أحمد طايل
..حفيد الباشا..
في شرفة شقته التي تطل على ميدان الكونكورد بباريس، جلس ( خالد زياد البدوي) طقسه اليومي الذي لم يتغير على مدار سنوات زواجه التي قاربت العشر سنوات، يغادر فراشه عندما يشعر أن أول خيوط الصباح بدأت بالأفق، يميل على زوجته النائمة بجواره، يقبل جبينها، تفتح عيونها قليلا وتبتسم له ثم تعاود إكمال رحلة النوم، يمر على غرفه ولديه ( حازم) الذي أسماه على اسم جده و( كارم) الذي سمي لرغبة زوجته ( كريمان حيدر) سليلة العائلة الشهيرة والتي اختارها له جده، هذا الجد الذى كان يجد نفسه معه دوما، كان الجد يوليه تدليلا كثيرا الكل كان ينتقده ويقول له.
* يا باشا كن عادلا بتعاملك مع الأحفاد، حتى لا يشعرون بأي تفرقة.
تعلو ضحكات الباشا تجلجل بالمكان، وينظر للجميع نظرة تقول الكثير، يأخذه ويجلسه على ساقه، ظل يفعل هذا حتى بلغ من العمر قرابة الخامسة عشرة، بعدها كان يخجل، كان الباشا يرد على اتهامهم برد مقتضب لم يتغير ولا حرف منه.
* أليس هو الحفيد الأول، وهذا يعطيه الحق بالتميز رغم أني لا أميز بينهم، ولكن أنتم من تتخيلون هذا،
كان يسعد كثيرا عندما يصحبه هو إخوته وأبناء عمه وعمته، ويمشي بهم بحواري وأزقة القرية التي أغلبها يتلوى ويتعرج بشكل يثير الدهشة، رغم صغر سنه كان هناك تساؤل يتجول داخله، كيف يعيش سكان هذه الحارات والأزقة الضيقة، والبيوت التي بناؤها مختلف عن بناء سرايا الجد، كان الجد يستوقف الأطفال الذين يمرون أمامهم أثناء تجوالهم، يداعب وجناتهم وشعورهم، يخرج قطعاً من النقود الصغيرة، يعطيها لهم وهو مبتسم، مؤمن الجد أن الابتسامة أهم من أي عطاء آخر، كان يأخذهم إلى أراضيه الممتدة على مد النظر، يجلس معهم أسفل شجر التوت أو الجميز، يطلب من أحد المزارعين أن يقوم بشواء الأذرة لهم على أعواد الحطب أو الخشب ، كم كان طعمه لذيذا، كان كثيرا ما يأمر أحد الفلاحين أن يتسلق شجر التوت ويهزه وآخر يجمعه في وعاء ويقوم بغسله جيدا حسب تكرار طلب هذا من الجد، التوت الذى به ألوان الأبيض والقرمزي، كان يطلب من البعض أن يأتوا ببعض الدواب، يضع كل منهم على دابة ويقوم آخر بمساندته حتى لا يقع، رغم الخوف الذى كان يعتريه هو تحديدا لهذه اللحظة إلا أنه كان سعيدا للغاية والدابة تسرع به، كثيرا ما كان يجلسهم بأحد زوايا الفراندة المتسعة صيفا أو بالقاعة التي يستضيف بها ضيوفه، يسمعون الحكايات ومناقشات قد لا يفهمونها ولكنه والجميع كانوا شديدي الإنصات لهذه الحكايات والأحاديث، كان يشعر بالدفء التام حين يفتح الجد ذراعيه طالبا منهم الإتيان إلى أحضانه، كان هو أسرع الجميع مؤكد لأنه كان أكبرهم عمرا، ولكن تأت لحظة المغادرة، هذه اللحظة المؤلمة غاية الألم، يصرخ ويضرب الأرض بقدميه ويبكى بشدة ويظل يردد.
* جدي جدي، أريد أن أظل معك، لا أريد أن أذهب معهم.
