائغتين مجهدتين.

رمقني الرجلُ الطويلُ بنظرةٍ عميقةٍ ثم قال بصوتٍ داعرٍ تنفلقُ نبراتُه مثل موسيقى تعزفُ بيد عازفٍ غاضبٍ على أوتارٍ تالفة:

– هل تتلاعب بنا يا ابن السافلة؟! أتطلق الرصاصَ على ساقك، ثم ترقد هنا كرجلٍ باسلٍ جريحٍ شريف!.

ثم التفتَ إلى رجالهِ الثلاثةِ وأمرهم أن يحضروا الخائنَ إلى السيارةِ العسكريةِ التي تنتظره في رواقِ المستشفى حالاً.وقبل أن يكملَ أوامره دخل الطبيبُ المناوبُ مسرعاُ وهو في حالةِ فزع يتبعه أحد الممرضين، ثم وقف على مسافةٍ قريبةٍ من السرير بذهول يرقب ما يحدث.

فأشار إليه الرجل الطويل بإصبعه قائلا:

– اخلعْ عنه أنابيبَ المصلِ والدم أيها الطبيب، فهذا الخائن لابد من أن يودّع السجنَ العسكري الآن  للتحقيق معه.

تردّد الطبيب قليلاً في الجواب ثم خرج صوته متحشرجاً من بين شفتيه وأجاب بحذر شديد:

– لكن الرجل مصابٌ بكسرٍ شديد،ٍ وخطرٍ في ساقه، وقد نزف الكثير من الدم، ونسبة دمه الآن  متدنية، وأيضاً أيُّ حركةٍ للساق قد تصيبه بضرر وعطل دائم فيها.

كرر (الرجل الطويل ذو الشارب الأسود الطويل اللامع المتدلي) كلماته على الطبيب لكن هذه المرة بنبرة تشوبها العدوانية ويغلفها شيء من التهديد:

– افعل ما نقوله لك يا دكتور.. ولا تحشر انفك فيما لا يخصك، وإلا…

أسرع الطبيبُ بنزعِ أنبوب المصلِ المتصلِ بيدي اليمنى، وأغلقَ أنبوبَ الدمِ الخارجِ من كيس الدم البلاستيكي المعّلق على حمالة معدنية لتعليق الأكياس، والواصل إلى ذراعي اليسرى لتعويضي عن الكميات الكبيرة من الدم المفقود، ثم أنزل ساقي الموضوعة في قالبٍ جبسي والمعلقة بأحزمة جلدية خاصة إلى أنبوب معدني في مقدمة السرير وحين أكمل عمله نظر إلى عيني نظرةً أخيرة يشوبها الأسى والحسرة، ثم تنحّى جانبا فاسحاً الطريق للرجالِ الثلاثة للقيام بعملهم.

رفعوني بأكفِّهم وأذرعِهم الصلبة،وجرّوني بسرعة، كأنني كيسَ قمامةٍ متعفنٍ، فلم يبالوا للصرخة التي أطلقتها من حنجرتي عندما ارتطمت ساقي المكسورة بحافة السرير،وهم يسحبوني خلفهم، شقّت تلك الصرخةُ جوفَ الليلِ الكئيبِ في المستشفى العسكري، فالتفت إليّ الرجل الطويل (ذو الشارب الأسود الطويل )و لطمني على وجهي صارخا بي:

– اخرسْ يا كلب.

كنتُ من خلالِ فزعي وضعفِ جسدي أحاول التركيز على وجهِ كبيرهم الذي أمر الرجال بسحبي مثل كلبٍ أجرب، كنتُ أريد أن أحفظَ ملامحه في ذاكرتي..لكنه توقف فجأةً وسط الغرفة، فتوقف خلفه رجاله، وأنا بينهم يتكوّم نصف جسدي على الأرض، كان قائدهم يرفع كفَّه ويمسح قبضته في الهواء بحركات دائرية، يبدو كالمجنون وهو يحاول القبض على الفراغ، لكن كفه أمسكتْ بشيء صغير، شيء بجناحين، فأحكم قبضته عليه، ثم هرسَهُ داخلها، وضحكة عالية تشبه في رنينها ضحكةً تعوّدتْ آذاننا على سماعها من التلفاز كل يوم حتى صار رنينها هو النغمةُ العامة لضحكات ذوي البدلات الزيتونية الأنيقة، ثم فتح قبضته على سعتها ونفض منها ذلك الشيء على الأرض، وقبل أن يسحقه بباطنِ حذائه الأحمر،لاحت لي الجناحان، كانت فراشة بجناحين صفراوين مبقّعة ببقعٍ سوداء، فراشة أظلّت الطريق وراحتْ تحلّق في فضاء ردهة الجرحى، الفراش أخرس لا يصدر طنينا، مخلوقٌ قصير العمر، لم أسمع بأحدٍ يتلذذ بهرسِ كائن مسالمٍ كالفراشة، ولم أرَ بهجةً تطفحُ من وجهِ قاتلٍ كما رأيتها على وجهِ هذا الرجل وهو يسحق تلك الجناحين البريئتين تحت حذائه، فيتناثر فتيتهما الأصفرُ المذهّبُ مثل خيوطِ النورِ على سطح المقصلة.

كانت السيارةُ العسكرية تنتظرُ بسائقها أمام الباب الداخلي للمستشفى، واقفة في الباحة، جلس كبيرهم جنبَ السائق في المقعد الأمامي، وحشرني الرجال الثلاثة في الحوضِ الخلفي للسيارة بينهم، وعصبوا عيني بقطعةِ قماشٍ سوداء، بها رائحة عفنة، وانطلق السائق بحركةٍ بهلوانية زئبقية خارجاً من المستشفى يلتهم الطريق العام التهاماً.

كنت أتبيّن تعرجاتِ الطريقِ و مطباته وأشمُّ رائحةَ ذراتِ الغبارِ المتسللةِ من فتحاتِ النوافذِ للسيارةِ الصالون، لكن ضيقَ المكانِ وبنيتي الضعيفة ورائحة العفنِ من العصّابةِ السوداء التي غطّتْ عينيي وتهدّل بعضٌ منها على أنفي أصابني بغثيانٍ شديدٍ وتقلّصٍ في المعدةِ، ثم بدا نبضي يتسارعُ وشيئاً فشيئاً تلاشتْ كلُّ الأصواتِ من حولي، وعتمةٌ حالكةٌ منطلقةٌ من العصّابة توزّعتْ في كل زاويةٍ من جسدي، وتقاطرَ عرقٌ باردٌ من صدغي ورقبتي..كنت أشعر وكأنني أسافر إلى عالمِ الصمت والسكونِ حيث نهاية الأفق.

شارك مع أصدقائك