يضحك الجد ويأخذة بين أحضانه يقبلة كثيرا ويداعب شعره، يميل عليه يخاطبه كأنني كبير.
* يا ( خالد) يا حبيبي لازم نسمع كلام بابا وماما، هم يحبونك جدا ولا يمكن ولا يصح أن يسافروا من غيرك أنت وإخوتك، من أجل مدرستك، ثم يا حبيبي من أجل أن تشتاق لي وتعود إلى أكبر، سأنتظرك بل سأنتظركم، ويضمني ويضم الجميع بشدة، وينهض مغادرا يدخل حجرته الخاصة، فيما بعد عرفت أنه يطلق عنان دموعه التي لا يريد لها أن تنطلق أمامنا نحن الصغار، نظل أنا وأولاد عمي ( حسن) وعمتي ( جميلة) كل منا ينظر من الزجاج الخلفي للسيارات نرفع أيادينا بالتلويح له والدموع تغسل وجوهنا، الصمت يغلفنا جميعا، خطواتنا بطيئة لا تريد المغادرة، نسمع نداءات الآباء والأمهات والجدة التي هي دائمة مصاحبة لنا ذهابا وإيابا، ورغم صغر عمري كنت أتساءل لماذا نترك الجد وحيدا؟ وللحقيقة لم أصل للإجابة، الجد رجل شديد البساطة بشوش لم نره يوما على هيئة غير هذه، ولكن ربما كما سمعت من أبي وعمي وعمتي أن جدتي( افتخار هانم) التي بها جانب تركي من والدتها، هي لا تحب أن تظل على شاكلة واحدة، وشكل يومي وممل من وجهه نظرها، ومن جهتي لا أقتنع بهذا المبرر، الزوجة زوجة عليها مسئولية تجاه الزوج أيا كانت ظروف حياته، وما عرفه من خلال قراءته أن المرأة التركية رغم شدتها إلا أنها شديدة الاهتمام بأسرتها، يدخلون إلى باطن الطائرة، يهربون من ساعات السفر بالخلود إلى النوم، ومؤكد النوم يعطيهم فسحة لاستعادة بعض أيامهم مع الجد، تصل الرحلة يجدون البرد والصقيع ينتظرهم يلفح وجوههم بعنف وكأنه يصفعهم، كيف يغادرون الدفء إلى الصقيع، فبعد أيام يذهبون إلى مدارسهم الداخلية التي هي أكثر برودة من خارج جدرانها، كل شيء آلي مبرمج، لا مشاعر ولا حنو، تجمعهم بأسرهم علاقات الإجازات التي أيضا بها روتين، الحديث بحساب، الحركة بحساب، لا تفعل هذا، لا تنسى أنك سليل باشوات، مل من سماع هذه العبارات، التي تشنف آذانه كل إجازة، هكذا عاش حياته غريبا رغم كل الرفاهية التي يعيشها، ولكنه يراها رفاهية معلبة مصنوعة لا يوجد بها أي نوع من الألفة الإنسانية والمشاعرية، تأكد أن البرودة شعار دائم لهذه البلاد الباردة، جاب كثيرا من البلاد مع أسرته وجد أن هناك قاسما مشتركا بينهم وهو برودة كل شيء حتى الإنسان، يأخذ حمامه الدافيء أو للحقيقة شديد السخونة، هو يعشق الماء الساخن، يراه يزيل الكثير من الوجع بداخله، يشبهه بأنه أشبه بمزيل الدهون، بعدها يعد كوبا من الحليب الدافيء مع ملعقة عسل أبيض يأتي به وبكميات من مصر، عشق هذا المشروب من جده الذي كان أول من جعله يشربه، يقف على سور الشرفة يتأمل نهر السين، يعشق رؤية جريان المياه بالنهر، يشبه هذا بأنه مثل الحياة لابد من الاستمرار رغم أي شيء، المياه تجري بشكل مستمر بلا توقف، كما بالليل يعشق رؤية الأضواء التي ترتسم على صفحته بأشكال متعددة وبألوان مختلفة لا يمكن لأي رسام مهما كانت قدرته على رسم هذه اللوحة الإلهية البديعة، الجد حال وجوده بباريس دوما يكون هو برفقته، في هذا الصباح جلس كما تعود على الكرسي الهزاز وأخذ يتمايل يمنه ويسره مغمضا عينيه، هذه عادته إذا أراد أن يستعيد مشاهد مرت به حتى لو من سنوات، الذاكرة مخزن للذكريات بشقيها، وكثيرا ما نلجأ إليه نتذكر لحظاتنا التي قد يؤدي تذكرها إلى معالجة بعض شروخ طرأت على دواخلنا من دروس هذه الذكريات، تذكر هذا اليوم الذي مر عليه قرابة الخمس سنوات، حينما هاتفه الجد الذي كان قد تجاوز الثمانين واقترب من التسعين، لم يشك مرضا أبدا، إلا بعض نزلات البرد وما شابه من أمراض تعتري الكل، وجد صوته واهيا بل شديد الوهن، لم يقل يومها إلا جملة واحدة.
* ( خالد) أريدك أن تأت حالا وفي أقرب وقت، أحتاج وجودك، لك الحرية أن تخبرهم أو لا تخبرهم، ما يهمني هو أنت.
إحتار يومها أيخبر الجميع أم لا ؟، ولكن بالنهاية قرر أن يخبرهم حتى لا يواجه بلوم وتعنيف، سارعوا جميعا بالحجز على أول طائرة مغادرة لباريس، أقبلوا على حجرته، وجدوه ممدا على الفراش شاحب الوجه، عروقه نافرة، أخذوا يقبلونه ويسألون عما به، وماذا قال الأطباء، طمأنهم وهو الأحوج للطمأنينة، بعد أن غادروا كل إلى جناحه الخاص، أشار إلى ( خالد) بالانتظار، تبادلوا فيما بينهم نظرات الدهشة، ولكن لم يستطيعوا توجيه أي تساؤل، غادروا، طالبه بإغلاق الباب جيدا ثم العودة للجلوس بجواره حسبما أشار إليه، أمسك بكفه رفعه إلى شفتيه وقبله، تحدث إليه بصوت شديد الخفوت.
* إسمعني جيدا بلا مقاطعة، منذ أكثر من مائة وخمسين عاما جاء جدي( نعمان) إلى هذه القرية، حكوا لي أنها كانت تضم عددا من البيوت لا يتجاوز أصابع اليدين، والغيطان هي الغالب على المكان، الجد كان من النوع الذى يبحث عن الهدوء لا يحب الصخب بألوانه مثل غيره، إشترى مساحات كبيرة من الأرض، وبنى سرايا ليست كبيرة كما تشاهدها الآن، عشق الحياة بها لا يغادرها إلا لواجب إجتماعي أو حفل بالأوبرا أو بأحد المسارح، على عكس جدتي ( بهيجة) التي منذ اليوم الأول وهى تبدي التذمر والتأفف وتبرطم بلغتها التركية المطعمة بالعربية المكسرة، كان أبي الوحيد الذى شارك الجد العشق أما إخوتي ( عزمي ورفيق)، تطبعوا بطبعها، حاول الجد مرارا أن يغير من طباعهم ولم يفلح، لكي يتخلص من هذا ذهب بهم إلى القاهرة وتركهم ببيت يملكه هناك، وكان يذهب إليهم كل أسبوعين يبيت ليلة ويفر عائدا، لأن الليلة كانت كلها جدل ومشاحنات والحاح أن يترك كل شيء ويعود، كيف يرتضي العيش وسط أناس لا تجمعه بهم أي صلة أو حتى تشابه من أي نوع ويترك حياة الرفاهية، صارت زياراته إلى القاهرة التي كنت أصحبه لها تتباعد، أنا أصررت على وجودي معه، عشت بين الناس البسطاء، تصرفاتهم عفوية صادقة، أصدقائي كانوا من أولادهم، لعبت معهم كل ألعاب الطفولة والشباب، أكلت معهم بالحقول وعلى المصاطب، كانوا يخافون علي مثلما أخاف عليهم، بعد سنوات أصرت والدتي على السفر إلى إسطنبول، حيث أهلها وحسب ما قالت لأبي مبررة سفرها، أنها تريد لأولادها أجواء منفتحة بدلا من هذا الجو المغلق بشكل كبير، ولم أفهم لحظتها ما الانفتاح وما هو مغلق، كانت تحضر كل نصف عام لمدة أسبوعين، لا تمكث بالقرية إلا أياما قليلة وتهرب إلى القاهرة أو الإسكندرية بصحبة اخوتى، وأنا كالعادة رافض، حتى أنها لم تعد تسألني عن مصاحبتها، إخوتي فيما بعد رفضوا رفضا نهائيا الحضور، بالتأكيد هذا البعد أوجد حاجزا كبير بيننا، لم نعد نلتقي أو نتجمع على مائدة طعام واحدة، كل الأيام أنا وأبي فقط، ما سأقوله لك أقوله لأن بك تشابه مني، وتصدق والله نفس الجملة قيلت لي من أبي وربما بذات الجلسة التي أنا عليها، وكأن نفس المشهد لابد أن يمر به كل جيل من العائلة، هذه السرايا بدأت صغيرة كما قلت لك ثم قام أبي بالإضافات إليها وهكذا فعلت أنا حتى أصبحت كما ترى، السرايا مع تعاملنا مع الناس أيا كان مستواهم، هم رموز عائلتنا، أعرف تماما عندما يسترد الله وديعته أن أباك وعمك وعمتك سوف يبدأون ببيع كل شيء لأول مشتري دون أن يدركوا قيمه ما يبعونه، لذا كتبت لك هذه السراية حتى تحافظ عليها وأعرف قدرتك على هذا، وإن استطعت شراء ما يبيعونه يكون شيئا طيبا، لا تتغيب عن القرية والسراية كثيرا، إقترب من الناس تجدهم عونا لك، إجعل ( رشوان) واستدع ( جابر) والده إن كان حيا لن يتأخر بالعودة ليكونا ساعدك الأيمن، هم موثوق بهم مثل جدهم، أعرف أني أضع حملا كبيرا على كاهلك، ولكني واثق من أنك تستطيع أن تعيد لعائلتنا مكانتها، هذه السراية يا حبيبي تاريخ، كم من المرات شهدت لقاءات نجوم السياسة متمثلة بالأحزاب، كم من اجتماعات تمت، وكم من سهرات وحفلات أقيمت إرتادها من يسمون أنفسهم علية القوم، تشكلت وزارات هنا، وهيئات أحزاب هنا، واتخذت قرارات هنا بعضها كان جيدا وكثيرا منها كان سببا في ترهل الوضع السياسي والاقتصادي، لا تجعل من أبيك أو عمك قدوة وأقول لك هذا وأنا حزين بل أشعر بانكسار داخلي، هم قبل كل شيء أولادي، كم تمنيت أن يكونوا قريبين من بعض إنسانيا، هم غرباء عن بعض بل بالحقيقة غرباء حتى عن أنفسهم، هم لا تربطهم ببعض سوى علاقات العمل والبيزنس، كل منهما يعيش بجزيرته المنعزلة عن الآخر، يعيشون الرفاهية وملذات رغباتهم، اعرف أن الغربة تبدأ من لحظة نزع جذورك من موطنك ونزع ثياب تاريخك، ولكن صدقني هم ليسوا ناجحين كما يعتقدون، النجاح يا بني هو تذوق الحياة، وهذا لا يتأتى إلا أن تنغمس بها، تنصهر بين أناسها على اختلاف شرائحهم، كن بسيطا بلا تعالى ولا تغتر بمال أو سلطة، الثراء هو الألفة الإنسانية والحياتية، أن تكون واحدا من الناس ومثلهم، تتفتح عيونك على حقيقتها بلا تزييف، أضع أحلاما لم أحققها أمانة بين يديك، عد إلى جذورك وإلى حقيقتك وإلى ثيابك الحقيقية، ولا تنزع مطلقا مبادئك، حاول أن تلم شتات إخوتك وأبناء عمك وعمتك، لا تسيروا على درب جدي وأبي، ولا تستجيبوا لنداءات الغربة، ولكن لا تجبر أحدا أن يأتي بلا رغبة كاملة وبإرادته، إن أتوا ولبوا نداء أجدادهم وعاشوا وتمسكوا بالعيش هنا، والمواءمة بين عملهم وحياتهم، السرايا تكن لكم جميعا، وأنت تفهم مقصدي، عدني بما طلبت رغم ثقتي أنك قادر، أمسكت بيده ووعدته، وارتميت على صدره أبكي، ربنا أعلم وخرجت ضحكة قصيرة وقال.
* الرجال لا تبكي.
لم يكد يمر الشهر إلا كان قد أسلم الروح، من المحزن أن لا يكون الأبناء فى مقدمة مشيعي جثمان أبيهم، حضروا بعد اليوم الثالث من الوفاة، بداعي أن حجز الطيران لم يسعفهم، ولكن الحقيقة أنهم فقدوا الإحساس بحميمية علاقة الأب بأبنائه، هم لا يشعرون بأولادهم ولا يعرفون عنهم الكثير، يكتفون بالاتفاق المادي، وكأن كل الحياة اختصرت بالمال والسلطة، أتت وفود من المعزين من كل مكان، وجهاء مجتمع، سياسيون، وزراء، وفنانون، ولكن اللافت للنظر أن الحزن كان مرتسما على وجوه البسطاء وصار عنوانا لهم، مرت أيام العزاء، أبي وعمي وعمتي وكل الأبناء سارعوا بالمغادرة بعد جلسة جمعتهم يتداولون بها حصة كل منهم من الميراث، وعن نيتهم البيع فهم لا يعرفون شيئا بهذا العالم الذي كان يعيشه الأب ولا ينتوون المعيشة هنا أو حتى المجيء، وعندما جاءت سيرة التخلص من السرايا، أخرجت لهم عقد امتلاك السراية لي كما فعل الجد، أصابتهم الدهشة والخرس ودارت العيون في محاجرها، ولكن لم ينبس أحدهم بحرف، ونهضوا كل منهم يشعرك أنه أصيب بصدمة كبرى، ظللت أنا حتى الأربعين وغادرت بنيه العودة تدريجيا إلى القرية، الأمر كان يحتاج بعض الوقت لإنهاء ارتباطات، عازما على العودة بأقرب وقت ولكن الأمر خرج من يدي، شغلتني أمور العمل ودراسة الأبناء، كنت أعود كل ستة أشهر لمعرفة كيف تسير الأمور ، أتابع مع ( رشوان) كل شيء، يثبت لي أمانته، افتح باب السرايا على مصراعيه، أستقبل الجميع واسمع حكاويهم وشكايتهم، أمنحهم بعض الهدايا البسيطة التي أرى أثرها على الوجوه، ( رشوان) يطلعني على بعض الحالات التي تحتاج لمساعدة لمرض أو لتجهيز أحد الأبناء أو البنات للزواج، أسمع منه ما يضيق له صدري أن أبي أو عمي أو عمتي يقومون ببيع الأراضي بأسعار زهيدة ليؤكدوا جهلهم، ولسعيهم لإكمال نزع كامل جذورهم وملابسهم التي تشير إلى أنهم من هذه القرية، أوصيت ( رشوان) أن يشتري ما يمكن دون الإفصاح عني، وأن تكون العقود باسمه أو اسم أبيه، وقد استطاع دون أن يساورهم الشك بهذا أو حتى التساؤل من أين يأتي بالأموال، بعد وفاة الجد بثلاثة أعوام فاجأني ( رشوان) بطلب المغادرة لأنه لم يعد يتحمل صلف وغرور أولاد عمومتي وتعاليهم عليه، رغم فترات وجودهم القليلة، حاولت كثيراً إثناءه عن هذا، بكى وهو يقول
* والله والله غصب عنى، أنا لا أعرف كيف أعيش بعيدا عن هنا، ولكنه أمر الله، ولكني أبدا لن أنسى ما حييت الباشا وأنت، اعطني فرصة للهدوء قليلا.
لم يكن أمامي إلا موافقته، اخترت أحد أبناء القرية لمتابعة كل شيء وذلك بترشيح من ( رشوان), قررت أن أبني ضريحا لجدى، مسجدا كبيرا، وأن أتقدم بطلب لنقل رفاته إلى الضريح، والحمد لله تم هذا خلال عام، تتالت عودتي مع الأولاد حرصا مني على ترسيخ جذورهم بالقرية والحمد لله نجحت حتى صاروا يطالبون بالعودة نهائيا، ليلة البارحة رأيت جدي بالمنام يربت على كتفي بحنان بالغ، رأيته صاحب وجه وضاء، قال لي كلمات قليلة.
* عد فقد حان وقت العودة والإصلاح، حان وقت أن يعود اسم ( البدوي) لأن يظل على كل الألسنة بحب وذكر حسن، وأنا الآن أنظر من شرفتي على السين مودعا، اليوم سأنهي إجراءات عودتنا، لأكون كما أوصاني الجد، ستعود المصانع التي أغلقت أو بيعت وتوقف إنتاجها، ستعود المستوصفات الطبية، ستعود السرايا مفتوحة دوما أمام الجميع، سأمشى بكل دروب القرية ممسكا بيد أولادي، أقربهم من كل شيء بالقرية، سأضاحك الأطفال الصغار وأمنحهم الحلوى كما كان يفعل الجد، سأجلس بهم على المصاطب أتناول الشاي مع الجميع وأسمع حكاويهم وأوجاعهم، سأذهب بهم إلى الحقول يأكلون الأذرة المشوية، ويهزون أشجار التوت ويصعدون شجر الجميز، ويسمعون غناء الفلاحين وهم يقومون بأعمال الزراعة، سأجعل (رشوان)يجعلهم يركبون الماشية، سأجعلهم يفعلون ما يريدون، سأجعل أهل القرية يفركون أعينهم مرات ومرات دهشة, هل عاد الباشا من جديد، يجب أن نعود للسير على نهج الجد. سأرسل إلى ( رشوان) ومعه والده ( جابر) إن كان حياً ليعود فكل شيء عائد كما عاشه وعشته.
…عيد ميلاد ميت…
باليوم الخامس عشر من يناير وقف ( خالد البدوي) على باب ضريح الجد يستقبل من جاءوا يحتفلون بعيد ميلاد الجد، يجاوره ( رشوان)، أهل القرية يقفون صفوفا، بعضهم يحمل صور الباشا، والبعض يحكى عن مآثره، تلمح البريق عرف طريقه لكل العيون، حشود أتت من كل البلاد لتحتفل بذكرى ميلاد الباشا، حتى أن ( محمد البرنس) وكامل عائلته أتوا، القرآن يغلف المكان ويسود السكون كل شيء، يستمر هذا طيلة النهار، بتصرف الجميع ويتبقى الحفيد وأولاده الصغار، يتكرر الأمر بالثامن والعشرين من سبتمبر، وصار طقسا سنويا دائما، وفي كل مرة يسرع بعدها ( رشوان) إلى الضريح ويجلس القرفصاء، يضع وجهه عليه، تنسال دموعه متمتما.
* والله يا باشا أنت الحي وكلهم ميتون.
كم مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم فى الناس أموات.
أحمد طايل
طنطا
16 سبتمبر2023